التفاسير

< >
عرض

قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً
٢١
وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً
٢٢
وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً
٢٣
وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً
٢٤
مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً
٢٥
وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً
٢٦
إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً
٢٧
رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً
٢٨
-نوح

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً }.
ذكر أولاً أنهم عصوا ثم ذكر أنهم ضموا إلى عصيانه طاعة رؤسائهم الذين يدعونهم إلى الكفر، إنما زادهم أموالهم، وأولادهم خساراً؛ لأنهم سبب لخسارة الآخرة، والدنيا في جنب الآخرة كالعدم، فإذا خسرت الآخرة بسببها كانت كاللُّقمةِ من الحلوى مسمومة؛ ولذلك قال جماعة: ليس لله على الكافر نعمة، وإنَّما هي استدراج للعذابِ.
قال المفسِّرون: لبث فيهم نوحٌ - عليه السلام - كما أخبر الله تعالى ألف سنةٍ إلاِّ خمسين عاماً داعياً لهم وهم على كفرهم وعصيانهم.
قال ابنُ عباس: دعا نوحٌ الأبناءَ بعد الآباءِ، فكان الآباءُ يأتون بأولادهم إلى نوح - عليه الصلاة والسلام - ويقولون لأبنائهم: إياكم وأن تطيعوا هذا الشيخ؛ فيما يأمركم به، حتى بلغوا سبع قرونٍ، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم، ولبث بعد الطوفان ستين عاماً، حتى كثر الناس وفشوا.
قال الحسن: كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين، حكاه الماورديُّ.
قوله "وولده" قرأ أهل "المدينة" و "الشام" وعاصم: "وَوَلَدُه" بفتح اللام والواو.
والباقون: "وَوُلْدُهُ" بضم الواو وسكون اللام، وقد تقدم أنهما لغتان كـ"بَخَل وبُخْل".
قال أبو حاتم: ويمكن أن يكون المضموم جمع المفتوح كـ"خَشَب وخُشْب".
وأنشد لحسَّانٍ:[الكامل]

4882 - يَا بِكْرَ آمنةَ المُباركِ وُلْدُهَا مِنْ وُلدِ مُحْضنةٍ بِسعْدِ الأسْعَدِ

قوله: { وَمَكَرُواْ }، عطف على صلة "من" لأن المتبوعين هم الذين مكروا.
{ وَقَالُواْ } للإتباع: { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ }، وإنَّما جمع الضمير حملاً على المعنى، بعد حملها على لفظها في { لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ }، يجوز أن يكون مستأنفاً إخباراً عن الكفار.
قوله "كُبَّاراً"، العامة: على ضم الكاف وتشديد الباء، وهو بناء مبالغة أبلغ من "كُبَار" بالضم والتخفيف.
قال عيسى: وهي لغةٌ يمانية؛ وأنشد: [الكامل]

4883 - والمَرْءُ يُلحِقُهُ بِفِتْيانِ النَّدى خُلقُ الكَريمِ وليْسَ بالوُضَّاءِ

وقول الآخر: [الكامل]

4884 - بَيْضَاءُ تَصْطادُ الغَوِيَّ وتَسْتَبِي بالحُسْنِ قَلْبَ المُسْلِمِ القُرَّاءِ

ويقال: رجل طُوَّال، وجميل، وحُسَّان، وعظيم، وعُظَّام.
وقرأ ابن عيسى وابن محيصن وأبو السمال وحميد ومجاهد: بالضم والتخفيف، وهو بناء مبالغة أيضاً دون الأول.
وقرأ زيد بن علي وابن محيصن أيضاً: بكسر الكاف وتخفيف الباء.
قال أبو بكر: هو جمع كبير، كأنه جعل "مَكْراً"، مكان "ذُنُوب"، أو "أفاعيل" يعني فلذلك وصفه بالجمع.
فصل في المقصود بالمكر في الآية
قيل مكرهم: هو تحريشهم سفلتهم على قتل نوح.
وقيل: هو تعزيزهم الناس بما أوتوا من الدنيا، والولد، حتى قالت الضعفة: لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النِّعمَ.
وقال الكلبيُّ: هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد، وهذا بعيد، لأن هذا إنما قاله النصارى وهم بعد قوم نوح عليه السلام بأزمان متطاولة.
وقال مقاتل: هو قول كبرائهم لأتباعهم: { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً }، فمنعوا القوم عن التوحيد وأمروهم بالشرك، واعلم أنه لما كان التوحيد أعظم المراتب، لا جرم كان المنعُ منه أعظم الكبائر، فلهذا وصفه اللَّهُ تعالى بأنه كبار.
قال ابن الخطيب: وإنَّما سماه مكراً لوجهين:
الأول: لما في إضافة الآلهة إليهم من الحيل الموجبة، لاستمرارهم على عبادتها؛ لأنها معبود آبائهم، فلو قبلتم قول نوحٍ لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين، وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك، ولما كان اعتراف الإنسانِ على نفسه وعلى أسلافه بالقصور والنقص والجهل بهذه الكلمة وهي لفظة "آلهتكم" وصدفكم عن الدين؛ فلهذه الحجة الخفية سمّى الله كلامهم مكراً.
الثاني: أنه تعالى حكى عن المتبوعين أنهم كان لهم مال وولد، فلعلهم قالوا لأتباعهم: إن آلهتكم خير من إله نوح؛ لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد، وإله نوح [لا يعطيه شيئاً لأنه فقير] فصرفوهم بهذا المكر عن طاعة نوح، وهو مثل مكر فرعون إذ قال:
{ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } [الزخرف: 51]، وقوله { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ } [الزخرف: 52، 53].
قوله: { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً } [نوح: 23] يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام، إن قيل: إن هذه الأسماء لأصنام، وألا يكون إن قيل: إنها أسماء رجال صالحين على ما ذكر المفسِّرون.
وقرأ نافع: "وُدّاً" بضم الواو، والباقون: بفتحها.
وأنشد بالوجهين قول الشاعر: [البسيط]

4885 - حَيَّاكَ وُدٌّ فإنَّا لاَ يَحِلُّ لَنَا لَهْوُ النِّساءِ، وإنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا

وقول الآخر: [الطويل]

4886 - فَحيَّاكَ وُدُّ مَنْ هداكَ لعِسِّهِ وخُوص بأعْلَى ذِي فَضالة هجِّه

قال القرطبي: قال الليث: "وَدٌّ" - بفتح الواو - صنم كان لقوم نوح، و "وُدّ" - بالضم - صنم لقريش، وبه سمي عمرو بن عبد ود.
وفي الصحاح: "والوَدُّ" بالفتح: الوتد في لغة أهل نجد، كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال. والود في قول امرىء القيس: [الرمل]

4887 - تُظْهِرُ الوَدَّ إذَا مَا أشْجَذتْ وتُواريهِ إذَا ما تَشْتَكِرْ

قال ابن دريدٍ: هو اسم جبلٍ.
و "ود": صنم كان لقوم نوح - عليه الصلاة والسلام - ثم صار لكلب، وكان بدومةِ الجَندلِ، ومنه سموا بعبد ودّ.
قوله: { وَلاَ يَغُوثُ وَيَعُوقَ }. قرأهما العامة بغير تنوين، فإن كانا عربيين: فالمنع من الصرف للعلمية والوزن، وإن كانا أعجميين: فالعجمة والعلمية.
وقرأ الأعمش: "ولا يغوثاً ويعوقاً" مصروفين.
قال ابن عطية: "وذلك وهم، لأن التعريف لازم ووزن الفعل". انتهى.
قال شهاب الدين: وليس بوهم لأمرين:
أحدهما: أنه صرفهما للتناسب إذ قبلهما اسمان مصروفان وبعده اسم مصروف كما صرف "سَلاسِل".
والثاني: أنه جاء على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقاً، وهي لغة حكاها الكسائي، ونقل أبو الفضل: الصرف فيهما عن الأشهب العقيلي، ثم قال: جعلهما "فعولاً"، فلذلك صرفهما، فأما في العامة: فإنهما صفتان من الغوثِ والعوقِ.
قال شهاب الدين: "وهذا كلامٌ مشكلٌ، أما قوله: "فعولاً" فليس بصحيح، إذ مادة يغث ويعق مفقودة، وأما قوله: صفتان من الغوث والعوق، فليس في الصفات ولا في الأسماء "يفعل" والصحيح ما قدمته".
وقال الزمخشريُّ: وهذه قراءة مشكلة لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين، ففيهما المنع من الصرف، ولعله وجد الازدواج، فصرفهما لمصادفته أخواتهما منصرفات: ودّاً وسواعاً ونسراً، كما قرىء
{ { وَضُحَاهَا } [الشمس: 1] بالإمالة لوقوعه مع الممالات للازدواجِ.
قال أبو حيَّان: كأنه لم يطلع على أن صرف ما لا ينصرف لغة.
فصل في بيان هذه الأسماء.
قال ابن عبَّاس وغيره: وهي أصنامٌ، وصور كان قوم نوحٍ يعبدونها، ثم عبدتها العربُ، وهذا قول الجمهورِ.
وقيل: إنَّها للعربِ لم يعبدها غيرهم، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، فلذلك خصُّوا بالذكر بعد قوله: { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً }.
وقال عروة بن الزبير: اشتكى آدمُ - عليه الصلاة والسلام - وعند بنوه: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، وكان ود أكبرهم، وأبرّهم به.
قال محمد بن كعب، كان لآدمَ خمس بنينَ: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكانوا عُبَّاداً، فمات رجل منهم فحزنوا عليه، فقال الشيطان: أنا أصور لكم مثله، إذا نظرتم إليه ذكرتموه، قالوا: افعل، فصوّره في المسجدِ، من صفر ورصاصٍ، ثم مات آخرُ، فصوره حتى ماتوا كلُّهم، وصوروهم وتناقصت الأشياءِ كما ينقص اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين، فقال لهم الشيطان: ما لكم لا تعبدون شيئاً؟.
قالوا: وما نعبدُ؟
قال آلهتكم وآلهة آبائكم، ألا ترونها في مصلاكم؟ فعبدوها من دون الله، حتى بعث الله نوحاً، فقالوا: { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً } الآية.
وقال محمد بن كعبٍ أيضاً ومحمد بن قيس: بل كانوا قوماً صالحين، بين آدم ونوح وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا زيَّن لهم إبليس أن يصوروا صورهم؛ ليتذكروا بها اجتهادهم، وليتسلوا بالنظر إليها فصوّروهم، فلما ماتوا هم وجاء آخرون قالوا: ليت شعرنا، وما هذه الصورُ التي كان يعبدها آباؤنا؟ فجاءهم الشيطان فقال: كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر، فعبدوها فابتدىء عبادة الأوثان من ذلك الوقت.
وبهذا المعنى فسر ما جاء في الصحيحين من حديث عائشةَ:
"أنّ أم حبيبةَ وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة، تسمى مارية فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ أولئِكَ كَانَ إذَا مَاتَ فيهِم الرَّجلُ الصَّالحُ، بَنَوا على قَبْرهِ مَسْجداً، ثُمَّ صوَّرُوا فِيْهِ تِلكَ الصُّورَ أولئك شِرارُ الخَلقِ عند اللَّهِ يَوْمَ القِيَامةِ"
وذكر الثعلبيُّ عن ابن عباس قال: هذه الأصنام أسماء رجال صالحين، من قوم نوح فلمَّا هلكوا أوحى الشيطانُ إلى قومهم أن ينصبوا في مجالسهم أنصاباً، ويسمونها بأسمائهم
وهذا بعيدٌ، لأن نوحاً - عليه الصلاة والسلام - هو الآمرُ لهم بتركها وذلك يدل على أنَّهم كانوا قبل نوحٍ، حتى أرسلَ نوحٌ إليهم.
وروي عن ابن عباس: أنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - كان يحرس جسد آدمَ - عليه الصلاة والسلام - على جبل الهند فيمنع الكافرينَ أن يطوفوا بقبره، فقال لهم الشيطانُ: إن هؤلاء، يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم، وإنما هو جسد، وأنا أصوّر لكم مثله تطوفون به، فصوَّر لهم هذه الأصنام الخمسة، وحملهم على عبادتها، فلمَّا كان أيام الطوفانِ دفنها الطين، والتراب، والماء، فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطانُ لمشركي العرب وكانت للعربِ أصنام أخر، فاللات كانت لقديد، وأساف ونائلة وهبل، لأهل مكة.
قال الماورديُّ: فما "ود" فهو أول صنم معبود سمي "ودّاً" لودهم له، وكان بعد قوم نوح لكلب بدومةِ الجندلِ، على قول ابن عباس وعطاء ومقاتل؛ وفيه يقول شاعرهم: [البسيط]

4888 - حَيَّاكَ وُدٌّ فإنَّا لا يحلُّ لَنَا لَهْوُ النِّساءِ وإنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا

وأما "سُواع" فكان لهذيل بساحل البحر في قولهم.
وقال ابن الخطيب: "وسُواع لهمدَان".
وأما "يَغُوثُ" فكان لقطيف من مراد بالجوف من سبأ، في قول قتادة.
وقال المهدويُّ: لمراد ثم لغطفان.
وقال الثعلبيُّ: واتخذت - أعلى وأنعم - وهما من طيىء، وأهل جرش من مذحج يغوث، فذهبوا به إلى مراد، فعبدوه زماناً، ثُمَّ بَنِي ناجية، أرادوا نزعه من "أنعم" ففروا به إلى الحصين أخي بني الحارث بن كعب بن خزاعة.؟
وقال أبو عثمان المهدويُّ: رأيت "يغُوث" وكان من رصاص، وكانوا يحملونه على جمل أجرد، ويسيرون معه ولا يهيجونه، حتى يبرك بنفسه، فإذا برك نزلوا، وقالوا: قد رضي لكم المنزل فيه فيضربون عليه بناء، وينزلون حوله.
وأما "يعوق" فكان لهمدان ببلخ، في قول عكرمة وقتادة وعطاء، ذكره الماورديُّ.
وقال الثعلبيُّ: وأما "يعوق" فكان لكهلان من سبأ، ثم توارثه بنوه الأكبر فالأكبر، حتى صار في الهمداني.
وفيه يقول غط الهمداني: [الوافر]

4889 - يَرِيشُ اللَّهُ في الدُّنيَا ويَبْرِي ولا يَبْرِي يعُوقُ ولا يَرِيشُ

وقيل: كان "يَعُوق" لمراد؛ وأما "نَسْر"، فكان لذي الكلاع من حمير، في قول قتادة ومقاتل.
وقال الواقدي: كان "ودّ" على صورة رجلٍ، و "سُواع" على صورة امرأة، و"يَغُوث" على صورة أسد، و "يعوق" على سورة فرس، و "نَسْر" على سورة نسر من الطير، والله أعلم. قوله: { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً }، أي: الرؤساء فهو عطف على قوله: { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً }، أو الأصنام، وجمعهم جمع العقلاءِ، معاملة لهم معاملة العقلاء لقوله تعالى:
{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ } [إبراهيم: 36].
قوله: { وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ }. عطف على قوله: { رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } [على حكاية كلام نوح بعد "قال" وبعد الواو النائبة عنه، أي قال: إنهم عصوني]، وقال: "لا تَزِد"، أي: قال هذين القولين، فهما في محل نصب، قاله الزمخشريُّ. قال: "كقولك: قال زيد نودي للصلاة، وصلِّ في المسجد يحكي قوليه، معطوفاً أحدهما على صاحبه".
وقال أبو حيَّان: "ولا تَزِد" معطوف على "قَدْ أضلُّوا" لأنها محكية بـ"قَالَ" مضمرة، ولا يشترط التناسب في الجمل المتعاطفة، بل تعطف خبراً على طلب، وبالعكس خلافاً لمن اشترط ذلك.
فصل في معنى "إلا ضلالاً"
معنى قوله: { إِلاَّ ضَلاَلاً }.
قال ابن بحر: أي إلا عذاباً، لقوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } [القمر: 47].
وقيل: إلاَّ خسراناً.
وقيل: إلاَّ فتنة بالمال.
قوله: { مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ }. "مَا" مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد، ومن لم ير زيادتها جعلها نكرة، وجعل "خَطِيئَاتهِم" بدلاً وفيه تعسف.
وتقدم الخلاف في قراءة "خَطِيئاتِهِم" في "الأعراف".
وقرأ أبو رجاء: "خطيّاتهم" جمع سلامة إلاَّ أنه أدغم الياء في الياء المنقلبة عن الهمزة.
وقال أبو عمرو: قوم كفروا ألف سنةٍ فلم يكن لهم إلاَّ خطيَّات، يريد أنَّ الخطايا أكثر من الخطيَّات.
وقال قوم: خطايا وخطيات، جمعان مستعملان في القلة، والكثرة، واستدلوا بقول الله تعالى:
{ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ ٱللَّهِ } [لقمان: 27].
وقال الشاعر: [الطويل]

4890 - لَنَا الجَفنَاتُ الغُرّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى وأسْيَافُنَا يَقْطُرنَ مِنْ نَجْدةٍ دَمَا

وقرأ الجحدريُّ وتروى عن أبيِّ "خطيئتهم"بالإفراد، والهمز.
وقرأ عبد الله "مِنْ خَطيئاتِهم مَا أغْرِقُوا"، فجعل "ما" المزيدة بين الفعلِ وما يتعلق به.
و "من" للسببية تتعلق بـ"أغْرقُوا".
وقال ابنُ عطية: لابتداء الغايةِ، وليس بواضح.
وقرأ العامةُ: "أغرقوا" من "أغرق".
وزيد بن علي: "غُرِّقُوا" بالتشديد.
وكلاهما للنقل، تقول: "أغرقت زيداً في الماء، وغرَّقته به".
فصل في صحة "عذاب القبر"
قال ابن الخطيب: دل قوله: { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً }، على إثبات عذاب القبر لأنه يدل على أنه حصلت تلك الحالة عقيب الإغراق، ولا يمكن حمل الآية على عذاب الآخرة وإلاَّ بطلت دلالة هذه الفاء، وأيضاً فقوله "فأدْخِلُوا" يدل على الإخبار عن الماضي، وهذا إنَّما يصدق لو وقع ذلك، وقال مقاتل، والكلبيُّ: معناه أنهم سيدخلون في الآخرة ناراً، ثم عبر عن المستقبل بلفظ الماضي؛ لصدق وقوع وعده كقوله:
{ وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } [الأعراف: 44].
قال ابن الخطيب: وهذا ترك للظاهر، من غير دليل، فإن قيل: إنما تركنا الظاهر لدليل، وهو أن من مات في الماء، فإنا نشاهده هناك، فكيف يمكن أن يقال: إنهم في تلك الساعة أدخلوا ناراً؟ فالجواب: إن هذا الإشكال، إنَّما جاء لاعتقاد أنَّ الإنسان هو مجموعُ هذا الهيكل، وهذا خطأ لأن الإنسان هو الذي كان موجوداً من أول عمره، مع أنَّه كان صغير الجثَّة في أول عمره، ثم إن أجزاءه دائماً في التحلل والذوبان، ومعلوم أن الباقي غير المتبدل، فهذا الإنسانُ عبارة عن ذلك الشيء الذي هو باقٍ، من أول عمره إلى الآن، فلمَ لا يجوز أن يقال: نقل الأجزاء الباقية الأصلية التي في الإنسان عبارة عنها إلى النار وإلى العذاب.
ونقل القرطبيُّ عن القشيري أنه قال: هذه الآية تدل على عذاب القبرِ، ومنكروه يقولون: صاروا مستحقين دخول النار، أو عرض عليهم أماكنهم من النار، كقوله تعالى:
{ ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [غافر: 46].
وقيل: أشار إلى ما في الخبر من قوله: "البحرُ نارٌ في نارِ".
وروى أبو روق عن الضحاك في قوله تعالى: { أَغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً }، قال: يعني عذبوا بالنار في الدنيا في حالة واحدة، كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في الماء من جانب. ذكره الثعلبي.
وأنشد ابن الأنباري: [البسيط]

4891 - الخَلْقُ مُجتمِعٌ طَوْراً ومُفْتَرِقٌ والحَادثَاتُ فُنونٌ ذاتُ أطوَارِ
لا تَعْجَبنَّ لأضْدادٍ قَد اجْتمَعَتْ فاللَّهُ يَجْمَعُ بينَ المَاءِ والنَّارِ

قال المعربون: "فأدخلُوا" يجوز أن يكون من التعببير عن المستقبل بالماضي، لتحقق وقوعه كقوله: { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [النحل: 1]، وأن يكون على بابه، والمراد عرضهم على النَّار في قبورهم كقوله في آل فرعون: { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [غافر: 46].
قوله: { فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً }، أي: من يدفع عنهم العذاب، وهذا يدل على أنهم إنما عبدوا تلك الأصنام لتدفع عنهم الآفاتِ، وتجلب المنافع إليهم فلما جاءهم العذاب لم ينتفعوا بتلك الأصنام، ولم يدفعوا عنهم العذاب وهو كقوله تعالى:
{ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا } [الأنبياء: 43].
{ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً }.
قال الزمخشريُّ: "ديَّاراً" من الأسماء المستعملة في النفي العام، يقال: ما بالدار ديار وديور، كقيَّام وقيُّوم، وهو "فَيْعَال" من الدارة أصله: "ديْوَار" ففعل به ما فعل بأصل "سيِّد وميِّت" ولو كان "فَعَّالاً" لكان "دوَّاراً" انتهى.
يعني أنه كان ينبغي أن تصح واوهُ ولا تقلب ياء، وهذا نظير ما تقدم له من البحث في "مُتَحيِّز" وأن أصله: "مُتَحَيْوز" لا "مُتَفعِّل" إذ كان يلزم أن يكون "متحوِّزاً" لأنه من "الحَوْز" ويقال فيه أيضاً: "دَوَّار" نحو "قيَّام وقوَّام".
وقال مكيٌّ: وأصله "ديْوَار" ثم أدغموا الواو في الياء مثل "ميِّت" أصله "ميْوِت" ثم أدغموا الثاني في الأول، ويجوز أن يكون أبدلوا من الواو ياء، ثم أدغموا الياء الأولى في الثانية.
قال شهاب الدين: قوله أدغموا الثاني في الأول، هذا لا يجوز؛ إذ القاعدة المستقرة في المتقاربين قلب الأول لا الثاني، ولا يجوز العكسُ إلا شذوذاً أو لضرورة صناعية، أما الشذوذ فكقوله: { واذَّكَرَ } [يوسف: 45] بالذال المعجمة، و { فهل من مُذَّكر } [القمر: 15] بالذال المعجمة أيضاً وأما الضرورة الصناعية فنحو: امدح هذا، لا تقلب الهاء حاء، لئلا يدغم الأقوى في الأضعف وهذا يعرفه من عانى التصريف، والديار: نازل الدار، يقال: ما بالدار ديار، وقيل: الديار صاحب الدار.
وقال البغويُّ: "الدَّيارُ يعني أحداً يدور في الأرض، فيذهب ويجيء "فعَّال" من الدوران".
فصل في دعاء نوح على قومه
لما أيس نوح - عليه الصلاة والسلام - من أتباعهم إياه دعا عليهم.
قالت قتادة: دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه
{ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [هود: 36]، فأجاب الله دعوته وأغرق أمته، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ مُنزِلَ الكتابِ هَازِم الأحزابِ، اهْزمهُم وزلْزلهُمْ" .
وقيل: سبب دعائه أنَّ رجلاً من قومه حمل ولداً صغيراً على كتفهِ فمرَّ بنوحٍ، فقال: احذر هذا فإنه يضلك، فقال: يا أبتِ، أنزلني فأنزله فرماه فشَجَّه، فحينئذ غضب ودعا عليهم.
وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد: إنَّما قال هذا، حين أخرج اللَّهُ كلَّ مؤمنٍ من أصلابهم وأرحام نسائهم، وأعقم أرحام أمهاتهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة، وقيل: بسبعين سنة، فأخبر اللَّهُ نوحاً أنهم لا يؤمنون، ولا يلدون مؤمناً كما قال تعالى:
{ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [هود: 36]، فحنيئذ دعا عليهم نوحٌ، فأجاب اللَّهُ دعاءَ فأهلكهم كلَّهم، ولم يكن فيهم صبي وقت العذابِ، لأن الله تعالى قال: { وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ ٱلرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ } [الفرقان: 37]. ولم يوجد التكذيب من الأطفال.
فصل في بيان أنه لا يدعى على كافر معين
قال ابن العربي: دعا نوح على الكافرين أجمعين ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على من تحزب على المؤمنين وألّبَ عليهم، وكان هذا أصلاً في الدعاء على الكافرين في الجملة فأمَّا كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه؛ لأن مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء على عُتبةَ وشَيبَةَ وأصحابه لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم. والله أعلم.
قوله: { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ }.
العامة: على فتح الدال على أنه تثنية والد؛ يريد: أبويه.
واسم أبيه: لملك بن متوشلخ، واسمه أمه: شمخى بنت أنوش، وكانا مؤمنين.
وحكى الماورديُّ: اسم أمه: منجل.
وقرأ الحسن بن علي - رضي الله عنهما - ويحيى بن يعمر والنخعيُّ: ولولدي، تثنية ولد يعني: ابنيه ساماً وحاماً.
وقرأ ابن جبير والجحدري: "ولوالدِي" - بكسر الدال - يعني أباه.
فيجوز أن يكون أراد أباه الأقرب الذي ولده، وخصَّه بالذَّكر لأنه أشرف من الأم، وأن يريد جميع من ولده من لدن آدم إلى زمن من ولده.
قال الكلبيُّ: كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمن.
وذكر القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما الصلاة والسلام.
قوله { وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً }.
قال ابن عباس رضي الله عنه: أي: مسجدي ومصلاي، "مُؤمِناً"، أي: مُصدِّقاً بالله، فـ"مُؤمِناً" حال، وكان إنما يدخل بيوت الأنبياء من آمن بهم، فجعل المسجد سبباً للدعاء بالمغفرة.
وقيل: المراد بقوله "بيتي"، أي: سفينتي.
وقال ابن عباس: أي: دخل في ديني.
فإن قيل: فعلى هذا يصير قوله: "مُؤمِناً" مكرراً.
فالجواب: إنَّ من دخل في دينه ظاهراً قد يكون مُؤمناً، وقد لا يكون مؤمناً، فالمعنى: ولمن دخل دخولاً مع تصديق القلبِ.
قوله: { وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ }، خصَّ نفسه أولاً بالذكر والدعاء، ثم المتصلين به لأنَّهم أولى، وأحق بدعائه، ثم عمَّ المؤمنين، والمؤمناتِ إلى يوم القيامة، قاله الضحاك.
وقال الكلبيُّ: من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وقيل: من قومه، والأول أظهر، ثم ختم الكلام مرةً أخرى بالدعاءِ على الكافرين [فقال: { وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً }، أي: هلاكاً، ودماراً، والمراد بالظالمين: الكافرين] فهي عامة في كل كافر ومشرك.
وقيل: أراد مشركي قومه، و "تَبَاراً" مفعول ثاني، والاستثناءُ مفرغ، والتبار: كل شيء أهلك فقد تبر، ومنه قوله تعالى:
{ إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } [الأعراف: 139].
وقيل: التَّبارُ الخُسران.
قال المفسّرون: فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم.
روى الثعلبيُّ عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ قَرَأ سُورةَ نُوحٍ، كَانَ مَنَ المُؤمِنْينَ الَّذينَ تُدركُهمْ دَعْوَة نُوحٍ عليْهِ السَّلامُ" .