التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ
١٥
نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ
١٦
تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ
١٧
وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ
١٨
-المعارج

اللباب في علوم الكتاب

قوله: "كلا". ردعٌ وزجرٌ.
قال القرطبيُّ: "وإنما تكون بمعنى "حقًّا"، وبمعنى "لا" وهي هنا تحتمل الأمرين، فإذا كانت بمعنى "حقًّا" فإن تمام الكلام "ينجيه" وإذا كانت بمعنى "لا" كان تمامُ الكلام عليها. إذ ليس ينجيه من عذاب الله إلا الافتداءُ".
قوله: { إِنَّهَا لَظَىٰ نَزَّاعَةً } في الضَّمير ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ضميرُ النارِ، وإن لم يجر لها ذكرٌ لدلالة لفظ عذابٍ عليها.
والثاني: أنه ضميرُ القصةِ.
الثالث: أنه ضميرٌ مبهمٌ يترجم عنه الخبرُ، قاله الزمخشريُّ. وقد تقدم تحقيق ذلك في قوله تعالى:
{ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا } [الأنعام: 29].
فعلى الأول يجوز في "لَظَى، نزَّاعةً" أوجه:
أحدها: أن يكون "لَظَى" خبر "إن" أي إن النار لظى، و"نزاعة للشوى" خبر ثان، أو خبر مبتدأ مضمر، أي هي نزاعة، أو تكون "لَظَى" بدلاً من الضمير المنصوب و"نزَّاعةً" خبر "إنَّ".
وعلى الثاني: تكون "لَظَى نزَّاعةً" جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع خبراً لـ"إنَّ"، مفسرة لضمير القصةِ، وكذا على الوجه الثالثِ.
ويجوز أن تكون "نزَّاعةً" صفة لـ"لَظَى" إذا لم نجعلها علماً، بل بمعنى اللهبِ، وإنما أنِّثَ النعتُ، فقيل: "نزَّاعةً" لأن اللهب بمعنى النارِ، قاله الزمخشريُّ.
وفيه نظرٌ؛ لأن "لَظَى" ممنوعةٌ من الصرف اتفاقاً.
قال أبو حيان بعد حكايته الثالث عن الزمخشري: "ولا أدري ما هذا المضمر الذي ترجم عنه الخبر، وليس هذا من المواضع التي يُفسِّر فيها المفرد الضمير، ولولا أنه ذكر بعد هذا أو ضمير القصةِ لحملت كلامه عليه".
قال شهاب الدين: متى جعله ضميراً مبهماً، لزم أن يكون مفسراً بمفردٍ، وهو إما "لَظَى" على أن تكون "نزَّاعةً" خبر مبتدأ مضمر، وإما "نزَّاعةٌ" على أن تكون "لَظَى" بدلاً من الضمير وهذا أقربُ، ولا يجوز أن تكون "لَظَى، نزَّاعةٌ" مبتدأ وخبر، والجملة خبر لـ"إنَّ" على أن يكون الضميرُ مبهماً، لئلاَّ يتحد القولان، أعني هذا القول، وقول: إنَّها ضميرُ القصةِ ولم يُعهد ضميرٌ مفسرٌ بجملة إلا ضمير الشأنِ والقصةِ.
وقرأ العامة: "نزَّاعةٌ" بالرفع.
وقرأ حفص، وأبو حيوة والزَّعفرانِيُّ، واليَزيديُّ، وابنُ مقسم: "نزَّاعةً" بالنصب. وفيها وجهان:
أحدهما: أن ينتصب على الحال، واعترض عليه أبو علي الفارسي، وقال: حمله على الحال بعيدٌ، لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال.
قال القرطبيُّ: "ويجوز أن يكون حالاً على أنه حالٌ للمكذبين بخبرها".
وفي صاحبها أوجه:
أحدها: أنه الضمير المستكنُّ في "لَظَى"؛ وإن كانت علماً فهي جاريةٌ مجرى المشتقات كـ"الحارث والعباس"، وذلك لأنها بمعنى التلظِّي، وإذا عمل العلم الصريح والكنية في الظرف، فلأن يعمل العلم الجاري مجرى المشتقات في الأحوال أولى، ومن مجيء ذلك قوله: [السريع أو الرجز]

4861 - أنَا أبُو المِنْهَالِ بَعْضَ الأحْيَان

ضمنه بمعنى أنا المشهور في بعض الأحيان.
الثاني: أنَّه فاعل "تَدعُو" وقدمت حاله عليه، أي: تدعو حال كونها نزَّاعةً.
ويجوز أن تكون هذه الحالُ مؤكدةً، لأنَّ "لَظَى" هذا شأنها، وهو معروف من أمرها، وأن تكون مبنيةً؛ لأنه أمرٌ توقيفيّ.
الثالث: أنه محذوف هو والعامل تقديره: تتلظَّى نزاعة، ودل عليه "لَظَى".
الثاني من الوجهين الأولين: أنها منصوبة على الاختصاص، وعبَّر عنه الزمخشريُّ بالتهويل. كما عبَّر عن وجه رفعها على خبر ابتداء مضمر، والتقدير: أعني نزاعةٌ وأخصُّها.
وقد منع المبردُ نصب "نزَّاعة"، قال: لأن الحال إنما يكون فيما يجوز أن يكون وألاّ يكون و"لَظَى" لا تكون إلا نزَّاعةً، قاله عنه مكِّيٌّ.
وردَّ عليه بقوله تعالى:
{ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً } [البقرة:91]، { وَهَـٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً } [الأنعام: 126] قال: فالحق لا يكون إلا مصدقاً، وصراط ربِّك لا يكونُ إلاَّ مستقيماً.
قال شهاب الدين: المُبرِّدُ بني الأمر على الحال المبنيةِ، وليس ذلك بلازم؛ إذ قد وردت الحال مؤكدة كما أورده مكيٌّ، وإن كان خلاف الأصلِ، واللظى في الأصل: اللهب، ونقل علماً لجهنم، ولذلك منع من الصرف.
وقيل: هو اسم للدَّركة الثانية من النارِ، والشَّوى: الأطراف جمع شواة، كـ"نوى، ونواة"؛ قال الشاعر: [الوافر]

4862 - إذَا نَظرَتْ عَرفْتَ النَّحْرَ مِنْهَا وعَيْنَيْهَا ولمْ تَعْرفْ شَواهَا

يعني: أطرافها.
وقيل: الشَّوى: الأعضاء التي ليست بمقتل، ومنه: رماه فأشواه، أي لم يُصِبْ مقتله، وشوى الفرس: قوائمه، لأنه يقال: عَبْلُ الشَّوى.
وقيل: الشَّوى: جمع شواة وهي جلدة الرأس؛ وأنشد الأصمعي: [مجزوء الكامل]

4863 - قَالتْ قُتَيْلَةُ: مَا لَهُ قَدْ جُلِّلتْ شَيْباً شَواتُه

وقيل: هو جلد الإنسان، والشَّوى أيضاً: رُذال المال، والشيء اليسير.
فصل في معنى الآية
قال ثابت البناني والحسن: "نزَّاعةً للشَّوى": أي لمكارم وجهه. وعن الحسن أيضاً: إنه الهام.
وقال أبو العالية: لمحاسن وجهه.
وقال قتادة: لمكارم خلقته وأطرافه.
وقال الضحاك: تفري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئاً.
وقال الكسائي: هي المفاصل.
وقيل: هي القوائم والجلود.
قال امرؤ القيس: [الطويل]

4864 - سَلِيمُ الشَّظَى، عَبْلُ الشَّوى، شَنِجُ النَّسَا لَهُ حَجَباتٌ مُشرفاتٌ على الفَالِ

قوله: { تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ }. يجوز أن يكون خبراً لـ"إنَّ" أو خبراً لمبتدأ محذوف، أو حال من "لَظَى" أو من "نزَّاعةً" على القراءتين فيها؛ لأنها تتحملُ ضميراً.
فصل في المراد بالآية
المعنى: تدعُو "لَظَى" من أدبر في الدنيا عن الطَّاعة لله "وتولَّى" عن الإيمان ودعاؤها أن تقول: يا مشرك إليَّ يا كافر إليَّ.
وقال ابن عباس: تدعُو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح: إليَّ يا كافر، إليَّ يا منافق، ثم تلتقطهم كما تلتقط الطَّير الحبَّ.
وقال ثعلبٌ: "تَدعُو"، أي: تهلك، تقول العربُ: دعاك الله، أي: أهلكك اللَّهُ.
وقال الخليلُ: إنَّه ليس كالدُّعاء "تعالوا" ولكن دعوتها إياهم تمكنها منهم، ومن تعذيبهم.
وقيل: الدَّاعي: خزنة جهنَّم أضيف دعاؤهم إليها.
وقيل: هو ضرب مثل، أي: أنها تدعوهم بلسان الحال، أي: إنَّ مصير من أدبر، وتولى إليها، فكأنَّها الدَّاعية لهم.
ومثله قول الشاعر: [الكامل]

4865 - ولقَدْ هَبَطْنَا الوادِيِيْنِ فَوادِياً يَدْعُو الأنيسَ بِهِ الغضِيضُ الأبْكَمُ

الغضيضُ الأبكمُ: الذباب، وهو لا يدعو، وإنَّما طنينه نبَّه عليه فدعا له.
قال القرطبيُّ: "والقولُ الأولُ هو الحقيقةُ لظاهر القرآنِ، والأخبار الصحيحة".
قال القشيريُّ: ودعا لَظَى بخلقِ الحياةِ فيها حين تدعُو، وخوارقُ العادةِ غداً كثيرة.
قوله: { وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ }. أي: جمع المال فجعله في وعاءٍ، ومنع منه حق الله تعالى، فكان جموعاً منوعاً.
قال ابن الخطيب: "جَمَعَ" إشارة إلى حبّ الدنيا، والحِرْص عليها، "وأوْعَى" إشارة إلى الأمل، ولا شكَّ أنَّ مجامع آفات الدين ليست إلاَّ هذه.
وقيل: "جَمَعَ" المعاصي "فأوْعَى" أي: أكثر منها حتى أثقلتهُ، وأصرَّ عليها، ولم يَتُبْ منها.