التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ
٨٦
-الأعراف

اللباب في علوم الكتاب

يجوز أن تكون "الباء" على حالها من الإلصاق أو المصاحبة، أو تكون بمعنى "في" يقال: قَعَدَ لَهُ بمكان كذا، وعلى مكان كذا، وفي مكان كذا، فتتعاقب هذه الحروف في هذا الموضع لتقارب معانيها، فقعد بمكان: الباء للإلصاق، وقد التصق بذلك المكان، و "على" للاستعلاء، وقد علا ذلك المكان، و "في" للحلول، وقد حلّ ذلك المكان.
و "تُوعَدُونَ"، و "تَصُدُّون"، و "تَبْغُونَ" هذه الجمل أحوال [أي]: لا تَقْعُدُوا مُوْعدين وصادِّين وباغين.
ولم يذكر الموعد له لِتَذْهَبَ النَّفسُ كلَّ مذهبٍ: ومفعول "تصدُّون"مَنْ آمَن".
قال أبُو البقاء: "مَنْ آمَنَ" مفعول "تَصُدُّونَ" لا مفعول "تُوعدُونَ"، إذْ لو كان مفعولاً للأوَّل لقال: "تَصُدُّونَهُم"، يعني أنَّه لو كان كذلك لكانت المسألة من التَّنازع، وإذا كانت من التنازع وأعْمَلْتَ الأولَ لأضْمَرْتَ في الثاني فكنت تقول: "تَصُدُّونهم" لكنه ليس القرآن كذا، فدل على أن "تُوعَدُونَ" ليس عاملاً فيه، وكلامُه يحتمل أنْ تكون المسألة من التَّنازع - ويكون ذلك على إعمال الثاني، وهو مختار البصريين وحذف من الأوَّل - وألاَّ تكون وهو الظَّاهر.
وظاهرُ كلام الزمخشري: أنَّهَا من التَّنَازُع، وأنَّهُ من إعمال الأوَّل، فإنَّهُ قال: فإن قلت: إلاَمَ يَرْجِعُ الضَّميرُ في "من آمَنَ بِهِ"؟
قلتُ: إلى كلِّ صراطٍ، تقديره: تُوْعِدون من آمن به وتَصُدُّون عنه، فوضعَ الظَّاهر الذي هو "سبيل الله" موضع المضمر زيادة في تقبيح أمرهم.
قال أبو حيَّان: وهذا تعسُّف وتكلُّفٌ مع عدم الاحتياج إلى تقديم وتأخير، ووضع ظاهر موضع مضمر، إذ الأصل خلاف ذلك كُلِّهِ، ولا ضرورة تَدْعُو إليه، وأيضاً فإنَّهُ من إعمال الأوَّل وهو مذهب مَرْجُوحٌ، ولو كان من إعمال الأوَّلِ لأضمر في الثاني وُجُوباً، ولا يجوز حذفهُ إلا في ضرورة شعرٍ عند بعضهم [كقوله]: [مجزوء الكامل]

2519 - بِعُكَاظَ يُعْشِي النَّاظِريـ ـنَ إذَا هُمُ لَمَحُوا شُعَاعَهْ

فأعمل "يُغشي" ورفع به "شُعَاعه" وحذفَ الضمير من "لَمَحُوا" تقديره: لمحوه، وأجازه بعضهم بقلةٍ في غير الشِّعْرِ.
والضَّمير في "به": إمَّا لكل صراط كما تقدَّم عن الزمخشريِّ، وإمَّا على الله للعلم به، وإمَّا على سبيل الله، وجاز ذلك؛ لأنَّهُ يذكَّر ويُؤنَّثُ، وعلى هذا فقد جمع بين الاستعمالين هنا حيث قال: "به" فذكَّر، وقال: "وتَبْغُونها عِوَجاً" فأنَّث، ومثله:
{ قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ } [يوسف: 108] [وقد تقدَّم] نحو قوله: { تَبْغُونَهَا عِوَجاً } [آل عمران: 99] في آل عمران.
ومعنى الآية أنَّهُم كانوا يجلسون على الطَّريق فيقولون لمن يريدُ الإيمانَ بشُعَيْبٍ: إنَّ شُعَيْباً كذاب فلا يفتننَّك عن دينك، ويتوعدون المؤمنين بالقَتْل، ويخوفونهم.
قال الزمخشريُّ: قوله: { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ } أي: ولا تقتدوا بالشَّيْطان في قوله:
{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16] قال: والمرادُ من قوله: "صِرَاطٍ" كلُّ ما كان من مناهج الدِّين ويدلُّ عليه قوله: { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ }.
قوله: "وَاذْكُرُوا" إمَّا أن يكون مفعوله محذوفاً، فيكون هذا الظَّرف معمولاً لذلك المفعول أي: اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عليكم في ذلك الوقت، وإمَّا أن يجعل نفس الظرف مفعولاً به. قاله الزمخشريُّ.
وقال ابن عطية: إنّ "الهاء" في "به" يجوز أن تعود على شعيب عند مَنْ يرى أنَّ القُعُودَ على الطرق للردِّ عن شعيب، وهو بعيد؛ لأن القائل: "ولا تقعدوا" هو شعيب، وحينئذ كان التركيب "مَنْ آمَنَ بِي"، والادِّعَاءُ بأنَّهُ من باب الالتفات بعيد جداً؛ إذ لا يَحْسُن أن يُقال: "[يا] هذا أنا أقول لك لا تُهِنْ مَنْ أكرَمَه" أي: مَنْ أكرمني.
قوله: { إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ }.
قل الزَّجَّاج: "هذا الكلام يحتمل ثلاث أوجه: كثر عددكم بعد القلّة، وكثركم بالغنى بعد الفقر، وكثركم بالقوة بعد الضعف" قال السدي: "كانوا عشارين".
[قوله]: { وَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ }.
"كيف" وما في حيِّزها معلِّقة للنظر عن العمل، فهي وما بعدها في محل نصب على إسقاط الخافض.
والنظرُ هنا التفكُّرُ، و "كيف" خبر كان، واجب التقديم.
والمعنى: انظر كيف كان عاقبة المفسدين أي: جزاء قوم لوط من الخزي والنكال وعذاب الاستئصال.