التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً
٢٥
عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً
٢٦
إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً
٢٧
لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً
٢٨
-الجن

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { قُلْ إِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ }، يعني: قيام الساعة لا يعلمه إلاَّ اللَّهُ فهو غيب لا أعلم منه إلا ما يعلمنيه الله تعالى جلت قدرتهُ.
قوله: { أَقَرِيبٌ }، خبرٌ مقدمٌ، و { مَّا تُوعَدُونَ } مبتدأ مؤخر، ويجوز أن يكون "قَرِيبٌ" مبتدأ لاعتماده على الاستفهام و "مَا تُوعَدُون" فاعل به، أي: أقريب الذي توعدون، نحو"أقَائِمٌ أبواك"، و "مَا" يجوز أن تكون موصولة فالعائد محذوف، وأن تكون مصدرية فلا عائد، و "أمْ" الظاهر أنها متصلة.
وقال الزمخشريُّ: "فإن قلت: ما معنى قوله: { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً }، والأمد يكون قريباً وبعيداً، ألا ترى إلى قوله تعالى
{ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } [آل عمران: 30]، قلت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقرب الموعد، فكأنه قال: ما أدري أهو حالٌّ متوقع في كُلِّ ساعة، أم مؤجل ضربت له غاية؟".
وقرأ العامة: بإسكان الياء من "ربِّي".
وقرأ الحرميان وأبو عمرو: بالفتح.
فصل في تعلق الآية بما قبلها
قال مقاتل: لما سمعوا قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً }. قال النضر بن الحارث: متى يكون هذا الذي توعدنا به؟.
فقال الله تعالى: { قُلْ إِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } إلى آخره، والمعنى أنَّ وقوعه متيقن، وأما وقت وقوعه فغير معلوم.
وقوله تعالى: { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً }، أي: غاية وبعداً، وهذا كقوله تعالى: { إِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ }.
فإن قيل: أليس
"أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: بُعثْتُ أنَا والسَّاعَةُ كهَاتيْنِ" فكان عالماً بقُربِ وقُوعِ القيامةِ، فكيف قال - هاهنا -: لا أردي أقريب أم بعيد؟.
فالجواب: أن المراد بقرب وقوعه، هو أن ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى فهذا القدر من القرب معلوم، فأما معرفة القرب المرتب وعدم ذلك فغير معلوم.
قوله: { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ }، العامة: على رفعه، إما بدلاً من "ربِّي" وإما بياناً له وإما خبراً لمبتدأ مضمر، أي هو عالم.
وقرىء: بالنصب على المدح.
وقرأ السديُّ: علم الغيب، فعلاً ماضياً ناصباً للغيب.
قوله: "فلا يُظهرُ". العامة: على كونه من "أظْهَر"، و "أحَداً" مفعول به.
وقرأ الحسنُ: "يَظْهرُ" بفتح الياء والهاء من "ظهر" ثلاثياً، و "أحد" فاعل به.
فصل في تفسير الغيب
الغيب ما غاب عن العباد.
وقد تقدم الكلام عليه أول البقرة.
قوله: { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ }. يجوز أن يكون استثناء منقطعاً، أي لكن من ارتضاه فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه بالوحي و "مِنْ" في قوله: "مِنْ رسُولٍ" لبيان المرتضين وقوله: { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ } بيان لذلك.
وقيل: هو متصل، و "رَصَداً" تقدم الكلام عليه.
ويجوز أن تكون "مِنْ"، شرطية، أو موصولة مضمنة معنى الشرط، وقوله "فإنَّهُ" خبر المبتدأ على القولين؛ وهو من الاستثناء المنقطع أيضاً، أي: لكن، والمعنى: لكن من ارتضاه من الرسل، فإنَّه يجعل له ملائكة رصداً يحفظونه.
فصل في الكرامات
قال الزمخشريُّ: "في إهذه الآية إبطال الكرامات؛ لأن الذين تضاف إليهم الكرامات، وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خصَّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وفيها أيضاً إبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء، وأدخل في السخط".
قال الواحديُّ: وفيها دليل على أن من ادعى أنَّ النجوم تدل على ما يكون من حياة، أو موت، أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن.
قال ابن الخطيب: واعلم أن الواحديَّ يجوز الكرامات، وأن يلهم الله أولياءه وقوع بعد الوقائع في المستقبل ونسبة الآية في الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم، فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات على ما قاله الزمخشريُّ، فإن جوَّز الكرامات لزمه تجويز علم النجوم وتفريقه بينهما تحكم محض.
قال ابن الخطيب: وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه، إذ لا صيغة عموم في عينه لأنه لفظ مفرد مضاف فيحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله { أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } الآية.
فإن قيل: فما معنى الاستثناء حينئذ؟.
قلنا: لعله إذا قربت القيامةُ يظهر، وكيف لا، وقد قال:
{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً } [الفرقان: 25] فتعلم الملائكة حنيئذ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع أي: من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه، ومن خلفه حفظة يحفظونه بأمر الله من شر مردة الجنِّ والإنس، ويدل على أنه ليس المراد منه ألا يطلع أحد على شيء من المغيبات أنه ثبت بما يقارب التواتر أن "شقّاً وسطيحاً" كانا كاهنين وقد عرفا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتَّى يرجع إليهما كسرى، وربيعة بن مضر، فثبت أن اللَّه تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً هل المللِ على أن معبر الرؤيا، يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيه، وأيضاً: قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها فوقعت على وفق كلامها.
قال ابن الخطيب: وأخبرني أناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل فكانت على وفق خبرها.
وبالغ أبو البركات في كتاب "المعتبر" في شرح حالها وقالت: تفحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً، وأيضاً فإنّا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد ترى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، فإن قلنا: إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرناه.
فصل في معنى الآية
قال القرطبيُّ: المعنى { فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه، لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات كما ورد في التنزيل في قوله:
{ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } [آل عمران: 49].
وقال ابن جبير: { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } هو جبريل - عليه السلام - وفيه بعد، والأولى أن يكون المعنى لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى، أي: اصطفاه للنبوة فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه ليكون ذلك دالاً على نبوته.
فصل في استئثار الله بعلم الغيب
ذكر القرطبيُّ أن العلماء قالوا: لما تمدح الله سبحانه وتعالى بعلم الغيب واستأثره دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأعلمهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ومن يضرب بالحصى وينظر في الكواكب ويزجر بالطير من ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وبتخمينه وكذبه.
قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان مختلفو الأحوال والرتب فيهم الملك، والسوقة، والظالم، والجاهل، والعالم والغني، والفقير، والكبير مع اختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة، فإن قال: إنما أغرقهم الطالع الفلاني الذي ركبوا فيه، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام هذه الطوالع كلِّها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه المخصوص به، فلا فائدة إذ ذاك في عمل المواليد، ولا دلالة فيها على شقي، ولا سعيد، ولم يبق إلا معاندة القرآن الكريم؛ ولقد أحسن القائل: [الكامل]

4917 - حَكَمَ المُنجِّمُ أنَّ طَالعَ مَولِدِي يَقْضِي عَليَّ بِمَيتَةِ الغَرقِ
قُلْ للمُنَجِّمِ صِبْحَةَ الطُّوفانِ هَلْ وُلِدَ الجَمِيعُ بكَوكَبِ الغَرقِ؟

وقيل لعلي - رضي الله عنه - لما أراد لقاء الخوارج: أتلقاهم والقمر لفي العقرب؟ فقال: فأين قمرهم؟ وكان ذلك في آخر الشهر. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من البلاغة في الرد على من يقول بالتنجيم، وقال له مسافر بن عوف: يا أمير المؤمنين، لا تسرِ في هذه الساعة وسِرْ بعد ثلاث ساعاة يمضين من النهار، فقال له علي - رضي الله عنه -: ولم؟.
قال: إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك، وأصاب أصحابك بلاءٌ، وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت، وظهرت وأصبت ما طلبت، فقال علي - رضي الله عنه -: ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه منجم، ولا لنا من بعده. ثم قال: فمن صدقك في هذا القول لن آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله نداً، وضداً، اللَّهُمَّ لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ثم قال للمتكلم: نكذبك، ونخالفك، ونسير في الساعة التي تنهاها عنها، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس، إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدوا به في ظلمات البر والبحر، إنما المنجم كافر، والكافر في النار، والمنجم كالساحر، والساحر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم، أو تعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيتُ، ولأحرمنَّك العطاء، ما كان لي سلطان، ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها فلقي القوم فقتلهم، وهو وقعة "النَّهروان" الثابتة في "صحيح مسلم"، ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها، وظفرنا، وظهرنا لقال: إنَّما كان ذلك تنجيمي وما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم، ولا لنا من بعده، وقد فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان، ثم قال: يا أيها الناسُ، توكلوا على الله وثقوا به، فإنه يكفي ممن سواه.
قوله: { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً }، يعني: ملائكة يحفظونه من أن يقرب منه شيطان، فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة.
قال الضحاك: ما بعث الله نبياً إلى ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين، أن يتشبهوا له بصورة الملك فإذا جاءه شيطان في صورة الملك، قالوا: هذا شيطان فاحذره، وإن جاء الملك قالوا: هذا رسول ربِّك.
وقال ابن عباس وابن زيد: "رَصَداً"، أي: حفظةُ يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من أمامه، وورائه من الجن، والشياطين.
وقال قتادة وسعيد بن المسيِّب: هم أربعة من الملائكة حفظة يحفظون الوحي بما جاء من عند الله.
وقال الفرَّاءُ: فالمراد جبريل كان إذا نزل بالرسالة نزل معه ملائكة يحفظونه من أن يستمع الجن الوحي، فيلقونه إلى كهنتهم، فيسبقوا به الرسول.
وقال السديُّ: "رَصَداً" أي: حفظة يحفظون الوحي، مما جاء من عند الله، وما ألقاه الشيطان قالوا: إنه من الشيطان، و "رَصَداً" نصب على المفعول.
قال الجوهريُّ: "والرَّصدُ: القوم يرصدون كالحرس، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكور والمؤنث وربما قالوا: أرصاد، والرّاصد للشيء: الراقب له، يقال: رصده يرصده رصْداً ورصَداً، والتَّرصُّد: الترقب، والمرصد: موضع الرصد".
قوله: { لِّيَعْلَمَ }. متعلق بـ"يَسْلكُ".
والعامة: على بنائه للفاعل، وفيه خلاف. أي: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة، قاله مقاتل وقتادة.
قال القرطبيُّ: "وفيه حذف تتعلق به اللام، أي: أخبرناه بحفظنا الوحي، ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حاله من التبليغ بالحق والصدق".
وقيل: ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه.
قاله ابن جبير، قال: ولم ينزل الوحي إلا ومعه أربعة حفظة من الملائكة - عليهم السلام -.
وقيل: ليعلم الرسول أن الرسل سواه بلغوا.
وقيل: ليعلم الله، [أي: ليظهر علمه للناس أنّ الملائكة بلغوا رسالات ربهم.
وقيل: ليعلم الرسول، أي رسولٍ كان أنَّ الرسل سواه بلغوا].
وقيل: ليعلم إبليس أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه واستراق أصحابه.
وقال ابن قتيبة: أي: ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل إليهم، ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم.
وقال مجاهد: ليعلم من كذب الرسل أن المرسلين، قد بلغوا رسالات ربهم.
وقيل: ليعلم الملائكة. وهذان ضعيفان، لإفراد الضمير.
والضمير في "أبْلغُوا" عائد على "من" في قوله: "من ارْتضَى" راعى لفظها أولاً، فأفرد في قوله { مِن بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ }، ومعناها ثانياً، فجمع في قوله "أبْلَغُوا" إلى آخره.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وزيد بن علي وحميد ويعقوب ليعلم مبنياً للمفعول أي ليعلم الناس أن الرسل قد بلغوا رسالاته.
وقرأ ابن أبي عبلة والزهري: لِيُعلم" - بضم الياء وكسر اللام - أي: ليعلم الله رسوله بذلك.
وقرأ أبو حيوة: "رِسَالة" بالإفراد، والمراد الجمع.
وقرأ ابن أبي عبلة: "وأحيط، وأحصي" مبنيين للمفعول، "كل" رفع بـ"أحصي". قوله: "عَدَداً"، يجوز أن يكون تمييزاً منقولاً من المفعول به، والأصل: أحصى عدد كل شيء، كقوله تعالى:
{ وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً } [القمر: 12]، أي: عيون الأرض على خلاف سبق.
ويجوز أن يكون منصوباً على المصدر من المعنى، لأن "أحْصَى" بمعنى "عَد"، فكأنه قيل: وعد كل شيء عدداً.
أو يكون التقدير: وأحصى كلَّ شيء إحصاء، فيرد المصدر إلى الفعل، أو الفعل إلى المصدر.
ومنع مكي كونه مصدراً للإظهار، فقال: "عَدَداً" نصب على البيان، ولو كان مصدراً لأدغم.
يعني: أن قياسه أن يكون على "فَعْل" بسكون العين؛ لكنه غير لازم، فجاء مصدره بفتح العين.
ولما كان "لِيعْلمَ" مضمناً معنى "قَد عَلِمَ ذلِكَ" جاز عطف "وأحَاطَ" على ذلك المقدر.
قال القرطبي: "عَدَداً"، نصب على الحال، أي: أحصى كل شيء.
فصل في معنى الإحاطة في الآية.
المعنى: أحاط علمه بما عند الرسل، وما عند الملائكة.
وقال ابن جبيرٍ: المعنى ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط بما لديهم، فيبلغوا رسالاته { وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } أي: علم كل شيء وعرفه فلم يخف عليه منه شيء، وهذه الآية تدل على أنه تعالى عالم بالجزئيات، وبجميع الموجودات.
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ قَرَأ سُورَةَ الجِنِّ أُعْطِيَ بعَددٍ كُلِّ جنِّي وشيْطانٍ صدَّق بمُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وكذَّب بِهِ عِتْقُ رَقبةٍ" . والله تعالى أعلم بالصواب.