التفاسير

< >
عرض

ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ
٥٥
-الأعراف

اللباب في علوم الكتاب

لمَّا ذكر الدَّلائلَ الدَّالة على كمالِ القُدْرَةِ، والحكمة، والرَّحْمَةِ أتبعه بذكر الأعْمَال اللاَّئقةِ بتلك المعارفِ، وهو الاشتغالُ بالدُّعَاءِ والتَّضَرُّع، فقوله: "تَضَرُّعاً وخُفْيةً" نُصِبَ على الحال: أي: متضرعين مُخْفين الدُّعَاءَ ليكون أقْرَبَ إلى الإجَابَةِ. ويجوزُ أن ينتصبا على المصدرِ، أي: دعاءَ تضرّعٍ وخُفْيَةٍ.
وقرأ أبُو بَكْرٍ: "خِفْية" بكسر الخاء، وقد تقدَّم ذلك في الأنعام إلا أنَّ كلام أبي عليٍّ يُرْشد إلى أنَّ "خِفْيَةً" بالكسر بمعنى الخَوْفِ، وهذا إنَّما يَتَأتَّى على ادِّعاءِ القَلْب أي يُعتقد تقدم اللاَّم على العَيْنِ وهو بعيدٌ؛ لأنَّهُ كان يَنْبَغِي أنْ تعود الواو إلى أصلها، وذلك أن "خِفْية" ياؤُهَا عن واو لسكونها وانكسار ما قبلها، [ولمَّا أخِّرَت الواوُ تحرَّكتْ، وسُكِّن ما قبلها،] إلاَّ أن يقال: إنَّهَا قلبت متْرُوكَةً على حالها.
وقرأ الأعمش "وخِيْفة" وهي تؤيِّدُ ما ذكره الفَارِسِيُّ، نقل هذه القراءة عنه أبو حَاتِمٍ.
قوله: { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } قرأ ابن أبي عَبْلَة "إنَّ اللَّه" أتى بالجلالةِ مكان الضَّميرِ، والمُرَادُ بالتَّضَرُّعِ: التَّذَلُّلُ والاستكانة، وبالخفية: السِّرُّ.
قال الحسنُ: بين دعوة السِّرِّ، ودعوة العلانيةِ سبعون ضعفاً، ولقد كان المُسْلِمُونَ يجتهدون في الدُّعَاءِ، وما يسمع لهم صوت، إلاَّ هَمْساً بينهم وبين ربهم، وذلك أنَّ الله يقول: { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً }، وإنَّ الله ذكر عبدهُ زكريا، ورضي فعله فقال:
{ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } [مريم: 3].
وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
"دَعْوَةُ السِّرِّ تَعْدِلُ سَبعِيْنَ دَعْوَة في العَلاَنِيَةِ" ، وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: "خَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ" وروى أبو موسى الأشعريُّ - رضي الله عنه - أنَّهُم كانُوا في غزاة فأشْرَفُوا على وادٍ فجعلُوا يكبِّرون ويهلِّلُونَ رَافِعِي أصواتهم، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: "ارْبعُوا على أنفُسِكُمْ فإنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ، ولا غَائِباً، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعاً قَرِيباً وإنَّهُ لَمَعَكُمْ" .
واختلفوا في أنَّ الأفضل الدُّعاء خفيةً، أو علانيةً؟ فقيل: الإخفاءُ أفْضَلُ لهذه الآية ولقوله تعالى: { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } [مريم: 3]، ولما تقدَّم، ولأنَّهُ مُصون عن الرياء.
وقال آخرون: العلانيَةُ أفضلُ؛ لترغيب الغَيْرِ في الاقتداء به.
وقال آخرونَ: إن خَافَ على نفسه الرِّيَاءَ؛ فالإخفاءُ أفضلُ وإلاَّ فالعلانية.
فصل في بيان شبهة منكري الدعاء
من النَّاسِ من أنكر الدُّعاء، واحتج على صحَّة قوله بوجوه:
الأول: أنَّ المطلوب بالدُّعاء إن كان معلوم الوقوع، كان واجب الوُقُوع؛ لامتناع وقُوع التَّغير في علم الله تعالى، وما كان واجبَ الوُقُوع لم يكن في طَلَبِهِ فائدةٌ، وإن كان معلومَ اللاوقوع؛ كان ممتنع الوقوع فلا فائدة في طلبه أيضاً.
الثاني: أنَّهُ تعالى: إن كان قد أراد في الأزَلِ إحْدَاثَ ذلك الشيء فهو حاصلٌ سواءٌ كان هذا الدُّعَاء أو لم يكن، وإنْ كان أرَادَ في الأزَلِ ألاَّ يعطيه، فهو ممتنعٌ الوقوع، فلا فائِدَةَ في الطَّلَبِ، وإن قلنا: إنَّه ما أراد في الأزَلِ ذلك الشيء لا وجوده ولا عدمه، ثم إنَّهُ عند ذلك الدُّعَاءِ صار مُرِيداً له لَزِمَ وقوع التَّغير في ذاتِ الله، وفي صفاته، وهو مُحالٌ، وعلى هذا التقدير يصيرُ إقْدَامُ العبد على الدُّعاء عِلَّةً لحدوث صِفَةٍ في ذات الله - تعالى - فيكون العبد متصرِّفاً في صفة اللَّهِ - تعالى - بالتَّبْديلِ والتَّغْيير، وهو محال.
الثالث: أنَّ المَطْلُوبَ بالدُّعاء إن اقتضت الحكمة والمصلحة إعطاءَه، فهو تعالى يُعْطِيهِ من غير هذا الدُّعاء؛ لأنَّهُ منزَّهٌ عن أن يكون بَخِيلاً، وإن اقْتَضَتِ الحكمةُ مَنْعَهُ فهو لا يطعيه سواء أقْدَمَ العَبْدُ على الدُّعَاءِ، أو لم يُقْدِم عليه.
الرابع: أنَّ الدُّعَاءَ غير الأمر، ولا تَفَاوُتَ بين البَابَيْنِ إلا كون الدَّاعي أقَلَّ رتبةْ، وكون الآمر أعلى رُتْبَةً، وإقدام العبد على أمر الله سُوءُ أدَبٍ وإنه لا يجوز.
الخامس: الدُّعَاءُ يُشْبِهُ ما إذا أقْدَمَ العَبْدُ على إرشاد ربِّه وإلهه إلى فعل الأصْلَح والأصْوَبِ، وذلك سوءُ أدبٍ، أو أنَّهُ ينبه الإله على شيءٍ ما كان منتبهاً له، وذلك كُفْرٌ، وأنَّ اللَّه تعالى قصَّرَ في الإحسان والفَضْلِ، وذلك جهلٌ.
السادس: أنَّ الإقدام على الدُّعاء يدلُّ على كون العَبْدِ غير راضٍ بالقضاءِ، إذْ لو رَضِيَ بما قضاه اللَّهُ عليه لترك تصرّفَ نفسه، ولما طلب من الله شيئاً على التَّعيين، وترك الرِّضَا بالقضاء من المنكرات.
السابع: روي أنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام قال حَاكياً عن اللَّهِ - تعالى -
"مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألَتِي أعْطَيْتُهُ أفْضَلَ ما أُعْطي السَّائلينَ" وذلك يدلُّ على أنَّ الأوْلَى ترك الدُّعَاءِ.
الثامن: أنَّ علم الله - تعالى - محيطٌ بحاجة العبد، والعبدُ إذا علم أن مَوْلاَهُ عالم باحتياجه فَسَكَتَ ولم يذكر تلك الحاجة، كان ذلك أدْخَلَ في الأدَبِ، وفي تعظيم المولى، ممَّا إذَا أخذ يشرح كيفيَّة تلك الحاجةِ، وإذا كان الحالُ على هذا الوَجْهِ في الشاهد؛ وجَبَ اعتبار مثله في حقِّ الله - تعالى -، وكذلك نُقل أن الخليل - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - لمَّا وضع في المَنْجَنيقِ للرّمي إلى النَّارِ قال له جبريلُ - عليه السَّلامُ - "ادْعُ ربَّكَ"، فقال الخليل - عليه السَّلام -: "حسبي من سؤالي علمه بحالي".
والجوابُ: أنَّ الدُّعَاءَ نوعٌ من أنواع العبادةِ، والأسئلةُ المذكورة واردة في جميع أنواع العباداتِ، فإنَّهُ يقال: إن كان هذا الإنسان سعيداً في علم الله فلا حاجة إلى الطَّاعات والعبادات، وإن كان شقِيّاً في علمه؛ فلا فائدة في تلك العبادات، ويجبُ أيضاً ألاَّ يُقْدِمَ الإنسانُ على أكل الخُبْزِ، وشرب الماء؛ لأنَّهُ إن كان شبعاناً في علم اللَّه فلا حاجة إلى أكل الخبز، وإن كان جَائِعاً فلا فائدة في أكل الخبز، وكما أنَّ هذا الكلامَ باطلٌ؛ فكذا فيما ذكروه، بل نقول: المقصودُ من الدُّعَاءِ معرفةُ ذلَّةِ العبوديَّة، ومعرفة عزِّ الرُّبوبيَّةِ، وهذا هو المقصودُ الأعلى من جميع العِبَادَاتِ؛ لأنَّ الدَّاعِي لا يقدم على الدُّعَاءِ إلا إذا عرف من نفسه كَوْنَهُ محتاجاً إلى ذلك المَطْلُوب، وكونه عَاجِزاً عن تحصيله، وعرف من ربِّه، وإلهه أنَّهُ يسمعُ دُعَاءهُ، ويعلم حاجته، وهو قادرٌ على دفع تلك الحاجة، فإذَا كان الدُّعَاءُ مستجمعاً لهذين المقامين كان الدُّعَاءُ أعظم العِباداتِ، ولهذا قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
"الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادةِ" .
قوله: { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } أجمع المُسْلِمُونَ على أنَّ المحبة صفة من صفات اللَّه - تعالى - واتَّفَقُوا على أن ليس معناها شهوة النفس وميل الطَّبْعِ، وطلب التَّلَذُّذِ بالشَّيء؛ لأنَّ كل ذلك في حقِّ الله - تعالى - محالٌ، واختلفوا في تفسير المحبَّة في حقِّ الله - تعالى - فقيل: هي عبارة عن إيصال الثَّوابِ، والخير إلى العبد، والمراد بـ "المُعْتَدينَ" المجاوزين ما أمِرُوا به.
قال الكلبيُّ وابن جريج: من الاعتداء رَفْعُ الصَّوتِ في الدُّعَاءِ.
وقال أبُو مِجْلَزٍ: هم الذين يسألون منازل الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام -.
روي أنَّ عبدَ الله بْنَ مُغفَّل سمع ابنه يقول: اللَّهُمَّ إني أسألك القَصْرَ الأبْيَضَ عن يمين الجَنَّةِ إذا دخلتها فقال: يا بني سل اللَّه الجَنَّةَ، وتعوَّذ به من النَّارِ، فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سَيَكُونَ فِي هَذِهِ الأمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ في الظُّهُورِ والدُّعَاءِ.
وقال عَطِيَّةُ: هم الَّذين يدعون على المُؤمنينَ، فيما لا يحل فيقولون: "اللَّهُمَّ أخْزِهم اللَّهُمَّ الْعَنْهُم".