التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ٱسْكُنُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيۤئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٦١
فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ
١٦٢
-الأعراف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ٱسْكُنُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ } الآيةُ.
اعلم أنَّ هذه القصة قد تقدَّمت مشروحة في سورة البقرةِ إلاَّ أنَّ بينهما تفاوتاً من وجوه:
أحدها: أنَّهُ عيَّن القائل في سورة البقرة، فقال وإذْ قُلْنا وههنا أبهمه فقال وَإذْ قيلَ.
وثانيها: قال في سورة البقرة "ادخلوا" وقال هاهنا "اسكنوا".
وثالثها: قال في سورة البقرة فَكُلوا بالفاء، وههنا بالواو.
ورابعها: قال هناك رَغَداً وأسقطها ههنا.
وخامسها: قدَّم هناك قوله { وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً } على "وقولُوا حِطَّةٌ" وههنا على العكس.
وسادسها: قال في البقرة
{ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } [البقرة: 58] وههنا "خَطِيئَاتِكُمْ".
وسابعها: قال هناك "وسَنزِيدُ المُحْسنينَ" بالواو وههنا حذفها.
وثامنها: قال في البقرة "فأنزلْنَا" وههنا "فأرْسَلْنَا".
وتاسعها: قال هناك
{ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [البقرة: 58]. وقال ههنا "يَظْلِمُونَ".
وهذه ألفاظٌ لا منافاةَ بينها ألبتة، ويمكن ذكر فوائِدهَا.
أما قوله ههنا: { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ } إعلاماً للسَّامع بأن هذا القائل هو ذاك، وأمَّا قوله هنا "ادْخُلُوا"، وههنا "اسْكُنُوا" فالفرقُ أنَّهُ لا بدَّ من دخول القريَةِ أوَّلاً، ثم سكونها ثانياً.
وأمَّا قوله هناك " فَكُلُوا" بالفاءِ وههنا بالواوِ، فالفرق أنَّ الدُّخُولَ حالة مخصوصة، كما يوجد بعضها ينعدم، فإنَّهُ إنَّما يكون داخلاً في أوَّل دخوله.
وأمَّا بعد ذلك، فيكون سكنى لا دخولاً، وإذا كان كذلك فالدَّخُولُ حالة منقضية زائلة وليس لها استمرار، فحسن ذكر فاء التعقيب بعده، فلهذا قال
{ ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ فَكُلُواْ } [البقرة: 58] وأمَّا السُّكْنَى فحالة مستمرة باقية فيكون الأكل حاصلاً معها لا عقيبها فحل الفرق.
وأمَّا قوله هناك "رغَداً" ولم يذكره هنا؛ لأنَّ الأكْلَ عقيب دخول القرية يكون ألذ؛ لأنَّهُ وقت الحاجةِ الشديدةِ، فلذلك ذكر رَغَداً وأما الأكل حالة السُّكنى، فالظَّاهِرُ أنَّ الحاجة لا تكونُ شديدة.
وأمَّا قوله هناك: { وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ } وههنا على العكس، فالمرادُ التَّنبيهُ على أنَّهُ يحسن تقديم كل واحد منهما على الآخر، لأنَّ المقصُودَ منهما تعظيم اللَّهِ تعالى وإظهار الخُضُوعِ، وهذا لا يتفاوتُ الحال فيه بحسب التَّقديم والتَّأخير.
قال الزمخشريُّ: التَّقديمُ والتأخيرُ في وقُولُوا وادخُلُوا سواء قدَّمُوا "الحِطَّة" على دخول الباب، أو أخَّرُوَها فهم جامعون في الإيجادِ بينهما.
قال أبُو حيَّان: وقوله: سواءٌ قدَّمُوا أو أخَّرُوها تركيب غير عربي، وإصلاحه سواء أقدَّمُوا أمْ أخَّرُوا، كما قال تعالى:
{ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا } [إبراهيم: 21].
فصل
قال شهابُ الدِّين: يعني كونه أتى بعد لفظ "سواء" بـ "أوْ" دون "أمْ"، ولم يأتي بهمزة التسوية بعد "سواء" وقد تقدَّم أنَّ ذلك جائز، وإن كان الكثيرُ ما ذكره وأنه قد قرىء { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } [البقرة: 6] والرَّدُّ بمثل هذا غير "طائل".
وأما قوله في البقرة { خَطَايَاكُمْ } وههنا "خَطِيئَاتِكُم" فهو إشارة على أنَّ هذه الذنوب سواء كانت قليلة، أو كثيرة، فهي مغفورةٌ عند الإتيان بهذا الدُّعاء.
وأما قوله هناك "وسَنَزِيدُ" بالواوِ، وههُنَا حذفها ففائدته أنه استئناف، كأنَّ قائلاً قال: وماذا حصل بعد الغُفْرانِ؟
فقيل له: "سَنَزِيدُ المُحْسنينَ".
وأما قوله هناك "فأنَزلْنَا"، وههُنَا "فأرْسَلْنَا" فلأنَّ الإنزالَ لا يشعر بالكَثْرَةِ، والإرسَال يشعر بها، فكأنَّهُ تعالى بدأ بإنزال العذابِ القليل، ثمَّ جعله كثيراً، وهو نظيرُ الفرقِ بين قوله
{ فَٱنبَجَسَتْ } [الأعراف: 160] وقوله { فَٱنفَجَرَتْ } [البقرة: 60].
وأمَّا قوله هناك
{ عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [البقرة: 59]، وههُنَا "عَلَيْهِمْ" فهو إيذان بأنَّ هؤلاء المضمرون هم أولئك، وأمَّا قوله هَهُنَا "يَظْلمُونَ" وهناك "يَفْسُقُونَ" فلأنهم موصوفون بأنهم كانوا ظالمينَ لأنَّهم ظلموا أنفسهم، وبكونهم فاسقين، لأنَّهُمْ خَرَجُوا عن طاعةِ اللَّهِ.
قوله: { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيۤئَاتِكُمْ } قد تقدَّم الخلافُ في "نَغْفِر" وأمَّا "خَطِيئَاتِكُمْ" فقرأها ابن عامر "خَطِيئَتُكُم" بالتَّوحيد، والرَّفع على ما لم يُسَمَّ فاعله، والفرض أنه يقرأ "تغفرْ" بالتَّاء من فوق. ونافع قرأ "خَطِيئَاتِكُم" بجمع السَّلامة، رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه؛ لأنَّهُ يقرأ "تُغْفرْ لكم" كقراءة ابن عامر.
وأبو عمرو قرأ "خَطَايَاكُم" جمع تكسير، ويَقْرأ "نَغْفِرْ" بنون العظمة. والباقون "نَغْفِرْ" كأبي عمرو، "خَطِيئَاتِكُمْ" بجمع السَّلامة منصوباً بالكسرة على القاعدة. وفي سورة نوح قرأ أبو عمرو "خطاياهم" بالتكسير أيضاً، والباقون بجمع التصحيح.
وقرأ ابنُ هرمز "تُغْفَرْ" بتاءٍ مضمومة مبيناً للمفعول، كنافع، "خَطَايَاكُم" كأبي عمرو، وعنه "يَغْفِرْ" بياء الغيبة، وعنه "تَغْفِر" بفتح التَّاءِ من فوق، على معنى أنَّ "الحِطَّة" سببٌ للغفران، فنسب الغفران إليها.