التفاسير

< >
عرض

وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ
٤
-الأعراف

اللباب في علوم الكتاب

لمَا أُمر الرَّسولُ بالإنذار والتَّبليغ وأمر القَوْمُ بالقبُول والمتابعة ذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عنها من الوعيد.
وفي "كَمْ" وجهان:
أحدهما: أنَّهَا في موضعِ رفع بالابتداء، والخبرُ الجُمْلَة بعدها، و "مِنْ قَرْيَةٍ" تمييزٌ، والضمير في "أهْلَكْنَاهَا" عائد على معنى "كَمْ"، وهي هنا خبرية للتَّكْثيرِ، والتَّقدير: وكثير من القرى أهْلَكْنَاهَا.
قال الزَّجَّاجُ: و "كَمْ" في موضع رَفْع بالابتداءِ أحسن من أن تكون في موضع نَصْبٍ؛ لأن قولك: "زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ" أجود من قولك: "زَيْداً ضربتُهُ" بالنَّصْب، والنَّصْبُ جيِّدٌ عربيٌّ أيضاً لقوله تعالى:
{ { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } } [القمر: 49]، ونقل أبُو البقاءِ عن بعضهم أنه جعل "أهْلَكْنَاهَا" صفة لـ "قرية"، والخبر قوله: "فَجَاءَها بَأسُنَا" قال: وهو سَهْوٌ؛ لأن "الفَاءَ" تمنع من ذلك.
قال شهابُ الدِّين: ولو ادَّعى مدَّعٍ زيادَتَها على مذهب الأخفش لم تُقبل دَعْوَاهُ؛ لأن الأخفش إنَّمَا يَزِيدُهَا عند الاحتياج إلى زيادتها.
الثاني: أنَّهَا في موضع نَصْبٍ على الاشتغال بإضمار فعل يفسِّره ما بعده، ويقدَّرُ الفِعْلُ متأخِّراً عن "كم"؛ لأن لها صدر الكلام، والتَّقديرُ: وكم من قريةٍ أهلكناها [أهلكناها]، وإنَّمَا كان لها صدر الكلامِ لوَجْهَيْنِ:
أحدهما: مضارعتها لـ "كم" الاستفهامية.
والثاني: أنَّهَا نقيضة "رُبَّ"؛ لأنها للتكثير و "رُبَّ" للتَّقْلِيلِ فحُمل النقيضُ على نَقِيضِهِ كما يحملون النظير على نظيره، ولا بد من حَذْفِ مُضافٍ في الكلام لقوله تعالى: { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } فاضطرَرْنَا إلى تَقْدير محذوفٍ؛ لأن البَأسَ لا يليق بالأهْلِ، ولقوله: { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } فعاد الضمير إلى أهل القرية، وأيضاً فلأن التَّحْذِيرَ لا يقع إلاَّ للمُكَلَّفينَ، وأيضاً والقَائِلَةُ لا تَلِيقُ إلاَّ بالأهْلِ.
ثم منهم مَنْ قدَّره قبل قرية أي: كم من أهْلِ قَريةٍ، ومنهم مَنْ قدَّرَهُ قبل "ها" في أهلكنَاهَا أي: أهْلَكْنَا أهلها، وهذا ليس بِشَيءٍ؛ لأن التَّقاديرَ إنَّمَا تكُونُ لأجل الحَاجَةِ، والحاجةُ لا تَدْعُو إلى تَقْديرِ هذا المُضَافِ في هَذَيْنِ الموضِعَيْنِ المذكُوريْنِ؛ لأن إهلاكَ القرْيَة يمكنُ أن يقعَ عليها نَفْسِهَا، فإن القُرى قد تُهْلَكُ بالخَسْفِ والهَدْمِ والحريقِ والغَرَقِ ونحوه، وإنما يحتاج إلى ذلك عند قوله: "فَجَاءَهَا" لأجل عَوْدِ الضَّمير من قوله: "هُمْ قَائِلُونَ" عليه، فيقدَّرُ: وكم من قَرْيَةٍ أهلكناها فَجَاءَ أهلها بأسنا.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: فإن قلت: هل يقدَّرُ المُضَافُ الذي هو الأهل قبل القَرْيَةِ، أو قَبْلَ الضَّمير في "أهلكْنَاهَا".
قلتُ: إنَّمَا يُقدَّرُ المُضَافُ للحاجَةِ، ولا حَاجَةَ فإن القريَةَ تَهْلَكُ، كما يَهْلَكُ أهلها وإنَّما قَدَّرْنَاهُ قبل الضمير في "فَجَاءَهَا" لقوله: { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } وَظَاهِر الآية: أنَّ مجيءَ البَأسِ بعد الإهلاكِ وعقيبه؛ لأنَّ الفاءَ تعطي ذلك لكن الواقعَ إنما هو مجيءُ البَأسِ، وبعدَهُ يقعُ الإهلاك.
فمن النُّحَاةِ من قال: الفاء تأتي بمعنى "الوَاوِ" فلا ترتب، وجعل من ذلك هذه الآيةَ، وهو ضَعِيفٌ، والجمهور أجَابُوا عن ذلك بوجهين:
أحدهما: أنَّهُ على حذف الإرادة أي: أرَدْنَا إهلاكها كقوله:
{ { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } } [المائدة:6]، { { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ } [النحل: 98]، "إذَا دَخَل أحَدُكُمُ الخَلاء فَلْيُسَمِّ [اللَّهَ]"، وقيل: حكمنا بِهَلاكِهَا.
الثاني: أنَّ معنى "أهْلَكْنَاهَا" أي: خذلناهُم ولم نوفقهم فنشأ عن ذلك هَلاَكُهُم، فعبر بالمسَّبب عن سَبَبِهِ وهو بابٌ واسع. وثَمَّ أجوبة ضعيفة؛ منها: أنَّ الفاء هاهنا تفسيرية نحو: "تَوَضَّأ فغسل وجهه ثم يديه" فليست للتعقيب ومنها أنَّها للتَّرتيب في القَوْلِ فقط كما أخبر عن قرى كثيرة أنَّها أهلكها [ثم] قال: فكان من أمرها مجيء البأس ومنها ما قاله الفرَّاءُ، وهو: أن الإهلاكَ هو مجيء البَأسِ، ومجيءُ البأسِ هو الإهلاكُ، فلما كانا مُتلازِمَيْنِ لم يبال بأيِّهما قدَّمت في الرتبة، كقولك: "شتمني فأساء"، وأساءَ فَشَتَمَنِي، فالإساءَةُ والشَّتْمْ شيءٌ واحدٌ، فهذه ستَّةُ أقوال.
واعلم أنَّه إذا حُذِفَ مُضافٌ، وأقيم المضافُ إليه مقامَهُ جاز لك اعتباران:
أحدهما: الالتفاتُ إلى ذَلِكَ المحذوفِ.
والثاني - وهو الأكْثَرُ - عَدمُ الالتفاتِ إليه، وقد جُمع الأمرانِ هنا، فإنَّهُ لم يُراعِ المحذوفَ في قوله: "أهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا" وراعاهُ في قوله: { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ }، هذا إذا قدَّرْنَا الحذفَ قبل "قَرْيَةٍ"، أمَّا إذا قَدَّرْنَا الحذف قبل ضمير "فَجَاءَهَا" فإنَّهُ لم يراعِ إلاَّ المحذوفَ فقط وهو غيرُ الأكْثَرِ.
قوله: "بَيَاتاً" فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ:
أحدها: [أنَّهُ] منصوب على الحال وهو في الأصل مصدر، يقال: بَاتَ يَبِيتُ بيْتاً وبيتة وبَيَاتاً وبَيْتُوتَةً.
قال اللَّيْثُ: "البَيْتُوتَةُ": "دخولُكَ في اللَّيْلِ" فقوله: "بَيَاتاً" أي: بَائِتينَ وجوَّزوا أن يكون مفعولاً لهُ، وأنْ يكونَ في حكم الظَّرْفِ.
وقال الوَاحِديُّ: قوله: "بَيَاتاً" أي: ليلاً وظاهرُ هذه العِبَارة أنْ تكون ظَرْفاً، لولا أن يُقَالَ: أراد تَفْسِير المعنى.
قال الفرَّاءُ: يقالُ: بات الرَّجُلُ يَبيتُ بَيْتاً، وربَّمَا قالوا: بَيَاتاً، وقالوا: سُمِّيَ البيتُ بَيْتاً؛ لأنَّهُ يُبَاتُ فيه.
قوله: { أَوْ هُمْ قَآئِلُون } هذه الجملةُ في محلِّ نصب نَسَقاً على الحال، و "أو" هنا للتَّنْوِيع لا لِشَيءٍ آخر كأنَّهُ قيل: آتاهُ بأسُنَا تارةً لَيْلاً كقوم لوطٍ، وتَارَةً وَقْتَ القَيْلُولَةِ كقوم شُعَيْبٍ. وهل يحتَاجُ إلى تَقْديرِ واوِ حالٍ قَبْلَ هذه الجُمْلَةَ أم لا؟ خلافٌ بين النَّحْوِيِّينَ.
قال الزمخشريُّ: "فإن قُلْتَ: لا يُقَالُ: جاءَ زيدٌ هو فارسٌ" بغيرِ واوٍ فما بالُ قوله تعالى: { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ }؟
قلتُ: قدَّر بعض النَّحويين الواو محذوفَةً، وردَّهُ الزَّجَّاج وقال: لو قلتَ: جاءني زيدٌ رَاجِلاً، أو هو فارس، أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج إلى "واو"؛ لأن الذِّكر قد عاد على الأوَّل. والصَّحِيحُ أنَّها إذا عُطفَتْ على حالٍ قبلها حذفت الواو استثقالاً؛ لاجتماع حرفي عطف؛ لأن واو الحال [هي] واو العطف استُعِيرَتُ للوصل، فقولك: "جاء زَيدٌ راجلاً أو هو فارس" كلامٌ فصيح وارد على حدِّه، وأمَّا "جاءني زَيْدٌ هو فارس" فخبيث.
قال أبو حيَّان: أما [بعضُ النَّحويين الذي أبهمه] الزمخشريُّ فهو الفرَّاءُ، وأما قول الزَّجَّاج: كلا التمثيلين لم يحتج فيه إلى الواو؛ لأن الذِّكر قد عاد على الأوَّلِ ففيه إبْهَامٌ وتعيينه أنَّهُ يمتنعُ دخولها في المثالِ الأوَّلِ [ويجوز في المثال] الثاني؛ فليس انتفاءُ الاحتياجِ على حدٍّ سواء؛ لأنه في الأوَّل لامتناع الدُّخُولِ، وفي الثاني لكثرتِهِ لا لامتناعه.
قال شهابُ الدِّين: أمَّ امتناعُهَا في المثالِ الأوَّلِ؛ فلأن النَّحْويين نَصُّوا على أنَّ الجملة الحاليَّة إذا دَخَلَ عليها حرفُ عطفٍ امتنع دخولُ واوِ الحالِ عليها، والعلَّةُ فيه المشَابَهَةُ اللَّفظيَّةُ؛ ولأن واو الحال في الأصل عاطفةٌ، ثم قال أبُو حيَّان. وأمَّا قولُ الزمخشريِّ فالصَّحيحُ إلى آخره، فتعليلُهُ ليس بصَحِيحٍ؛ لأنَّ واوَ الحال ليست بحرف عَطْفِ فيلزم من ذكرها اجتماعُ حَرْفَي عَطْفٍ؛ لأنَّها لو كانت حرف عطفٍ للزم أن يكونَ ما قَبْلَهَا حالاً، حتى يعطف حالاً على حالٍ، فمجيئها فيما لا يمكن أن يكُونَ حالاً دليل على أنَّهَا ليست واو عَطْفٍ، ولا لُحظ فيها معنى واوِ عَطْفٍ تقُولُ: "جاء زيدٌ، والشمسُ طالِعَةٌ" فجاءَ زَيْدٌ ليس بحالٍ فيعطف عليها جُمْلَة حالٍ، وإنَّمَا هذه الواوُ مغايرة لواو العَطْفِ بكل حالٍ، وهي قسمٌ من أقسام الواو كما تأتي للقسم، وليستْ فيه للعَطْفِ كما إذا قلت: "واللَّه لَيَخْرُجَنَّ".
قال شهابُ الدِّين: أبُو القَاسِم لم يدَّعِ في واو الحال أنَّها عاطفة، بل يدَّعِي أنَّ أصلها العَطْفُ، ويدلُّ على ذلك قوله: استُعِيرَتْ للوصول، فلو كانت عَاطِفَةً على حالِهَا لما قَالَ: اسْتُعِيرَتْ فَدَلَّ قوله ذلك على أنَّها خرجت عن العطف، واسْتُعْمِلَتْ لمعنى آخر لكنها أعطيت حكم أصلها في امْتِنَاعِ مجامَعَتِهَا لعاطفٍ آخر.
وأمَّا تسمِيَتُهَا حرف عطف، فباعْتِبَارِ أصْلِهَا ونَظِيرُ ذلك أيضاً واو "مع" فإنَّهم نَصُّوا على أنَّ أصلها واوُ عَطْفٍ، ثمَّ استعملتْ في المعيَّةِ، فكذلك واوُ الحَالِ، لامتناعِ أن يكُونَ أصْلُهَا واوَ العطف.
ثم قال أبُو حيَّان: وأمّا قوله "فَخَبِيثٌ" فليس بِخَبِيثٍ؛ وذلك أنَّهُ بَنَاهُ على أنَّ الجملة الحالِيَّة إذا كانت اسميَّةً، وفيها ضميرُ ذي الحَالِ فحذفُ الواوِ منها [شاذٌّ] وتبع في ذلك الفرَّاء، وليس بِشَاذٍّ بل هو كثيرٌ في النَّظْمِ والنَّثْرِ.
قال شهابُ الدِّين: قد سبق أبا القاسم في تسمية هذه الواو حرف عَطْفٍ الفرَّاءُ، وأبُو بَكْرٍ بْنُ الأنْبَارِيِّ.
قال الفرَّاءُ: { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } فيه واو مُضْمَرَةٌ، المعنى: أهلكناها فَجَاءَهَا بَأسُنَا بَيَاتاً أو هم قائلون فاستثقلوا نسقاً على أثَرِ نَسَقٍ، ولو قيل لكَانَ صواباً.
قلتُ: قد تقدَّم أنَّ الشَّيخَ نقل أنَّ الواوَ ممتنعةٌ في هذا المثال، ولم يَحكِ خِلافاً، وهذا قَوْلُ الفرَّاءِ: "ولو قيل لكان صواباً" مُصَرِّحُ بالخلاف له.
وقال أبُو بَكْرٍ: أضْمِرَتْ واوُ الحالِ لوُضُوحِ معناها كما تَقُولُ العرب: "لقيتُ عَبْدَ الله مُسْرعاً، أو هو يَرْكُضُ" فَيَحْذِفُونَ الواوَ لأمْنِهمُ اللَّبس، لأن الذِّكْرَ قد عَادَ على صاحب الحال، ومن أجل أنَّ "أو" حرف عطف والواوُ كَذلِكَ، فاسْتَثْقَلُوا جمعاً بين حرفين من حروفِ العَطْفِ، فَحَذَفُوا الثَّانِي.
قال شهابُ الدِّين: فهذا تَصْرِيحٌ من هذين الإمَامَيْنِ بما ذكره أبُو القَاسِم، وإنما ذكرتُ نص هذين الإمَامَيْنِ؛ لأعلم اطلاعه على أقوال النَّاسِ، وأنَّهُ لا يأتي بغير مُصْطَلحِ أهْلِ العلم كما يرميه به غير مرَّةٍ.
و "قَائِلُونَ" من القَيْلُولَةِ. يقال: قَالَ يَقِيلُ [قَيْلُولَةً] فهو قَائِلٌ كـ "بائع" والقيلُولَةُ: الرَّاحَةُ والدعَةُ في الحرِّ وسط النهار، وإن لم يكن معها نَوْمٌ.
وقال اللَّيث: هي نَوْمَةُ نِصْفِ النَّهَارِ.
قال الأزْهَرِيُّ: " القيلولة: الرَّاحَةُ، وإن لم يكن فيها نَوْمٌ بدليل قوله تعالى:
{ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } } [الفرقان: 24]، والجنَّةُ لا نَوْمَ فيها".
قال شهابُ الدِّينِ: "ولا دليلَ فيما ذَكَرَ؛ لأن المقيل هنا خرج عن موضعه الأصْلِيِّ إلى مُجَرَّدِ الإقامة بدليل أنَّهُ لا يراد أيضاً الاستراحة في نِصْفِ النَّهَارِ في الحر فقد خَرَجَ عن موضوعه عندنا وعندكم إلى ما ذكرنا، والقَيْلُولَةُ مصدرٌ ومثلها: القَائِلَةُ والقيلُ والمَقِيلُ".
فصل في المراد بالآية
معنى الآية أنهم جَاءَهُم بَأسُنَا، وهم غير متوقِّعين له، إمَّا ليلاً وهم نَائِمُونَ، أو نهاراً وهم قَائِلُون، والمُرَادُ أنَّهُم جاءهم العذابُ على حين غَفْلَةٍ منهم، من غير تقدُّم أمارة تدلُّهم على نزول ذلك العذاب مكانه، قيل لِلْكُفَّارِ: لا تغتروا بأسباب الأمْنِ والرَّاحةَ، فإنَّ عذاب الله إذا وقع وقع دفعة من غير سبق أمارة.