التفاسير

< >
عرض

سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ
١
لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ
٢
مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ
٣
تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ
٤
-المعارج

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ }.
قرأ نافع وابن عامرٍ: "سَالَ سَائِلٌ" بغير همز.
والباقون: بالهمز، فمن همز، فهو من السؤال، وهي اللغةُ الفاشيةُ.
ثم لك في "سأل" وجهان:
أحدهما: أن يكون قد ضمن معنى "دعا" فلذلك تعدَّى بالباءِ، كما تقول: دعوتُ بكذا، والمعنى: دعا داعٍ بعذابٍ.
والثاني: أن يكون على أصله، والباء بمعنى "عن"، كقوله: [الطويل]

4856 م - فإنْ تَسْألُونِي بالنِّسَاءِ... .......................

{ { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [الفرقان: 59] وقد تقدم تحقيقه.
والأول أولى لأن التجوزَ في الفعل أولى منه في الحرف لقوته.
وأما القراءةُ بالألف ففيها ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنها بمعنى قراءة الهمزة، وإنما خففت بقلبها ألفاً، وليس بقياس تخفيف مثلها، بل قياس تخفيفها، جعلها بَيْنَ بَيْنَ، والباء على هذا الوجه كما في الوجه الذي تقدم.
الثاني: أنَّها من "سَالَ يَسالُ" مثل: خَافَ يخافُ، وعين الكلمة واو.
قال الزمخشريُّ: "وهي لغةُ قريش، يقولون: سلت تسال، وهما يتسايلان".
قال أبو حيَّان: وينبغي أن يتثبت في قوله: "إنها لغةُ قريش"؛ لأن ما جاء في القرآن من باب السؤال هو مهموز، أو أصله الهمز، كقراءة من قرأ { وسَلُوا } [النساء: 32]، إذ لا يجوز أن يكون من "سَالَ" التي يكون عينها واواً، إذ كان يكون "وسالوا الله" مثل "خافوا" فيبعد أن يجيء ذلك كلُّه على لغةِ غير قريش، وهم الذين نزل القرآنُ بلغتهم إلا يسيراً فيه لغة غيرهم، ثم جاء في كلام الزمخشري: وهما "يتسايلان" بالياء، وهو وهم من النُّساخ، إنما الصواب: يتساولان - بالواو - لأنه صرح أولاً أنه من السؤال، يعني بالواو الصريحة.
وقد حكى أبو زيد عن العرب: إنهما يتساولان.
الثالث: إنها من السَّيلان، والمعنى: "سال" واد في جهنم، يقال له: سايل، وهو قول زيد بن ثابت.
فالعين ياء، ويؤيده قراءة ابن عباس: "سال سيل".
قال الزمخشريُّ: "والسَّيل مصدر في معنى السَّائل، كالغَوْر بمعنى الغَائِر، والمعنى: اندفع عليهم وادي عذاب"، انتهى.
والظاهر الوجه الأول لثبوت ذلك لغة مشهورة، قال: [البسيط]

4857 - سَالَتْ هُذيْلٌ رَسُولَ اللَّهِ فَاحشَةً ضَلَّتْ هُذِيْلٌ بِمَا سَالتْ ولمْ تُصِبِ

وقرأ أبيُّ بن كعب وعبد الله: "سَال سَالٍ" مثل "مَال".
وتخريجها: أن الأصل: "سائل" فحذفت عينُ الكلمة، وهي الهمزة، واللام محل الإعراب، وهذا كما قيل: هذا شاكٍ في شائك السِّلاح. وقد تقدم الكلام على مادة السؤال أول سورة "البقرة" فليلتفت إليه.
و"الباء" تتعلق بـ"سال" من السيلان تعلقها بـ"سأل" لِمَا يزيد.
وجعل بعضهم الباءَ متعلقة بمصدر دلَّ عليه فعل السؤالِ، كأنه قيل: ما سؤالهم؟.
فقيل: سؤالهم بعذاب، كذا حكاه أبو حيَّان عن ابن الخطيب.
ولم يعترضه، وهذا عجيب، فإنَّ قوله أولاً: إنه متعلق بمصدر دل عليه فعل السؤال ينافي تقديره بقوله: "سؤالهم بعذاب"؛ لأن الباء في هذا التركيب المقدَّر تتعلق بمحذوف؛ لأنها خبر المبتدأ بالسؤال.
وقال الزمخشريُّ: "وعن قتادة سأل سائل عن عذاب الله بمن ينزل وعلى من يقع فنزلت، و"سأل" على هذا الوجه مضمن معنى عني واهتم، كأنه قيل: اهتم مهتم بعذاب واقعٍ".
فصل في تفسير السؤال
قال القرطبيُّ: الباء يجوز أن تكون بمعنى "عن" والسؤالُ بمعنى الدعاء، أي دعا داع بالعذاب، عن ابن عباس وغيره، يقال: دعا على فلان بالويلِ ودعا عليه بالعذاب.
ويقال: دعوتُ زيداً، أي التمستُ إحضاره، والمعنى التمس ملتمسٌ عذاباً للكافرين، وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامةِ، وعلى هذا فالباءُ زائدةٌ كقوله تعالى:
{ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ } [المؤمنون: 20]، وقوله تعالى: { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } [مريم: 23]، فهي تأكيد، أي: سأل سائل عذاباً واقعاً.
"لِلكَافِرينَ" أي: على الكافرين.
قيل: هو النضر بن الحارث حيثُ قال:
{ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32]، فنزل سؤاله، وقتل يوم "بدر" صبراً هو وعقبة بن أبي معيط، لم يقتل صبراً غيرهما، قاله ابن عباس ومجاهد.
وقيل:
"إنَّ السائل هنا هو الحارثُ بن النعمان الفهري، وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه: مَنْ كُنْتُ مَولاهُ فَعَليٌّ مَوْلاهُ ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح، ثم قال: يا محمدُ، أمرتنا عن الله، أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّك رسول الله، فقبلناه منك، وأن نصلي خمساً، ونزكي أموالنا، فقبلناه منك، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام، فقبلناه منك، وأن نحج، فقبلناه منك، ثُمَّ لم ترض بهذا، حتى فضَّلت ابن عمك علينا، أفهذا شيءٌ منك أم من الله؟.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: واللَّهِ الَّذي لا إِلهَ إلاَّ هُوَ، ما هُوَ إلاَّ مِنَ اللَّه فولى الحارث وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقًّا، فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذابٍ أليم، فوالله ما وصل إلى ناقته، حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه، فخرج من دبره فقتله، فنزلت { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ }"
.
وقال الربيع: السائل هنا أبو جهلٍ وهو القائل ذلك.
وقيل: إنه قول جماعة من كفار قريش، وقيل: هو نوح - عليه الصلاة والسلام - سأل العذاب على الكافرين.
وقيل: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بالعقاب، وطلب أن يوقعه بالكفار، وهو واقع بهم لا محالة، وامتد الكلام إلى قوله تعالى
{ فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً } [المعارج: 5]، أي: لا تستعجل فإنه قريب، وهذا يدل على أن ذلك السائل هو الذي أمره الله بالصبر الجميلِ.
وقال قتادة: الباءُ بمعنى "عَنْ"، فكأن سائلاً سأل عن العذاب بمن وقع، أو متى يقع، قال الله تعالى: { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً }، أي: فاسأل عنه، وقال علقمةُ: [الطويل]

4858 - فإن تَسْألُونِي بالنِّسَاءِ... ..........................

أي: عن النِّساء، فالمعنى: سلوني بمن وقع العذاب، ولمن يكون، فقال الله تعالى: { لِّلْكَافِرِينَ } وقال أبو عليّ وغيره: وإذا كان من السؤال، فأصله أن يتعدَّى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما وإذا اقتصر على أحدهما، جاز أن يتعدى إليه بحرف الجر، فيكون التقدير: سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب.
قوله: { لِّلْكَافِرِينَ }. فيه أوجه:
أحدها: أن يتعلق بـ"سأل" مضمناً معنى "دعا" كما تقدم، أي: دعا لهم بعذاب واقع.
الثاني: أن يتعلق بـ"واقع" واللام للعلة، أي نازل لأجلهم.
الثالث: أن يتعلق بمحذوف، صفة ثانية لـ"عذاب" أي كائن للكافرين.
الرابع: أن يكون جواباً للسائل، فيكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هو للكافرين.
الخامس: أن تكون "اللام" بمعنى "على"، أي: واقع على الكافرين.
ويؤيده قراءة أبيّ: "على الكافرين"، وعلى هذا فهي متعلقة بـ"واقع" لا على الوجه الذي تقدم قبله.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: بِمَ يتصل قوله: "للكافرين"؟.
قلت: هو على القول الأول متصل بـ"عذاب" صفة له أي بعذاب واقع كائن للكافرين، أو بالفعل أي دعا للكافرين بعذاب واقع أو بواقع، أي: بعذاب نازل لأجلهم.
وعلى الثاني: هو كلام مبتدأ جواب للسائل، أي: هو للكافرين انتهى.
قال أبو حيَّان: وقال الزمخشري: أو بالفعل، أي: دعا للكافرين، ثم قال: وعلى الثاني، وهو ثاني ما ذكر في توجيهه للكافرين، قال: هو كلام مبتدأ، وقع جواباً للسائل، أي: هو للكافرين، وكان قد قرر أن "سأل" في معنى "دعا" فعدي تعديته، كأنه قال: دعا داعٍ بعذاب، من قولك: دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه، ومنه قوله تعالى:
{ يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } [الدخان: 55] انتهى، فعلى ما قرره، أنه متعلق بـ"دَعَا" يعني "بسأل"، فكيف يكون كلاماً مبتدأ جواباً للسائل، أي: هو للكافرين، هذا لا يصح.
قال شهاب الدين: وقد غلط أبو حيان في فهمه عن أبي القاسم قوله: وعلى الثاني إلى آخره، فمن ثم جاء التخليط الذي ذكره الزمخشريُّ، إنما عنى بالثاني قوله عن قتادة: سأل سائل عن عذاب الله على من ينزل وبمن يقع، فنزلت، و"سأل" على هذا الوجه مضمن معنى "عني واهتم"، فهذا هو الوجه الثاني المقابل للوجه الأول، وهو أن "سأل" يتضمن معنى "دَعَا"، ولا أدري كيف تخبط حتى وقع، ونسب الزمخشري إلى الغلط، وأنه أخذ قول قتادة والحسن وأفسده، والترتيب الذي رتّبه الزمخشري، في تعلق "اللام" من أحسن ما يكون صناعة ومعنى.
قال القرطبي: وقال الحسن: أنزل اللَّهُ تعالى: { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ }، وقال: لمن هو؟ فقال: "للكافرين"، فاللام في "لِلكَافِريْنَ" متعلقة بـ"واقع".
وقال الفرَّاءُ: التقدير: بعذابٍ للكافرين واقع، فالواقع من نعت العذاب، فاللام دخلت للعذاب لا للواقع.
أي: هذا العذاب للكافرين في الآخرة، لا يدفعه عنهم أحدٌ.
وقيل: إن اللام بمعنى "على" أي: واقع على الكافرين كما في قراءة أبَيِّ المتقدمة.
وقيل: بمعنى "عَنْ" أي: ليس له دافع عن الكافرين.
قوله: { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ }.
يجوز أن يكون نعتاً آخر لـ"عذاب"، وأن يكون مستأنفاً، والأول أظهر.
وأن يكون حالاً من "عَذاب" لتخصصه، إما بالعمل وإما بالصفة، وأن يكون حالاً من الضمير في "للكافرين" إن جعلناه نعتاً لـ"عَذاب".
قوله: { مِّنَ ٱللَّهِ } يجوز أن يتعلق بـ"دَافِعٌ" بمعنى ليس له دافع من جهته، إذا جاء وقته، وأن يتعلق بـ"واقع"، وبه بدأ الزمخشري، أي: واقع من عنده.
وقال أبو البقاء: ولم يمنع النفي من ذلك؛ لأن "لَيْسَ" فعل.
كأنه استشعر أن ما قبل النفي لا يعمل فيما بعده.
وأجاب: بأنَّ النفي لما كان فعلاً ساغ ذلك.
قال أبو حيَّان: والأجود أن يكون "مِنَ اللَّهِ" متعلقاً بـ"وَاقع"، و{ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } جملة اعتراض بين العامل ومعموله. انتهى.
وهذا إنما يأتي على البدل، بأنَّ الجملة مستأنفةٌ، لا صفة لـ"عذاب"، وهو غير الظاهر كما تقدم لأخذ الكلام بعضه بحجزة بعض.
قوله: "ذي" صفة لله، ومعنى: "ذِي المَعارِج"، أي: ذي العلو والدرجات الفواضل والنعم؛ لأنها تصل إلى الناس على مراتب مختلفة، قاله ابن عباس وقتادة.
"فالمعارج"، مراتبُ إنعامه على الخلق.
وقيل: ذي العظمة والعلو.
وقال مجاهدٌ: هي معارج السماءِ.
وقيل: هي السموات.
قال ابن عباس: أي: ذي السموات، سمَّاها معارج الملائكةِ، لأن الملائكةَ تعرج إلى السماءِ، فوصف نفسه بذلك.
وقيل: "المعارج" الغرف، أي: أنه ذو الغرف، أي: جعل لأوليائه في الجنة غرفاً.
وقرأ عبد الله: "ذِي المعاريج" بالياء.
يقال: معرج، ومعراج، ومعارج، ومعاريج مثل مفتاح ومفاتيح.
والمعارج: الدرجات ومنه:
{ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [الزخرف: 33] وتقدم الكلام على المعارج في "الزخرف".
قوله: { تَعْرُجُ }. العامة: بالتاء من فوق.
وقرأ ابن مسعود، وأصحابه، والسلمي، والكسائي: بالياء من تحت.
وهما كقراءتي: "فَنَادَاهُ المَلائِكَةُ ونَادَتْهُ" [آل عمران: 39]، "تَوَفَّاهُ وَتَوَفَّتْهُ"[الأنعام: 61].
وأدغم أبو عمرو: الجيم في التاء.
واستضعفها بعضهم من حيث إن مخرج الجيم بعيد من مخرج التاء.
وأجيب عن ذلك بأنها قريبة من الشين؛ لأن النقص الذي في الشين يقرِّبها من مخرج التاء، والجيم تدغم في الشين لما بينهما من التقارب، في المخرج والصفة، كما تقدم في
{ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } [الفتح: 29] فحُمِلَ الإدغام في التاء، على الإدغام في الشين، لما بين الشين والتاء من التقارب.
وأجيب أيضاً: بأنَّ الإدغام يكون لمجرد الصفات، وإنْ لم يتقاربا في المخرج، والجيم تشارك التاء في الاستفال والانفتاح والشّدة.
والجملة من "تعرج" مستأنفة.
قوله: "والرُّوحُ" من باب عطف الخاص على العام، إن أريد بالروح جبريل، أو ملك آخر من جنسهم، وأخر هنا وقدم في قوله:
{ يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَةُ صَفّاً } [النبأ: 38]؛ لأن المقامَ هنا يقتضي تقدم الجمع على الواحد، من حيثُ إنه مقامُ تخويفٍ، وتهويل.
فصل في تحرير معنى الآية
{ تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ }، أي: تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم.
قال ابن عبَّاسِ: الروح: جبريلُ - عليه السلام - لقوله تعالى:
{ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [الشعراء: 193].
وقيل: هو ملكٌ آخر، عظيمُ الخلقةِ.
وقال أبو صالح: إنه خلق من خلق الله، كهيئة الناس وليس بالناس.
وقال قبيصة بن ذؤيب: إنه روح الميت حين تقبض.
قوله: "إليه"، أي: إلى المكان الذي هو محلهم، وهو في السماء؛ لأنه محلُّ برِّه وكرامته وقيل: هو كقول إبراهيم
{ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي } [الصافات: 99]، أي: إلى الموضع الذي أمرني به.
وقيل: "إليه" إلى عرشه.
قال شهاب الدين: الضمير في "إليْهِ"، الظاهر عوده على الله تعالى.
وقيل: يعود على المكان لدلالة الحال والسياق عليه.
قوله: "في يوم"، فيه وجهان:
أظهرهما: تعلقه بـ"تَعْرجُ".
والثاني: أنه يتعلق بـ"دافع".
وعلى هذا فالجملة من قوله: "تعرجُ الملائكةُ" معترضة، و"كَانَ مقداره" صفةٌ لـ"يوم".
قال ابن الخطيب: الأكثرون على أنَّ قوله: "فِي يَوْمٍ" صلة قوله: "تَعْرُجُ"، أي: يحصل العروج في مثل هذا اليوم.
وقال مقاتل: بل هذا من صلة قوله: "بعَذابٍ واقع" [وعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: سأل سائل بعذاب واقع]، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
وعلى التقدير الأول، فذلك اليوم، إما أن يكون في الآخرة، أو في الدنيا. وعلى تقدير أن يكون في الآخرة، فذلك الطول إما أن يكون واقعاً، وإما أن يكون مقدراً، فإن كان معنى الآية: إن ذلك العُروجَ يقع في يوم من أيام الآخرة طوله خمسون ألف سنةٍ، وهو يوم القيامة، وهذا قول الحسن، قال: وليس يعني أن مقدار طوله هذا فقط؛ إذ لو كان كذلك لحصلت له غاية، ولنفيت الجنة والنار عند انتهاء تلك الغاية، وهذا غير جائز، بل المراد: أن موقفهم للحساب حين يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدُّنيا بعد ذلك يستقر أهل النار في النار، نعوذ بالله منها.
فصل في الاحتجاج لهذا القول
قال القرطبي: واستدل النحاس على صحة هذا القول بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"مَا مِنْ رجُلٍ لَمْ يُؤدِّ زكَاةَ مالِه إلاَّ جعلَ لَهُ شُجَاعاً مِنْ نَارٍ تُكْوَى بِهِ جبْهَتُهُ وظَهْرُهُ وجَنْبَاهُ يَوْمَ القِيامَةِ في يَوْمٍ كَانَ مقْدارهُ خَمْسينَ ألْفَ سَنةٍ حتَّى يقْضِيَ الله بَيْنَ النَّاسِ" وهذا يدل على أنه يوم القيامةِ.
وقال إبراهيم التيمي: ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا ما قدر ما بين ظهر يومنا وعصره.
وروي هذا المعنى مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين" ولذلك سمى نفسه { سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [المائدة: 40]، و { أَسْرَعُ ٱلْحَاسِبِينَ } [الأنعام: 62]، وإنما خاطبهم على قدر فهم الخلائقِ، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن، وكما يرزقهم في ساعة يحاسبهم في لحظة، قال تعالى: { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان: 28].
والمعنى: لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله، لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة.
قال البغوي: هذا معنى قول عطاء عن ابن عباس ومقاتل.
قال عطاء: ويفرغ الله منه في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا.
واعلم أنَّ هذا الطول، إنَّما يكون في حق الكافرِ، وأما في حق المؤمن فلا، لما روى أبو سعيد الخدري أنه قال:
"قِيْلَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أطولَ هذا اليوم؟ فقال: والذي نَفْسي بِيَدهِ إنَّهُ ليَخِفُّ على المؤمنِ حتَّى إنَّهُ يكُونُ أخفَّ من صلاةٍ مكتوبةٍ يُصلِّيهَا في الدُّنْيَا" .
وقال بعضهم: إنَّ ذلك، وإن طال، فيكون سبباً لمزيد السرورِ والراحة لأهل الجنة، ويكون سبباً لمزيد الحزنِ والغمِّ لأهل النار.
وأجيب: بأنَّ الآخرة دارُ جزاءٍ، فلا بد وأن يحصل للمثابين ثوابهم، ودارُ الثوابِ هي الجنةُ لا الموقف، فإذاً لا بد من تخصيص طول الموقف بالكفار.
وقيل: هذه المدة على سبيل التقدير لا على التحقيق، أي: تعرج الملائكةُ في ساعة قليلة، لو أراد أهل الدنيا العروج إليها كان مقدار مدَّتهم خمسين ألف سنةٍ.
وعن مجاهد والحسن وعكرمة: هي مدة إقامة عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنةٍ، وهو قول أبي مسلمٍ.
فإن قيل: كيف الجمعُ بين هذه، وبين قوله في سورة "السَّجدة":
{ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } [السجدة: 5] وقد قال ابن عباس: هي أيام سمَّاها الله تعالى هو أعلم بها، وأنا أكره أن أقول فيها ما لا أعلم؟.
فالجوابُ: يحتمل أن من أسفل العالم إلى أعلى العرش خمسين ألف سنةٍ، ومن أعلى سماءِ الدنيا إلى الأرض ألف سنةٍ؛ لأن عرض كل سماءٍ خمسمائة، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة، فقوله: { في يَوْمٍ } يريد: في يوم من أيام الدنيا، وهو مقدار ألف سنةٍ لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا، ومقدار خمسين ألف سنةٍ لو صعدوا إلى أعلى العرش.