التفاسير

< >
عرض

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً
١
يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً
٢
وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً
٣
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً
٤
وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً
٥
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً
٦
وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً
٧
وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً
٨
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً
٩
وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً
١٠
وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً
١١
وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً
١٢
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً
١٣
وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً
١٤
وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً
١٥
وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً
١٦
لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً
١٧
وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً
١٨
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً
١٩
-الجن

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ }، هذه قراءةُ العامة، أعني كونها من "أوْحَى" رباعياً.
وقرأ العتكي عن أبي عمرو وابن أبي عبلة وأبو إياس: "وَحَى" ثلاثياً.
وهما لغتان، يقال: وَحَى إليه كذا وأوحى إليه بمعنى واحد، فقلبت الواو همزة، ومنه قوله تعالى:
{ وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتْ } [المرسلات: 11]؛ وأنشد العجاج: [الرجز]

4892 - وحَى لَهَا القَرارَ فاسْتَقَرَّتِ

وقرأ زيد بن علي والكسائي في رواية وابن أبي عبلة أيضاً: "أُحي" بهمزة مضمومة لا واو بعدها، وخرجت على أن الهمزة بدلٌ من الواو المضمومة، نحو "أعد" في "وَعَد" فهذا فرع قراءة "وَحَى" ثلاثياً.
قال الزمخشريُّ: وهو من القلب المطلق جواباً في كل واو مضومة، وقد أطلقه المازنيُّ في المكسورة أيضاً: كـ"إشاح، وإسادة"، و "إعاء أخيه" [يوسف: 76].
قال أبو حيَّان: وليس كما ذكر بل في ذلك تفصيل، وذلك أن الواو المضمومة قد تكون أولاً، وحشواً، وآخراً، ولكل منها أحكام، وفي بعض ذلك خلاف، وتفصيل مذكور في كتب النحو. وتقدم الكلام في ذلك مشبعاً في أول الكتاب.
ثم قال أبو حيَّان بعدما تقدم عن المازنيِّ: وهذا تكثير وتبجح.
قوله: { أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ }، هذا هو القائمُ مقام الفاعل لأنَّه هو المفعول الصريحُ، وعند الكوفيين والأخفش يجوز أن يكون القائمُ مقامه الجار، والمجرور، فيكون هذا باقياً على نصبه، والتقدير: أوحي إليَّ استماع نفرٍ "من الجن" صفة لـ"نَفَر".
فصل في تفسير الآية
قال ابن عباس وغيره: قل يا محمد لأمَّتك أوحِيَ إليَّ على لسانِ جبريل، أنَّه استمع نفرٌ من الجنِّ، والنَّفرُ: الجماعةُ ما بين الثلاثة إلى العشرة، واختلفوا، هل رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟.
فظاهرُ القرآن يدل على أنَّه لم يرهم لقوله تعالى: { أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ }، وقوله:
{ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ } [الأحقاف: 29].
وفي صحيح مسلم، والترمذي عن ابن عباسٍ قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشيطان، وبين خبر السماء، وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطينُ إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟.
فقالوا: حِيْلَ بيننا وبين خبر السماءِ، وأرسلت علينا الشهب قالوا: ما ذلك إلا من شيء حدث، فاضربوا في مشارق الأرض ومغاربها، فمرَّ النفرُ الذين أخذوا نحو "تهامة" وهو وأصحابه بنخلة قاصدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه الفجر فلمَّا سمعوا القرآن قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } فأنزل الله على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ } الآية.
قال القرطبيُّ: وفي هذا الحديث دليلٌ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يرَ الجنَّ ولكن حضروه وسمعوا قرآنه.
فإن قيل: الذين رموا بالشُّهب هم الشياطينُ والذين سمعوا القرآن هم الجنُّ، فما وجه الجمع؟ فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّ الجن كانوا مع الشياطين، فلما رمي الشياطين أخذوا الجنَّ الذين كانوا منهم في تجسس الخبرِ.
الثاني: أن الذين رموا بالشهبِ كانوا من الجن، إلا أنهم قيل لهم: شياطين كما قيل: شياطين الإنس والجنِّ، فإنَّ الشيطان كل متمرد، وبعيد من طاعة الله تعالى.
قال ابن الخطيبرحمه الله : واختلف في أولئك الجنِّ الذين سمعوا القرآن من هم؟.
فروى عاصم عن ذر قال: قدم رهطُ زوبعة وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرفوا، فذلك قوله تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ }.
وقيل: كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً وعامة جنود إبليس منهم.
وقيل: كانوا سبعة، ثلاثة من أرض "حرَّان" وأربعة من أرض "نَصِيبينَ"،: قريِةٌ من قرى اليمن غير التي بالعراق رواه أيضاً عنهم عاصم عن ذر.
وقيل: إنَّ الجنَّ الذين أتوه بمكةَ جنُّ نصيبين، والذين أتوه بنخلة جنُّ نينَوى.
وقال عكرمةُ: كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل.
ومذهب ابن مسعود أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم ويدعوهم إلى الإسلام، روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أمِرْتُ أن أتْلُوَ القُرآنَ على الجِنِّ فمَنْ يَذْهَبُ مَعِي؟ فَسَكَتُوا، ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الثانية: ثُمَّ قال النبي صلى الله عليه وسلم الثالثة، فقلتُ: أنَا أذْهَبُ مَعَكَ يا رسُولَ اللَّهِ، فانطلقَ، حتى أتى الحَجُونَ عند شعب ابن أبي دب خط عليَّ خطّاً فقال: لا تجاوزه، ثُمَّ مضَى إلى الحَجُونِ فاتَّخَذُوا عليه أمْثَالَ الحجل كأنَّهُم رِجالُ الزُّطِّ، قال ابنُ الأثير في النهاية: الزّطّ: قومٌ من السودان والهنود يقرعون في دُفُوفهِمْ، كما تَقرَعُ النِّسوةُ في دُفُوفِها، حتَّى غشاهُ، فغَابَ عنْ بَصرِي، فقُمْتُ، فأوْمَأ بيدِه إليَّ أن اجْلِسْ ثُمَّ تلا القرآن صلى الله عليه وسلم فلم يزلْ صوتهُ يَرتفِعُ، ولصقوا في الأرضِ، حتَّى صِرْتُ لا أرَاهُمْ" .
وفي رواية أخرى، "قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أنْتَ؟.
قال صلى الله عليه وسلم: أنَا نَبِيٌّ، قالوا: فَمنْ يَشهَدُ لَكَ على ذَلِكَ؟.
فقال الحبيب المجتبى صلى الله عليه وسلم: هذه الشَّجرةُ، تعالي يا شجرةُ فجَاءتْ تجرُّ عُروقهَا لها قعاقعُ، حتى انتصبتْ بين يديه صلى الله عليه وسلم فقال لها صلى الله عليه وسلم: على ماذا تشهدين فيَّ؟.
فقالت أشْهَدُ أنَّك رسُولُ الله قال صلى الله عليه وسلم لها: اذْهَبِي، فَرجعَتْ فذهبت مكانها كَمَا جاءتْ، حتى صارتْ كما كانتْ.
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: فلمَّا عاد إليَّ قال: أردت أن تأتيني، قلت: نعم يا رسول الله قال: مَا كَانَ ذلكَ لَكَ، قال: هؤلاءِ الجِنُّ أتَوا يَسْتمعُونَ القُرآنَ ثُمَّ ولَّوا إلى قَومِهِم مُنْذرينَ، فَسألُونِي الزَّادَ، فزوَّدتهُم العَظْمَ والبَعْرَ، فلا يَسْتطِيبنَّ أحدكُمْ بعَظْمٍ، ولا بَعْر"
.
وفي رواية: "أنَّه صلى الله عليه وسلم لما فرغ وضع رأسهُ صلى الله عليه وسلم على حِجْرِ ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - فرقد، ثُمَّ استيقظ صلى الله عليه وسلم فقال: هَلْ مِنْ وُضُوءٍ؟
قال: لا، إلاَّ أنَّ معي إداوة نبيذٍ، فقال صلى الله عليه وسلم: هَلْ هُو إلاَّ تمرٌ وماء فَتوضَّأ مِنْهُ"
.
قال ابن الخطيب: وطريقُ الجمع بين المذهبين مذهب ابن عباس ومذهب ابن مسعود من وجوه:
أحدها: لعل ما ذكره ابن عباس وقع أولاً فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورةِ، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روى ابن مسعود رضي الله عنهما.
وثانيها: أن بتقدير أن تكون واقعة الجن مرة واحدة إلا أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم، وما عرف أنَّهم ماذا قالوا، وأي شيءٍ فعلوا، فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وكذا، وقالوا كذا.
وثالثها: أن الواقعة كانت مرة واحدة، وهو صلى الله عليه وسلم رآهم، وسمع كلامهم، وهم آمنوا به، ثم رجعوا إلى قومهم، قالوا لقومهم على سبيل الحكايةِ: { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } وكان كذا وكذا فأوحى اللَّهُ تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما قالوه لأقوامهم.
قال ابن العربي: "ابن مسعود أعرفُ من ابن عباس، لأنه شاهده، وابن عباس سمعهُ، وليس الخبرُ كالمعاينة".
قال القرطبي: وقيل: إن الجنَّ أتوا النبي صلى الله عليه وسلم دفعتين.
أحدهما: بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود.
والثانية: بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس.
قال البيهقيُّ: الذي حكاه عبد الله إنما هو في أول ما سمعت الجنُّ قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمت بحاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه عبد الله بن عباس ثم أتاه داعي الجنِّ مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود.
فصل في لفظ "قل"
قال ابن الخطيب: اعلم أنَّ قوله تعالى: قُلْ" أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يظهر لأصحابه - رضي الله عنهم - ما أوحى إليه تعالى في واقعة الجنِّ، وفيه فوائد.
أحدها: أن يعرفوا بذلك أنه صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الجن، كما بعث إلى الإنس.
وثانيها: أن تعلم قريش أنَّ الجنَّ مع تمردهم لما سمعُوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وثالثها: أن يعلم القومُ أنَّ الجنَّ مكلفون كالإنس.
ورابعها: أن تعلم أنَّ الجنَّ يستمعون كلاماً تفهمه من لغتنا.
وخامسها: أن يظهر المؤمنُ منهم بدعوى غيره من الجنِّ إلى الإيمان، وفي هذه الوجوه مصالحُ كثيرة إذا عرفها الناس.
فصل في بيان أصل الجن
اختلف العلماءُ في أصل الجنِّ، فروى الحسنُ البصريُّ أنَّ الجنَّ ولد إبليس، والإنس ولد آدمَ - صلوات الله وسلامه عليه - ومن هؤلاء وهؤلاءِ مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثَّواب والعقاب، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرٌ فهو شيطانٌ، روى الضحاك عن ابن عباس أن: الجن هم ولد الجان، وليسوا شياطين ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين ولد إبليس، لا يموتون إلاَّ مع إبليس، وروي أن ذلك النفر كانوا يهوداً.
وذكر الحسن أنَّ منهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين.
فصل في دخول الجِنة الجَنة
اختلفوا في دخول الجنِّ الجنةِ على حسب الاختلاف في أصلهم، فمن زعم أنهم من الجانِّ لا من ذرية إبليس قال: يدخلون الجنَّة بإيمانهم، ومن قال: إنهم من ذرية إبليس فله فيهم قولان:
أحدهما: وهو قول الحسن: يدخلونها.
الثاني: وهو قولُ مجاهد: لا يدخلونها
فصل فيمن أنكر الجن
قال القرطبيُّ: وقد أنكر جماعةٌ من كفرة الأطباءِ والفلاسفة: الجن، وقالوا: إنهم بسائط، ولا يصح طعامهم، اجتراء على الله والقرآن والسنة ترد عليهم، وليس في المخلوقات بسائط مركب من زوج، إنما الواحد سبحانه وتعالى، وغيره مركب، ليس بواحد كيفما تصرف حاله، وليس يمتنع أن يراهم النبي صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة وأكثر ما يتصورون هنا في صور الحياتِ.
ففي الحديثِ:
"أن رجلاً حديث عهدٍ بعرسٍ استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النَّهارِ أن يرجع إلى أهله" الحديث.
وفيه:
"فإذا حية عظيمة مطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها" وذكر الحديث.
وفي الحديث:
"أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ لهذه البيوتِ عوامر فإذا رأيتمْ منها شَيْئاً فحَرِّجُوا عليْها ثلاثاً، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر
وقال: اذهبوا فادفنوا صاحبكم"
.
وذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة كقوله في الصحيح: "إنِّ بالمدينة جنّاً قد أسْلمُوا" وهذه لفظ مختص بها فتختص بحكمها.
قال القرطبي: قلنا: هذا يدل على أنَّ غيرها من البيوت مثلها؛ لأنه لم يعلل بحرمة "المدينة"؛ فيكونُ ذلك الحكمُ مخصوصاً بها وإنَّما علل بالإسلام وذلك عام في غيرها، ألا ترى قوله في الحديث مخبراً عن الجنِّ الذين لقي وكانوا من جنِّ الجزيرة وعضد هذا قوله: "ونَهَى عَن عوامِر البيوتِ" وهذا عام وقد مضى في سورة البقرة.
قوله تعالى: { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً }، أي: قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كقوله تعالى
{ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ } [الأحزاب: 37]، { فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ } [القصص: 29] { فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } [الأحقاف: 29]، ووصف القرآن بـ"عَجَباً" إما على المبالغة، أي: خارجاً عن حد أشكاله إما في فصاحة كلامه، وإما في بلاغة مواعظه، أو عجباً من عظم بركته، أو عزيزاً لا يوجد مثله وإما على حذف مضاف أي ذا عجب، وإمَّا بمعنى اسم الفاعل، أي: معجب. قوله "يَهْدِي" صفة أخرى، أي: هادياً.
{ إِلَى ٱلرُّشْدِ }. قرأ العامةُ: "الرشد" بضمة وسكون، وابن عمر: بضمها وعنه أيضاً: فتحهما. وتقدم هذا في الأعراف. والمعنى: يهدي إلى الصواب.
وقيل: إلى التوحيد.
قوله تعالى: { فَآمَنَّا بِهِ }، أي: بالقرآن، أي: فاهتدينا به، وصدقنا أنه من عند الله، { وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً }، أي: لا نرجع إلى إبليس، ولا نطيعه، ولا نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك، وهذا يدل على أنَّ أولئك الجنِّ كانوا مشركين.
قوله: { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ }. قرأ الأخوان وابن عامر وحفص: بفتح "أنَّ"، وما عطف عليها بالواو في اثنتي عشرة كلمة، والباقون: بالكسر.
وقرأ أبو بكر وابن عامرٍ: "وإنَّهُ لمَّا قَامَ عبد الله يدعوه" بالكسر، والباقون: بالفتح.
واتفقوا على الفتح في قوله تعالى: { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ }.
وتلخيص هذه أن "أنَّ" المشددة في هذه السورة على ثلاثة أقسام:
قسم: ليس معه واو العطف، فهذا لا خلاف بين القراء في فتحه أو كسره على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية، كقوله { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ }، لا خلاف في فتحه لوقوعه موقع المصدر، وكقوله { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً }، لا خلاف في كسره لأنه محكي بالقول.
القسم الثاني: أن يقترن بالواو، وهوأربع عشرة كلمة، إحداها: لا خلاف في فتحها وهو قوله: { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } وهذا هو القسمُ الثاني.
والثالث: "وأنه لما قام" يكسرها ابن عامر وأبو بكر، وفتحها الباقون. كما تقدم تحرير ذلك كله.
والاثنتا عشرة: وهي قوله { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ } [الجن: 3]، { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ } [الجن: 4] { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [الجن: 5]، { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ } [الجن: 6]، { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ } [الجن: 7]، { وَأَنَّا لَمَسْنَا } [الجن: 8]، { وَأَنَّأ كُنَّا } [الجن: 9]، { وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ } [الجن: 10]، { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ } [الجن: 11]، { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [الجن: 12]، { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا } [الجن: 13]، { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ } [الجن: 14].
فهذا ضبطها من حيثُ القراءات، وأما توجيه ذلك فاختلف الناسُ فيه.
فقال أبو حاتم في الفتح: هو معطوف على مرفوع "أوحِيَ"، فتكون كلها في موضع رفع لما لم يسم فاعله.
ورد ذلك من حيث أنَّ أكثرها لا يصح دخولها تحت معمول "أوحِيَ"، ألا ترى أنه لو قيل "أوحي إلينا أنا لمسنا السماء، وأنا كنا، وأنا لا ندري وأنا منا الصالحون، وأنا لما سمعنا الهدى، وأنا منا المسلمون" لم يستقم معناه.
وقال مكيٌّ: وعطف "أن" على "آمنَّا بِهِ" أتم في المعنى من العطف على "أنَّهُ اسْتمَعَ" لأنَّك لو عطفت "وأنا ظننا، وأنا لما سمعنا، وأنه كان رجال من الإنس، وأنا لمسنا" وشبه ذلك على "أنَّهُ اسْتمَعَ" لم يجز؛ لأنه ليس مما أوحي إليه إنَّما هو أمر أخبروا به عن أنفسهم، والكسر في هذا أبينُ وعليه جماعة من القُرَّاءِ.
الثاني: أن الفتح في ذلك عطف على محل "بِهِ" من "آمنَّا بِهِ".
قال الزمخشريُّ: "كأنه قال: صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وأنه يقول سفيهنا، وكذلك البواقي".
إلا أن مكياً ضعف هذا الوجه فقال: "والفتح في ذلك على الجمل على معنى: "آمنَّا بِهِ"، فيه بعدٌ في المعنى؛ لأنهم لم يخبروا أنهم آمنوا، بأنهم لما سمعوا الهدى آمنوا به، ولم يخبروا أنَّهم آمنوا أنه كان رجال، إنما حكى الله عنهم أنهم قالوا ذلك مخبرين به عن أنفسهم لأصحابهم، فالكسر أولى بذلك"
وهذا الذي قاله غير لازم، فإن المعنى على ذلك صحيح، وقد سبق الزمخشري إلى هذا التخريج الفرَّاء والزجاج، إلا أن الفراء استشعر إشكالاً وانفصل عنه، فإنه قال: فتحت "أن" لوقوع الإيمان عليها، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض فلا يمنع من إمضائهن على الفتح، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح "أن" نحو: صدقنا، وشهدنا، كما قالت العرب: [الوافر]

4893 - وزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا

فنصب "العيونَ" لإتباعها "الحواجب"، وهي لا تزجج إنما تكحل، فأضمر لها الكحل. انتهى فأشار إلى شيء مما ذكره وأجاب عنه.
وقال الزجاج: "لكن وجهه أن يكون محمولاً على "آمنَّا بِهِ" وصدقناه وعلمناه، فيكون المعنى: صدقنا أنه تعالى جد ربِّنا ما اتخذ صاحبة".
الثالث: أنه معطوف على الهاء في "بِهِ"، أي: آمنا به وبأنه تعالى جد ربنا، وبأنه كان يقول - إلى آخره - وهو مذهب الكوفيين.
وهو، وإن كان قوياً من حيثُ المعنى، إلا أنه ممنوع من حيث الصناعة لأنه لا يعطف على الضمير المجرور، إلا بإعادة الجار.
وتقدم تحرير هذين القولين في سورة "البقرة" عند قوله:
{ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [البقرة: 217] على أن مكياً قد قوى هذا المدرك، وهو حسن جداً، فقال: هو يعني العطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار في "أن" أجود منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر "إلى" مع "أن".
ووجه الكسر: العطف على "إن" في قوله: "إنَّا سَمعْنَا" فيكون الجميع معمولاً للقول فقالوا: "إنَّا سَمِعْنَا"، وقالوا: "إنَّه تعَالى جَدُّ ربِّنَا" إلى آخرها.
وقال بعضهم: الجملتان من قوله تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ }، { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ } معترضتان بين قول الجن، وهما من كلام الباري تعالى.
والظاهر أنه من كلامهم قاله بعضهم لبعض.
ووجه الكسرِ والفتح في قوله: { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ } ما تقدم.
ووجه إجماعهم على فتح { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على "أنَّه اسْتَمَعَ" فيكون موحى أيضاً.
والثاني: أنه على حذف حرف الجر، وذلك الحرف متعلق بفعل النهي، أي: فلا تدعوا مع الله احداً، لأن المساجد لله. ذكرهما أبو البقاء.
وقال الزمخشريُّ: "أنَّهُ اسْتَمَع" - بالفتح - لأنه فاعل "أوْحِيَ"، و "إنَّا سَمِعْنَا" بالكسر لأنه مبتدأ، محكي بعد القول، ثُمَّ يحمل عليهما البواقي، فما كان من الوحي فتح، وما كان من قول الجنِّ كسر، وكلهم من قولهم الثنتين الأخريين وهما: "وأن المساجد، وأنه لما قام عبد الله يدعوه"، ومن فتح كلهن، فعطفاً على محلّ الجار والمجرور في "آمنَّا بِهِ"، أي: صدقناه وصدقنا به.
والهاء في { أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ }، وأنه تعالى وما بعد ذلك ضمير الأمر والشأن، وما بعده خبر "أن".
قوله: { جَدُّ رَبِّنَا }. قرأ العامة: { جَدّ رَبَّنَا } بالفتح لـ"رَبَّنَا".
والمراد به هنا العظمة.
وقيل: قدرته وأمره.
وقيل: ذكره.
والجدُّ أيضاً: الحظُّ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
"وَلاَ ينفعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ" والجدُّ أيضاً: أبو الأب، والجدُّ أيضاً - بالكسر - ضد التواني في الأمر.
وقرأ عكرمة: بضم ياء "ربُّنا" وتنوين "جدٌّ" على أن يكون "ربنا" بدلاً من "جد".
والجد: العظيمُ. كأنه قيل: وأنه تعالى عظم ربنا، فأبدل المعرفة من النكرة.
وعنه أيضاً: "جداً" على التمييز و "ربنا" فاعل بـ"تعَالى"، وهو منقول من الفاعلية؛ إذ التقدير: "جد ربنا" ثم صار تعالى ربنا جداً أي عظمة نحو تصبب زيداً عرقاً أي عرق زيد، وعنه أيضاً وعن قتادة كذلك إلا انه بكسر الجيم، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه نعت لمصدر محذوف، وربنا فاعل بـ "تعالى"، والتقدير: تعالى ربُّنا تعالياً جداً، أي: حقاً لا باطلاً.
والجِدُّ - بكسر الجيم - ضد الهزل.
والثاني: أنه منصوب على الحال، أي: تعالى ربنا حقيقة وتمكناً، قاله ابن عطية.
وقرأ حميد بن قيس: "جُدُّ ربِّنا" - بضم الجيم - مضافاً لـ"ربِّنا"، وهو بمعنى العظيم حكاه سيبويه.
وهو في الأصل من إضافة الصفة لموصوفها؛ إذ الأصل: ربنا العظيم، نحو: "جرد قطيفة" الأصل: قطيفةُ جرد، وهو مؤولٌ عن البصريين.
وقرأ ابنُ السميقع: "جدا ربنا" بألف بعد الدال مضافاً لـ"ربِّنا".
والجَدَا والجدوى: النفع والعطاء، أي: تعالى عطاء ربِّنا ونفعه.
فصل في معنى "الجد"
قال القرطبيُّ: الجد في اللغة: العظمةُ والجلالُ، ومنه قول أنس - رضي الله عليه -: "كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا" أي: عظم وجل فمعنى "جَدُّ ربِّنَا" أي: عظمته وجلاله، قاله عكرمة ومجاهد وقتادة، وعن مجاهد أيضاً: ذكره.
وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمةُ أيضاً: غناه.
ومنه قيل للحظ جد ورجل مجدود: أي: محظوظ، وفي الحديث:
"وَلا يَنْفَعُ ذَا الجدِّ منْكَ الجَدُّ" قال أبو عبيد والخليل، أي ذا الغنى منك الغنى، إنما تنفعه الطاعة.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: قدرته وقال الضحاك: فعله.
وقال القرظي والضحاك: آلاؤهُ ونعماؤه على خلقه.
وقال أبو عبيد والأخفش: ملكه وسلطانه.
وقال السدي: أمره.
وقال سعيد بن جبير: { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا }، أي: تعالى ربنا.
وقيل: إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أبو الأب، ويكون هذا من الجنِّ.
وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع: ليس لله تعالى جد وإنما قالته العرب للجهالة فلا يوحدونه.
قال القشيريُّ: ويجوز إطلاق لفظ الجدِّ في حق الله تعالى إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن، غير أنه لفظ موهم، فتجنُّبُه أولى.
قال القرطبيُّ: "ومعنى الآية: وأنه تعالى جدُّ ربِّنا أن يتخذ ولداً أو صاحبة للاستئناس بهما، أو الحاجة إليهما، والربُّ يتعالى عن ذلك كما يتعالى عن الأنداد والنظراء".
وقوله عز وجل: { مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً }، مستأنف، فيه تقرير لتعالي جده.
قوله: { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً }.
الهاء في "أنه" للأمر أو الحديث، و "سَفِيهُنَا" يجوز أن يكون اسم "كَانَ" و "يقُولُ" الخبر، ولو كان مثل هذه الجملة غير واقعة خبراً لـ"كَانَ" لامتنع تقديمُ الخبرِ حينئذ، نحو "سَفِيهُنَا يقُولُ"، لو قلت: "يَقُولُ سَفيْهُنَا" على التقديم والتأخير، لم يجز فيه والفرق أنه في غير باب "كَانَ" يلتبس بالفعل والفاعل، وفي باب "كَانَ" يؤمن ذلك.
ويجوز أن يكون "سَفِيهُنَا" فاعل "يقُولُ" والجملة خبر "كَانَ" واسمها ضمير الأمر مستتر فيها، وقد تقدم هذا في قوله:
{ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } [الأعراف: 137] وقوله تعالى: { شَطَطاً } تقدم في سورة الكهف مثله.
قال القرطبيُّ: "ويجوز أن يكون "كان" زائدة، والسفيه: هو إبليس، في قول مجاهد وابن جريج وقتادة. ورواه أبو بردة عن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: المشركون من الجنِّ.
قال قتادةُ: عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس والشططُ والإشطاط: الغلو في الكفر.
قال أبو مالك: هو الجور وقال الكلبي: هو الكذب وأصله البعد ويعبر به عن الجور لبعده عن العدل وعن الكذب لبعده عن الصدق؛ قال الشاعر: [الطويل]

4894 - بأيَّةِ حالٍ حَكَّمُوا فِيكَ فاشْتَطُّوا وما ذَاكَ إلاَّ حَيْثُ يَمَّمَكَ الوَخْطُ

قوله: { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } أي: حسبنا { أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً }.
"أنْ" مخففة، واسمها مضمر والجملة المنفية خبرها، والفاعل بينهما هنا حرف النفي، و "كذباً" مفعول به، أو نعت مصدر محذوف، أي: قولاً كذباً.
وقرأ الحسن والجحدري وأبو عبد الرحمن ويعقوب: "تقَوَّل" - بفتح القاف والواو المشددة - وهو مضارع "تقوَّل" أي: كذب، والأصل: تتقوَّل، فحذف إحدى التاءين، نحو "تذكرون". وانتصب "كَذِباً" في هذه القراءة على المصدر؛ لأن التقول كذب، فهو نحو قولهم: "قَعدْتُ جُلُوساً".
ومعنى الآية: وأنَّا حسبنا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولداً حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق.
وقيل: انقطع الإخبار عن الجنِّ - هاهنا - فقال الله تعالى جل ذكره لا إله إلا هو-:
{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ } فمن فتح، وجعله من قول الجنِّ ردَّها إلى قوله: { أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ }، ومن كسرها جعلها من قول الله تعالى.
والمراد به ما كانوا يفعلونه، من قول الرجل إذا نزل بواد: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في جواره حتى يصبح، قاله الحسن وابن زيد وغيرهما.
وقيل: كانوا في الجاهلية إذ أقحطوا، بعثُوا رائدهم، فإذا وجد مكاناً فيه كلأ وماءٌ رجع إلى أهله فسار بهم حتى إذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذُ بك بربِّ هذا الوادي أن تصيبنا فيه آفةٌ، يعنون من الجن، فإن لم يفزعهم أحد نزلوا، وإن أفزعهم الجن رجعوا.
قال مقاتل: أول من تعوذ بالجنِّ قومٌ من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلَّما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم.
وقال كردم بن أبي السائب: خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فآواني المبيت إلى راعي غنمٍ، فلما انتصف الليل جاء الذئب، فحمل حملاً من الغنم، فقال الراعي: يا عامر الوادي جارك الله، فنادى منادٍ: يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمةٌ، فأنزل الله تعالى على رسوله السيد الكامل المكمل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بمكة: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً }، أي: زاد الجنُّ الإنس رهقاً، أي: خطيئة، وإنما قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم.
والرَّهقُ: الإثم في كلام العرب وغشيان المحارم، ورجل رهق إذا كان كذلك، ومنه قوله:
{ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [يونس: 27]؛ وقال الأعشى: [البسيط]

4895 - لا شَيْءَ يَنْفعُنِي من دوُنِ رُؤْيتها هَلْ يَشتفِي عَاشقٌ ما لم يُصِبْ رَهقَا

يعني إثماً، ورجل مرهق، أي: يغشاه السائلون.
قال الواحديُّ: الرَّهَقُ: غشيان الشيء، ومنه قوله تعالى: { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ }.
وأضيفت الزيادةُ إلى الجن إذ كانوا سبباً لها.
وقال مجاهد أيضاً: "فزَادُوهُم" أي: أن الإنس زادوا الجنَّ طغياناً بهذا التعوذ، حتى قالت الجنُّ: "سدنا الإنس والجن".
وقال قتادة أيضاً، وأبو العالية والربيع وابن زيد: ازداد الإنس بهذا فرقاً وخوفاً من الجن.
وقال سعيد بن جبير: كفراً.
ولا يخفى أنَّ الاستعاذة بالجنِّ دون الاستعاذة بالله شركٌ وكفرٌ.
وقيل: لا يطلق لفظ الرجال على الجنِّ، فالمعنى: وأنه كان رجالٌ من الإنس يعوذون من شرِّ الجن برجال من الإنس وكان الرجل من الإنس يقول مثلاً: أعوذ بحذيفة بن بدر من جنِّ هذا الوادي.
قال القشيريُّ: وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق الرِّجالِ على الجن.
وقوله: "مِنَ الإنس" صفة لـ"رِجَالٌ" وكذلك قوله "مِنَ الجِنِّ".
قوله تعالى: { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً }.
الكلام في "أنْ لنْ" كالكلام في الأول، و "أن" وما في خبرها، سادةٌ مسدَّ مفعولي الظن والمسألة من باب الإعمال، لأن "ظنُّوا" يطلب مفعولين، و "ظَننْتُم" كذلك، وهو من إعمال الثاني للحذف من الأول.
والضمير في "أنَّهُم ظنُّوا" للإنس، وفي "ظَنَنْتُمْ"، للجن، ويجوز العكس
فصل في الخطاب في الآية
هذا من قول الله تعالى للإنس، أي: وإن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم.
قال الكلبيُّ: ظنت الجنُّ كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولاً من خلقه يقيم به الحجة عليهم وكل هذا توكيد للحجة على قريش، أي: إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد صلى الله عليه وسلم فأنتم أحق بذلك.
قوله: { وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ }. هذا من قول الجنِّ، أي: طلبنا خبرها كما جرت عادتنا { فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً }، أي ملئت حفظاً يعني: الملائكة.
فاللَّمْسُ: المس، فاستعير للطلب، لأن الماس متقرب، يقال: لمسه والتمسه ونحوه الجس يقال: جسوه بأعينهم وتجسسوه.
والمعنى: طلبنا بلوغ السَّماء واستماع كلام أهلها.
قوله: { فَوَجَدْنَاهَا }، فيها وجهان:
أظهرهما: أنها متعدية لواحد؛ لأن معناها: أصبنا وصادفنا، وعلى هذا فالجملة من قوله "مُلِئَتْ" في موضع نصب على الحال على إضمار "قَدْ".
والثاني: أنها متعدية لاثنين، فتكونُ الجملة في موضع المفعول الثاني.
و "حَرَساً" نصب على التمييز نحو "امتلأ الإناء ماء".
والحَرَس: اسم جمع لـ"حَارِس" نحو "خَدَم" لـ"خَادِم" و "غيب" لغائب، ويجمع تكسيراً على "أحْراس"؛ كقول امرىء القيس: [الطويل]

4896 - تَجَاوَزْتُ أحْرَاساً وأهْوَال مَعْشَرٍ حِرَاصٍ عليَّ لو يُسِرُّونَ مَقْتَلِي

والحارس: الحافظُ الرقيبُ، والمصدر الحراسةُ، و "شديداً" صفة لـ"حَرسَ" على اللفظ؛ كقوله: [الرجز]

4897 - أخْشَى رُجَيْلاً أو رُكَيْباً عَادِيَا

ولو جاء على المعنى لقيل: "شداد" بالجمع، لأن المعنى: مُلئتْ ملائكة شداد، كقولك السلف الصالح، يعني: الصالحين.
قال القرطبيُّ: "ويجوز أن يكون حَرَساً مصدراً على معنى: حرست حراسة شديدة".
قوله: "وشُهُباً". جمع "شِهَاب" كـ"كِتَابِ وكُتُب".
وقيل: المراد النجوم، أو الحرسُ أنفسهم، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراقة السمع، وقد تقدم في سورة "الحجر، والصافات".
وإنَّما عطف بعض الصفات على بعض عند تغاير اللفظ، كقوله: [الطويل]

4898 -.......................... وهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ

وقرأ الأعرجُ: "مُلِيتْ" بياء صريحة دون همزة.
قوله: { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ }، المقاعد: جمع "مقعد" اسم مكان، والضمير في "منها"، أي: من السماء، والمقاعد مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء، وذلك أنَّ مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماءِ فيلقوها إلى الكهنة فحرسها الله - تعالى - حين بعث رسوله بالشهب المحرقةِ، فقالت الجن حينئذ: { فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } يعني بالشهاب الكواكب المحرقة.
قوله "الآن". هو ظرفٌ حالي، واستعير هنا للاستقبال، كقوله الشاعر: [الوافر]

4899 -..................... سأسْعَى الآنَ إذ بَلغَتْ إنَاهَا

فاقترن بحرف التنفيس، وقد تقدم هذا في البقرة عند قوله: "فالآن باشروهن".
و "رصداً" إما مفعول له، وإما صفة له "شهاباً" أي "ذا رصد" وجعل الزمخشري: "الرصد" اسم جمع كـ"حرس"، فقال: والرصد: اسم جمع للراصد كـ"حرس" على معنى: ذوي شهاب راصدين بالرجم وهم الملائكة ويجوز أن يكون صفة لـ"شهاب" بمعنى الراصد، أو كقوله: [الوافر]

4900 -....................... ............ ومِعَى جَياعَا

فصل في بيان متى كان قذف الشياطين
اختلفوا: هل كانت الشياطينُ تقذف قبل البعث أو كان ذلك أمراً حدث لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم؟
فقال قوم: لم تحرس السماء في زمن الفترة فيما بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - خمسمائة عامٍ، وإنَّما كان من أجل بعثة النبي فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلِّها وحرست بالملائكة والشهب، قاله الكلبيُّ، ورواه عطية عن ابن عباس، ذكره البيهقي.
وقال عبد الله بن عمرو: لما كان اليوم الذي نُبِّىءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم منعتِ الشياطينُ ورموا بالشُّهبِ.
وقال عبد الملك بن سابور: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى، ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حُرستِ السماءُ ورميتِ الشياطينُ بالشهب، ومنعت من الدنو من السماء.
قال نافع بن جبيرٍ: كانت الشياطين في الفترة تستمع فلا ترى، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب، ونحوه عن أبي بن كعبٍ قال: لم يرم بنجم، منذ رفع عيسى - عليه الصلاة والسلام - حتى نُبِّىءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُمِيَ بها.
وقيل: كان ذلك قبل البعثِ، وإنِّما زادت بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنذاراً بحاله.
وهو معنى قوله: "قَدْ مُلِئَتْ"، أي: زيد في حرسها.
وقال أوس بن حجر - وهو جاهلي -: [الكامل]

4901 - فانْقَضَّ كالدُّرِّيِّ يَتْبَعُهُ نَقعٌ يَثُورُ تَخالهُ طُنُبَا

قال الجاحظُ: "هذا البيت مصنوع، لأنَّ الرمي لم يكن قبل البعث".
والقول بالرمي أصح لهذه الآية، لأنها تخبر عن الجن، أنَّها أخبرت بالزيادة في الحرس وأنها امتلأت من الحرس، والشهب.
وقال بشر ابن أبي خازم: [الكامل]

4902 - والعِيرُ يَرْهَقُها الغُبَارُ وجَحْشُهَا يَنقَضُّ خَلفَهُمَا انقِضَاضَ الكَوْكَبِ

وروى الزهريُّ عن علي بن الحسين عن ابن عباس - رضي الله عنهم - قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا كُنتُمْ تقُولونَ في مِثْلِ هذا فِي الجَاهليَةِ؟.
قالوا: كُنَّا نقُولُ: يَمُوتُ عَظِيمٌ ابنُ عظيمِ، أو يولد عظيم [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها لا ترمى لموتِ أحدٍ ولا لحياته، ولكنَّ رَبَّنَا - تبارك وتعالى - إذَا قَضَى أمْراً فِي السَّماءِ، سبَّح حملةُ العَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أهْلُ كُلِّ سماءٍ، حتَّى يَنتهِي التَّسبيحُ إلى هذه السَّماءِ، ويَسْتَخْبِر أهْلُ السَّماءِ: ماذا قال ربُّكمْ، فيُخْبَرُون، ويُخبر أهْلُ كُلِّ سماءٍ، حتَّى يَنْتَهِي الخَبَرُ إلى هذه السَّماءِ فتَخْطفُهُ الجنُّ، فيروونه كما جاءُوا به فهو حقٌّ ولكنَّهم يزيدُون فيه"

وهذا يدلُّ على أن هذه الشهب كانت موجودة قبل البعث، وهو قول الأكثرين.
قال الجاحظ: فلو قال قائلٌ: كيف تتعرض الجنُّ لإحراق نفسها بسماع خبرٍ بعد أن صار ذلك معلوماً عندهم؟.
فالجوابُ: أنَّ الله تعالى ينسيهم ذلك، حتى تعظم المحنة كما ينسى إبليس في كل وقت أنه لا يسلم، وأن الله - تعالى - قال له:
{ وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الحجر: 35]، ولولا هذا لما تحقق التكليف.
قال القرطبيُّ: "والرَّصدُ"، قيل: من الملائكة، أي: ورصداً من الملائكة، وقيل: الرَّصَد هو الشهب، والرصد: الحافظ للشيء، والجمع أرصاد، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعاً كالحرس، والواحد: راصد.
وقيل: الرَّصَد هو الشهاب، أي: شهاب قد أرصد له ليرجم به فهو "فعل" بمعنى "مفعول" كـ"الخَبَط والنفض".
قوله: { وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ }، في { أَشَرٌّ أَرِيدَ } وجهان:
أحسنهما: الرفع بفعل مضمر على الاشتغال، وإنما كان أحسن لتقدم طالب الفعل وهو أداة الاستفهام.
والثاني: أن الرفع على الابتداءِ.
ولقائل أن يقول: يتعين هذا الرفع بإضمار فعل لمدرك آخر، وهو أنه قد عطف بـ"أمْ" فعل، فإذا أضمرنا فعلاً رافعاً، كنا قد عطفنا جملة فعلية على مثلها، بخلاف رفعه بالابتداء فإنه - حينئذٍ - يخرجُ "أمْ" عن كونها عاطفة إلى كونها منقطعة إلا بتأويلٍ بعيدٍ، وهو أن الأصل: أشَرٌّ أريد بهم، أم خيرٌ، فوضع لقوله: "أمْ أراد بِهمْ" موضع خير.
وقوله: "أشَرٌّ" ساد مسدَّ مفعول "ندري"، بمعنى أنه معلق به، وراعى معنى "مَنْ" في قوله: "بِهمْ ربُّهُمْ" فجمع.
فصل في معنى الآية
قال ابن زيد: معنى الآية: أنَّ إبليس قال: لا ندري هل أراد بهذا المنعِ أن ينزل على أهل الأرض عذاباً، أو يرسل إليهم رسولاً.
وقيل: هو من قول الجنِّ فيما بينهم من قبل أن يسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم أي: لا ندري أشرٌّ أريد بمن في الأرض بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا، فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي.
وقيل: لا، بل هذا قول قالوه لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين، أي: لما آمنوا أشفقوا أن لا يؤمن كثيرٌ من أهل الأرض فقالوا: إنَّا لا ندري، أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون؟.
قوله: { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ }.
هذا من قول الجنِّ، أي: قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم: وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون.
قوله: { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ }، يحتمل وجهين:
أحدهما: يحتمل أن "دُونَ" بمعنى "غير"، أي: ومنا غير الصالحين، أي: كافرون، وهو مبتدأ، وإنما فتح لإضافته إلى غير متمكن كقوله:
{ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [الأنعام: 94] فيمن نصب على أحد الأقوال، وإلى هذا نحا الأخفش.
والثاني: أن "دُونَ" على بابها من الظرف، وأنها صفة لمحذوف، تقديره: ومنا فريق أو فوج دون ذلك، وحذف الموصوف مع "مِنْ" التبعيضية يكثر، كقولهم: منَّا ظعنَ ومنَّا أقام، أي: منا فريقٌ ظعن، ومنا فريق أقام.
ومعنى الآية: ومنا صالحون دون أولئك في الصلاح.
قوله: { كُنَّا طَرَآئِقَ }، فيه أوجه:
أحدها: أن التقدير: كنا ذوي طرائق، أي: ذوي مذاهب مختلفة.
الثاني: أن التقدير: كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائقِ المختلفةِ.
الثالث: أن التقدير: كنا ذوي طرائقَ مختلفةٍ؛ كقوله: [الكامل]

4903 -............................. كَمَا عَسَلَ الطَّريقَ الثَّعلَبُ

الرابع: أن التقدير: كانت طريقتنا طرائق قدداً، على حذف المضاف الذي هو الطرائقُ، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه، قاله الزمخشريُّ.
فقد جعل في ثلاثة أوجه مضافاً محذوفاً.
وقال: إنَّه قدر في الأول: "ذَوِي".
وفي الثاني: مثل.
وفي الثالث: طرائق.
ورد عليه ابو حيَّان قوله: { كُنَّا طَرَآئِقَ }؛ كقوله: [الكامل]

4904 -............................ كَمَا عَسَل الطَّريقَ الثَّعلبُ

بأن هذا لا يجوز إلا في ضرورة أو ندور، فلا يخرج القرآنُ عليه، يعني تعدى الفعل بنفسه إلى ظرف المكان المختص.
والقددُ: جمع قددة، والمراد بها الطريقةُ، وأصلها السيرة، يقال: قِدَّة فلان حسنة، أي: سيرته، وهو من قدَّ السير، أي: قطعه على استواء، فاستعير للسيرة المعتدلة.
قال الشاعر: [البسيط]

4905 - ألقَابِضُ البَاسِطُ الهَادِي بطَاعتِه في فِتْنَةِ النَّاس إذْ أهْواؤهُم قِدَدُ

وقال آخر: [البسيط]

4906 - جَمعْتُ بالرَّأي منهُمْ كُلَّ رَافضَة إذْ هُمْ طَرائقُ في أهوائِهمْ قِدَدُ

وقال لبيد في أخيه: [المنسرح]

4907 - لَمْ تَبْلُغِ العَيْنُ كُلَّ نَهْمتهَا لَيْلةَ تُمْسِي الجِيادُ كالقِددِ

والقِدُّ - بالكسر - سير يُقَدّ من جلد غير مدبوغ، ويقال: ما له قد ولا قحف، فالقد: إناء من جلد، والقحف: إناء من خشب.
فصل في معنى الآية
قال سعيد بن المسيِّب: معنى الآية "كنا مسلمين، ويهود ونصارى ومجوساً".
وقال السدي: في الجن مثلكم قدرية، ومرجئة وخوارج، ورافضة، وشيعة، وسنية.
وقال قوم: إنا بعد استماع القرآنِ مختلفون منا المؤمنون، ومنا الكافرون.
وقيل: أي: ومنا الصالحون ومنا المؤمنون لم يتناهوا في الصلاح.
قال القرطبيُّرحمه الله : "والأول أحسن، لأنه كان في الجن من آمن بموسى، وعيسى، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا:
{ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [الأحقاف: 30]، وهذا يدل على إيمان قوم منهم في دعاء من دعاهم إلى الإيمان، وأيضاً لا فائدة في قولهم: نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر، والطرائق: جمع طريقة، وهي مذهب الرجل، أي: كنا فرقاً، ويقال: القوم طرائق أي: على مذاهب شتَّى، والقددُ: نحو من الطرائق وهو توكيد لها واحده: قدَّة، يقال: لكل طريقةٍ قِدَّةٌ".
قوله: { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً }.
والظنُّ هنا بمعنى العلم، واليقين، وهو خلاف الظن في قوله تعالى: { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً }، "وأنَّهُم ظنُّوا"، أي: علماً بالاستدلال والتفكر في آيات الله تعالى، أنا في قبضته، وسلطانه لن نفوته بهرب، ولا غيره.
وقوله: "فِي الأرضِ"، حال، وكذلك "هَرباً" مصدر في موضع الحالِ، تقديره: لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء.
قوله: { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ }، يعني القرآن "آمنَّا بِهِ"، وباللَّه، وصدقنا محمداً صلى الله عليه وسلم على رسالته، وكان صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الإنس والجنِّ.
قال الحسن - رضي الله عنه - بعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن ولم يبعث الله قط رسولاً من الجنِّ ولا من أهل البادية ولا من النِّساء، وذلك قوله تعالى:
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } [يوسف: 109].
وفي الحديث:
"بُعثْتُ إلى الأحْمَرِ والأسْودِ" أي: الإنس والجن. وقد تقدم هذا الكلام في سورة الأنعام في قوله تعالى: { يَامَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ } [الآية: 130].
قوله: { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً }.
قال ابنُ عباس: لا يخاف أن ينقص من حسناته، ولا أن يزاد في سيئاته؛ لأن البخس: النقصان، والرهق: العدوان، وغشيان المحارمِ، وقد تقدم في بيت الأعشى.
قوله: "فَلا يَخَافُ"، أي: فهو لا يخافُ، أي فهو غير خائف؛ ولأن الكلام في تقدير مبتدأ وخبر فلذلك دخلت الفاءُ، ولولا ذلك لقيل: لا يخف، قاله الزمشخريُّ.
ثم قال: "فإن قلت: أي فائدة في رفع الفعل، وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبراً له ووجوب إدخال الفاء، وكان كل ذلك مستغنى عنه بأن يقال: لا يخف؟.
قلتُ: الفائدة أنَّه إذا فعل ذلك فكأنه قيل: "فهُو لا يخَافُ"، فكان دالاً على تحقيق أن المؤمن ناجٍ لا محالة وأنَّه هو المختص بذلك دُون غيره".
قال شهاب الدين: "وسببُ ذلك أن الجملة تكون اسمية حينئذٍ، والاسمية أدلُ على التحقيقِ والثبوتِ من الفعلية".
وقرأ ابن وثاب والأعمشُ: بالجزم، وفيها وجهان:
أحدهما: ولم يذكر الزمخشريُّ غيره، أن "لا" نافية، والفاء حينئذ واجبة.
والثاني: أنها نافية، والفاء حينئذٍ زائدةٌ، وهذا ضعيفٌ.
وقوله "بَخْساً"، فيه حذف مضاف، أي: جزاء بخس، كذا قرره الزمخشريُّ.
وهو مستغنى عنه.
وقرأ ابن وثاب: "بَخَساً" بفتح الخاء.
قال القرطبيُّ: وقرأ الأعمش ويحيى وإبراهيم: "فَلا يَخفْ" جزماً على جواب الشرط، وإلغاء الفاء أيضاً.
قوله: { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ }. أي: وأنا بعد استماع القرآن مختلفون، فمنا من أسلم ومنا من كفر، والقاسط: الجائر لأنه عادل عن الحق، والمقسط: العادل لأنه عادل إلى الحق، قسط: إذا جار، وأقسط: إذا عدل؛ قال: [الكامل]

4908 - قَوْمٌ همُ قتلُوا ابنَ هِنْدٍ عَنْوةً عَمْراً وهُمْ قَسطُوا على النُّعمَانِ

وقد تقدم في أول "النساء" أن "قَسَطَ": ثلاثياً بمعنى "جَارَ"، و "أقسط" الرباعي بمعنى "عَدَل". وأن الحجاج قال لسعيد بن جبيرٍ: ما تقول فيَّ؟.
قال: إنَّك قاسط عادل، فقال الحاضرون: ما أحسن ما قال، فقال: يا جهلة، جعلني كافراً جائراً، وتلا قوله تعالى: { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً }. وقرأ
{ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [الأنعام: 1].
قوله: { فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً }.
أي: قصدوا طريق الحقِّ، وتوخوه، وطلبوه باجتهاد، ومنه التحري في الشيء.
قال الراغبُ: "حرى الشيء يحري، أي: قصد حراه، أي: جانبه، وتحراه كذلك، وحَرَى الشيء يَحْرِي، نقص، كأنَّه لزم حراه، ولم يمتد؛ قال الشاعر: [الكامل]

4909 -.............................. والمَرْءُ بَعْدَ تمامهِ يَحْرِي

ويقال: رماه الله بأفعى حارية، أي: شديدة" انتهى.
وكأن أصله من قولهم: هو حريٌّ بكذا، أي حقيق به. و "رَشَداً" مفعول به.
والعامة قرأوا: "رشداً" - بفتحتين - والأعرج: بضمة وسكون.
قوله: { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ }. أي: الجائرون عن طريق الحق والإيمان { فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } أي: وقوداً، وقوله "فَكانُوا" أي: في علم الله تبارك وتعالى.
فإن قيل: ذكر عقاب القاسطين ولم يذكر ثواب المسلمين.
فالجواب: بل ذكر ثواب المؤمنين بقوله { تَحَرَّوْاْ رَشَداً } أي: تَحرَّوا رشداً عَظِيماً لا يعلم كنهه إلاَّ الله تعالى، ومثل هذا لا يتحقق إلا بالثَّواب.
فإن قيل: فإنَّ الجنَّ مخلوقون من النَّار، فكيف يكونون حطباً للنار؟.
فالجواب: أنّهم وإن خلقوا من النار لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية فيصيرون لحماً، ودماً هكذا قيل.
وهذا آخر كلام الجن.
قوله { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ }، "أنْ" هي المخففة من الثقيلة، وتقدم أنه يكتفي بـ"لو"، فأصله بين "أن" المخففة، وخبرها إذا كان جملة فعلية في سورة "سَبَأ".
وقال أبو البقاء هنا: "ولو" عوض كالسِّين، وسوف، وقيل: "لَوْ" بمعنى "إن" و "إن" بمعنى اللام، وليست بلازمة كقوله
{ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ } [مريم: 46]، وقال في موضع آخر: { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ } [المائدة: 37] ذكره ابن فضالة في البرهان.
قال شهاب الدين: "وهذا شاذٌّ لا يلتفت إليه ألبتة لأنه خلاف النحويين".
وقرأ العامة: بكسر "وأن لو" على الأصل.
وابن وثَّاب والأعمشُ: بضمها، تشبيهاً بواو الضمير. وقد تقدم تحقيقه في البقرة.
فصل في بيان أن الله أوحى إليهم أن الإيمان سبب البسطة في الرزق
هذا من كلام الله تعالى، أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق، وهذا محمولٌ على الوحي، أي أوحي إليَّ أن لو استقاموا.
قال ابنُ بحر كل ما كان في هذه السروة من "أنَّ" المثقلة فهي حكايةٌ لقول الجن الذين سمعوا القرآن، فرجعوا إلى قومهم منذرين، وكل ما فيها من "أن" المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن الأنباريِّ: ومن كسر الحروف، وفتح { وأنْ لو اسْتقَامُوا } أضمر يميناً تأويلها: والله أن لو استقاموا على الطريقة، كما يقال في الكلام: والله إن قمت لقمت، والله لو قمت قمت.
قال الشاعر: [الوافر]

4910 - أمَا - واللَّهِ - أن لَوْ كُنْتَ حُرّاً ومَا بالحُرِّ أنْتَ ولا العَتِيقِ

ومن فتح ما قبل المخففة نسقها على تقدير: { أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ }، { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ } أو "على آمنا به" ويستغنى عن إضمار اليمين.
والضمير في قوله { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ }، قيل: يرجع إلى الجنِّ الذين تقدم ذكرهم ووصفهم أي: هؤلاء القاسطون لو أسلموا لفعلنا بهم كذا وكذا.
وقيل: بل المراد الإنس لأن الترغيب في الانتفاع بالماءِ الغدقِ، إنما يليق بالإنس، لا بالجن وأيضاً أن هذه الآية إنَّما نزلت بعد ما حبس الله المطر عن أهل مكة سنين، أقصى ما في الباب أنَّهُ لم يتقدم ذكر الإنس، ولكنه لما كان ذلك معلوماً جرى مَجْرى قوله:
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [القدر: 1].
وقال القاضي: الأقرب أن الكل يدخلون فيه.
قال ابن الخطيب: "ويدل على صحة قول القاضي، أنه تعالى أثبت حكماً معللاً بعلة، وهي الاستقامةُ فوجب أن يعم الحكم لعموم العلة".
والغدق - بفتح الدال وكسرها -: لغتان في الماء الغزير، ومنه الغداق: للماء الكثيرِ وللرجل الكثير الغدق، والكثير النطق.
ويقال: غدقت عينه تغدق أي: هطل دمعها غدقاً.
وقرأ العامة: "غَدَقاً" بفتحتين.
وعاصم فيما يروي عنه الأعشى، بفتح الغين وكسر الدال، وقد تقدم أنهما لغتان.
قوله: { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ }.
قال ابن الخطيب: إن قلنا: إن الضمير راجعٌ إلى الجنِّ ففيه قولان:
أحدهما: أن المعنى لو ثبت أبوهم على عبادته وسجد لآدم، ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم كقوله تعالى:
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ آمَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [الأعراف: 96] الآية، { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } [المائدة: 66] الآية، وقوله: { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } [الطلاق: 2]. وقوله: { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ } [نوح: 10 - 11]، إلى قوله: { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } [نوح: 12] الآية.
وإنَّما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافعِ وهذا هو اللائق بالجنِّ لا الماء المشروب.
الثاني: أن المعنى لو استقام الجنُّ أي الذين سمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها، ولم ينتقلوا عن الإسلام لوسعنا عليهم الدنيا كقوله:
{ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ } [الزخرف: 33] الآية.
والقول الأول: اختيار الزجاج، قال: لأنَّه تعالى ذكر الطريقة معرفة بالألف واللام فيرجع إلى الطريقة المعروفة، وهي طريقة الهدى.
ومعنى: { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي: لنختبرهم هل يقومون بشكرها أم لا، وإن قلنا: إنَّ الضمير يعود على الإنس فالاحتمالان كما هما.
قوله: { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ }، دليلٌ على أنه تبارك وتعالى يضل عباده. وأجاب المعتزلة، بأنَّ الفتنة هي الاختبار، كما يقال: فتنت الذهب بالنار لا خلق الضلالة.
واستدلت المعتزلة بقوله تعالى { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } على أنه تعالى إنما يفعل لغرض.
وأجيبوا: بأن الفتنة بالاتفاق ليست مقصودة فدلَّت هذه الآية على أن اللام ليست للغرض في حق الله تبارك وتعالى.
فصل في التحذير من الدنيا
روى مسلمُ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أخْوفُ ما أخَافُ عليْكمْ ما يُخْرجُ اللَّهُ لكم مِنْ زهرةِ الدُّنيَا قالوا: ومَا زَهْرةُ الدُّنيَا؟.
قال: بَركَاتُ الأرْضِ. وذكر الحديث"
وقال - عليه الصلاة والسلام -: "فواللَّهِ مَا الفَقْرَ أخْشَى عليْكُم، وإنَّما أخْشَى علَيكُمْ أنْ يبسِطَ اللَّهُ عَليكُم الدُّنْيَا فتَنَافَسُوا فيها كما تَنَافَسَ فِيهَا مَنْ كَانَ قَبلكُمْ، فيُهلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَهُمْ"
قوله: { وَمَن يُعِرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ }، أي: عن عبادته، أو عن موعظته، أو عن وحيه.
وقال ابن زيدٍ: يعني القرآن، وفي إعراضه وجهان:
الأول: عن القبول إن قيل إنها في الكفار والثاني عن العمل، إن قيل إنَّها في أهل الإيمان.
وقيل: { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ }، أي: لم يشكره.
قوله: { يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً }.
قرأ الكوفيون: "يَسْلكْهُ" - بياء الغيبة - لإعادة الضمير على الله تعالى، وباقي السبعة: بنون العظمة على الالتفات.
وهذا كما تقدم في قوله تعالى:
{ سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [الإسراء: 1]، ثم قال: { بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } [الإسراء: 1].
وقرأ مسلم بن جندب: "نسلكه" بنون العظمة مضمومة من "أسلكه". وبعضهم: بالياء من تحت مضمومة، وهما لغتان، يقال: سلكه وأسلكه.
وأنشد: [البسيط]

4911 - حَتَّى إذَا أسْلكُوهُم فِي قَتائِدَةٍ

و "سلك، وأسلك" يجوز أن يكونا فيهما ضُمِّنا معنى الإدخال، فلذلك يتعديان لاثنين ويجوز أن يقال: يتعديان إلى أحد المفعولين، بإسقاط الخافض، كقوله تعالى: { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ } [الأعراف: 155].
فالمعنى: ندخله عذاباً، أو نسلكه في عذابٍ، هذا إذا قلنا: إن "صَعَداً" مصدر.
قال الزمخشريُّ: يقال: صَعَداً وصُعُوداً، فوصف به العذاب لأنه يتصعد للمعذب، أي: يعلوه، ويغلبه، فلا يطيقه، ومنه قول عمر - رضي الله عنه -: ما تصعد شيء ما تصعدتني خطبةُ النِّكاح يقول: ما شقَّ عليَّ، ولا غلبني.
وأما إذا جعلناه اسماً لصخرة في جهنم، كما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره، فيجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون "صعداً" مفعولاً به أي "يسلكه" في هذا الموضع ويكون "عذاباً" مفعولاً من أجله.
الثاني: أن يكون "عذاباً" مفعولاً ثانياً كما تقدم، و "صعداً" بدلاً من عذاباً، ولكن على حذف مضاف أي: عذاب صعد، وقرأ العامة بفتحتين، وقرأ ابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين، وهو صفة تقتضي المبالغة كحُطَم ولُبَد، وقرىء بضمتينِ وهو وصف أيضاً كـ"جُنُب" و "شُلُل".
فصل
ومعنى عذاباً صعداً: أي شاقاً شديداً.
[وقيل عن ابن عباس:]هو جبل في جهنم، قال الخدريُّ: كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت.
وعن ابن عباس: إن المعنى مشقّة من العذاب، لأن الصعد في اللغة هو المشقة، تقول: تصعدني الأمر إذا شقَّ عليك، ومنه قول عمر المتقدم، والمشي في الصعود يشق، وصعود العقبة الكئودِ.
وقال عكرمةُ: هي صخرة في جهنم ملساء يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حُدِر إلى جهنم.
وقال: يكُلَّفُ الوليدُ بن المغيرة أن يصعد جبلاً في النار من صخرةٍ ملساءَ يجذب من أمامه بسلاسل، ويضرب من خلفه بمقامع، حتَّى يبلغ أعلاها ولا يبلغ في أربعين سنة فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف صعودها، فذلك دأبه أبداً، وهو قوله:
{ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } [المدثر: 17].
قوله: { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ }. قد تقدم أن السبعة أجمعت على الفتح، بتقدير: وأوحي إليَّ أن المساجد للَّهِ.
وقال الخليل: أي ولأن المساجد، فحذف الجارُّ، ويتعلق بقوله "فلا تدعُوا".
وجعلوه كقوله تعالى:
{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } [قريش: 1] فإنه متعلق بقوله { فَلْيَعْبُدُواْ } كقوله: { إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ } [الأنبياء: 92].
وقرأ طلحة وابن هرمز: "وإنَّ المسَاجِدَ" - بالكسر..، وهو يحتمل الاستئناف والتعليل، فيكون في المعنى كتقدير الخليل
فصل في المراد بـ"المساجد"
المساجدُ: قيل هي جمع "مسجد" - بالكسر - وهو موضع السجود، وقد تقدم أن قياسه الفتح.
وقيل: هو "مسجد" - بالفتح - مراداً بها الأعضاء الواردة في الحديثِ: "الجبهة والأنف والركبتان واليدان والقدمان"، وهو قول سعيد بن المسيب.
والمعنى: إن هذه الأعضاء أنعم الله بها عليكم فلا تسجد لغيره فتجحد نعمة الله، وقال عطاء: مساجدك أعضاؤك التي أمرت بالسجود عليها لا تذللها لغير خالقها.
قال - عليه الصلاة والسلام -
"أمرت أن أسجد على سبعة أعظم" وذكر الحديث، وقال عليه الصلاة والسلام: "إذَا سَجَدَ العَبْدُ سَجَدَ مَعهُ سَبعةُ أعْضَاءٍ" وقيل: بل جمع مسجد، وهو مصدر بمعنى السجودِ، ويكون الجمع لاختلاف الأنواع.
وقال القرطبي: "المراد بها البيوت التي تبنيها أهل المللِ للعبادة".
قال سعيد بن جبير رضي الله عنه: قالت الجن: كيف لنا ان نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت: { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ }، أي: بنيت لذكر الله ولطاعته.
وقال ابن عبَّاسٍ: المساجد هنا مكة التي هي القبلة، وسميت مكة مساجد، لأن كلَّ أحد يسجد إليها.
قال القرطبيُّ: "والقول بأنها البيوت المبنية للعبادة، وهذا أظهر الأقوال، وهو مروي عن ابن عباس".
قال ابن الخطيب: "قال الواحديُّ: وواحد المساجد - على الأقوال كلِّها - "مسجد" - بفتح الجيم - إلا على قول من يقول: إنها المواضع التي بنيت للصلاةِ؛ فإنَّ واحدها "مسجد" - بكسر الجيم - لأن المواضع، والمصادر كلَّها من هذا الباب - بفتح العين - إلا في أحرف معدودة وهي: المسجد، والمطلِع، والمنسِك، والمسكِن، والمنبِت، والمفرِق، والمسقِط، والمجزِر، والمحشِر، والمشرِق، والمغرِب وقد جاء في بعضها الفتح، وهي: المنسك والمطلع والمسكن والمفرق، وهو جائز في كلِّها وإن لم يسمع".
قوله: "للَّهِ". إضافة تشريف وتكريم، ثم خص بالذِّكر منها البيت العتيق، فقال تعالى:
{ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ } [الحج: 26] وقال - عليه الصلاة والسلام -: "لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلاَّ إلى ثلاثةِ مساجدَ"
وقال - عليه الصلاة والسلام -: "صَلاةٌ فِي مَسْجدِي هذا خَيْرٌ مِنْ ألْفِ صلاةٍ فيما سواهُ إلاَّ المَسجد الحَرامَ"
وقد روي من طريق آخر لا بأس بها "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صَلاةٌ في مَسْجدِي هذا خَيْرٌ من ألفِ صلاةٍ فِيمَا سِواهُ إلاَّ فِي المسْجِد الحَرامِ، فإنَّ صلاةٌ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ مائةِ ألفِ صلاةٍ في مَسْجديْ هَذَا"
قال القرطبي: "وهذا حديث صحيح".
فصل في نسبة المساجد إلى غير الله
فإن قيل: المساجد وإن كانت لله ملكاً وتشريفاً فإنَّها قد تنسب إلى غيره تعالى تعريفاً كما قيل في الحديث:
"سابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق" .
ويقال: مسجد فلان، لأنه حبسه، ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجدِ والقناطرِ والمقابرِ، وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك.
فصل في معنى الآية
معنى: { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } لا يذكرُ فيها إلا اللَّهُ تعالى فإنَّه يجوز قسمةُ الأموالِ فيها، ويجوز وضعُ الصدقات فيها، على رسم الاشتراك بين المساكين، والأكل فيها، ويجوز حبسُ الغريمِ فيها والنوم، وسكن المريضِ فيه، وفتح الباب للجار إليها وإنشاد الشعر فيه إذا عري عن الباطل.
قوله: { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً }. وهذا توبيخٌ للمشركين، في دعواهم مع الله غيره في المسجد الحرام.
وقال مجاهد: كانت اليهودُ، والنصارى إذا دخلوا كنائسهم، وبيعهم أشركوا بالله تعالى، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة الحق إذا دخلوا المساجد كلها، فلا تشركوا فيها صنماً وغيره مما يعبد.
وقيل: المعنى أفردوا المساجدَ لذكر الله، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيباً، وفي الحديث:
"مَنْ نَشدَ ضالَّةً في المسجد فقولوا: لا ردَّها اللَّه عليكَ، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا"
وقال الحسن: من السنة إذا دخل رجل المسجد أن يقول: لا إله إلا الله، لأن قوله تعالى { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } في ضمنه أمر بذكر الله ودعائه.
وروى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنه -
"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قدَّم رجله اليمنى وقال: وأنَّ المسَاجِدَ لِلَّهِ فلا تَدْعُوا مع اللَّهِ أحداً، اللَّهُمَّ إني عبدُكَ وزائِرُكَ وعلى كُلِّ مزُورٍ حقٌّ لزائره، وأنْتَ خَيْرُ مزُورٍ، فأسْألُكَ بِرحْمتكَ أنْ تَفُكَّ رقَبَتِي من النَّارِ فإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى وقال: اللَّهُمْ صُبَّ عليَّ الخَيْرَ صباً ولا تَنزِعْ عنِّي صالحَ ما أعْطَيْتنِي أبداً، ولا تَجْعَلْ معِيْشتِي كدّاً، واجعل لِي في الأرضِ جداً" .
قوله: { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً }.
يجوز الفتحُ، أي: أوحى الله إليه أنه، ويجوز الكسر على الاستئناف، و "عَبْدُ اللَّهِ" هو محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن حسب ما تقدم أول اسورة. "يَدعُوهُ"، أي: يعبده.
وقال ابن جريج: "يَدْعوهُ"، أي: قام إليهم داعياً إلى الله تعالى، فهو في موضع الحالِ، أي: يوحد الله.
{ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً }.
قال الزُّبيرُ بن العوام: هم الجنُّ حين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم أي: كاد يركب بعضهم بعضاً ازدحاماً عليه ويسقطون حرصاً على سماع القرآنِ العظيم.
وقيل: كادوا يركبونه حرصاً، قاله الضحاكُ.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: رغبة في سماع القرآن.
يروى عن مكحول: أن الجنَّ بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة، وكانوا سبعين ألفاً، وفرغوا من بيعته عند الفجر.
وعن ابن عباس أيضاً: أن هذا من قول الجنِّ لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع والسجود.
وقيل: كاد الجنُّ يركب بعضهم بعضاً حرصاً على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن وقتادة وابن زيد: "لمَّا قَامَ عبدُ اللَّهِ" محمد بالدعوة تلبدت الإنس، والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى اللَّهُ تعالى إلاَّ أن ينصره ويتم نوره، واختار الطبريُّ أن يكون المعنى كادت العربُ يجتمعون على النبي صلى الله عليه وسلم ويتظاهرون على إطفاء النورِ الذي جاء به.
قال مجاهد: اللِّبَد: الجماعات.
قوله "لِبَداً": قرأ هشام: بضم اللام، والباقون: بكسرها.
فالأولى: جمع "لُبْدَة" - بضم اللام - نحو "غُرفَة وغُرَف".
وقيل: بل هو اسم مفرد صفة من الصفات نحو "حطم" وعليه قوله تعالى
{ مَالاً لُّبَداً } [البلد: 6].
وأما الثانية: فجمع "لِبْدة" - بالكسر - نحو "قربة وقِرَب".
واللبدة: الشيء المتلبد، أي: المتراكب بعضه على بعض، ومنه قولهم "لبدة الأسد". كقول زهير: [الطويل]

4912 - لَدَى أسَدٍ شَاكٍ السِّلاحِ مُقذَّفٍ لَهُ لِبَدٌ أظفَارُهُ لم تُقلَّمِ

ومنه: اللبد؛ لتلبُّد بعضه فوق بعض، ولبد: اسم نسر لقمان بن عاد، عاش مائتي سنةٍ، حتى قالوا: أطال اللَّهُ الأمد على لبد.
والمعنى: كادت الجنُّ يكونون عليه جماعات متراكمة متزاحمين عليه كاللبد.
وقرأ الحسن والجحدريُّ: "لُبُداً" - بضمتين - ورواها جماعة عن أبي عمرو.
وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أنه جمع "لَبْد" نحو "رَهْن" جمع "رُهُن".
والثاني: أنه جمع "لَبُود" نحو "صَبُور، وصُبُر" وهو بناء مبالغة أيضاً.
وقرأ ابن محيصن: بضمة وسكون، فيجوز أن تكون هذه مخففة من القراءة التي قبلها ويجوز أن يكون وصفاً برأسه.
وقرأ الحسن والجحدريُّ أيضاً: "لُبَّداً" - بضم اللام وتشديد الباء، وهي غريبة جداً.
وقيل: وهو جمع "لابد" كـ"ساجد وسُجَّد، وراكع ورُكَّع".
وقرأ أبو رجاء: بكسر اللام، وكسر الباء، وهي غريبة أيضاً.
وقيل: اللُّبَد - بضم اللام وفتح الباء -: الشيء الدائم، واللبد أيضاً: الذي لا يسافر ولا يبرح؛ قال الشاعر: [البسيط]

4913 - من امْرِىءٍ ذِي سماحٍ لا تزَالُ لَهُ بَزْلاءُ يَعْيَا بِهَا الجثَّامةُ اللُّبَدُ

ويروى: اللَّبد، قال أبو عبيد: وهو أشبه، ويقال: ألبدت القربة جعلتها في لبيد.
ولبيد: اسم شاعر من بني عامر.