التفاسير

< >
عرض

وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً
١٠
وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً
١١
إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً
١٢
وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً
١٣
يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً
١٤
-المزمل

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ }، أي: من الأذى، والسب، والاستهزاء، ولا تجزع من قولهم، ولا تمتنع من دعائهم، وفوض الأمر إليّ، فإني إذا كنت وكيلاً لك، أقوم بإصلاح أمرك أحسن من قيامك بأمور نفسك { وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً }، الهجر: ترك المخالطةِ، أي: لا تتعرض لهم، ولا تشتغل بمكافأتهم فإن ذلك ترك للدعاء إلى الله تعالى، وكان هذا قبل الأمر بالقتال، ثم أمر بعد ذلك بقتالهم.
قال قتادة وغيره، نسختها آية القتال.
وقال أبو الدرداء: إنا لنكشر في وجوه [أقوام] ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتلعنهم.
قال ابن الخطيب: وقيل وهو الأصح إنّها محكمة.
قوله: { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ }. يجوز نصب "المُكذِّبِيْنَ" على المعية، وهو الظاهر، ويجوز على النسق وهو أوفق للصناعة.
والمعنى: ارض بي لعقابهم، نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين.
وقال مقاتل: نزلت في المطعمين يوم بدر، وهم عشرة تقدم ذكرهم في الأنفال.
وقال يحيى بن سلام: إنهم بنو المغيرة.
وقال سعيد بن جبير: أخبرت أنهم اثنا عشرة رجلاً، "أولي النعمة" أي: أولي الغنى، والترفه واللذة في الدنيا { وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } يعني إلى مدة آجالهم، قالت عائشة - رضي الله عنها -: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسيراً حتى وقعت وقعة بدر.
وقيل: "ومَهِّلهُمْ قَلِيلاً" مدة الدنيا.
قوله: "أوْلِي النَّعمَةِ"، نعت للمكذبين. و "النعمة" - بالفتح -: التنعم، وبالكسر، الإنعام، وبالضم: المسرَّةُ، يقال: نِعْمة ونُعْمة عين.
وقوله: "قَلِيلاً"، نعت لمصدر، أي: تمهيلاً، أو لظرف زمان محذوف، أي: زماناً قليلاً.
قوله: { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً }، جمع نكل، وفيه قولان:
أشهرهما: أنه القيد.
وقيل: الغل؛ وقالت الخنساء: [المتقارب].

4929 - دَعَاكَ فقطَّعْتَ أنْكالَهُ وقَدْ كُنَّ مِنْ قَبْلُ لا تُقطَعُ

قال الحسن ومجاهد وغيرهما: الأنكال: القيود، واحدها: نكل، وهو ما منع الإنسان من الحركة، وقيل: سمي نكلاً، لأنه ينكل به.
قال الشعبي: أترون أن الله جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا - لا والله - ولكنهم إذا أراد أن يرتفعوا اشتعلت بهم.
وقال الكلبيُّ: الأنكال: الأغلال.
وقال مقاتل: الأنكال: أنواع العذاب الشديد.
وقال عليه الصلاة والسلام:
"إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ النَّكلَ على النَّكلِ - قال الجوهريُّ: بالتحريك - قيل: وما النكل؟ قال: الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب" - ذكره الماورديُّ، قال: ومن ذلك سمي القَيْدُ نِكلاً لقوته وكذلك الغُلّ وكل عذاب قوي.
قال ابن الأثير: "النَّكَلُ - بالتحريك - من التنكيل، وهو المنع، والتنحية عما يريد يقال: رجل نَكَلٌ ونِكْلٌ، كشبه وشبهٌ، أي: ينكل به أعداؤه، وقد نكل الأمر ينكل، ونكل ينكل: إذا امتنع، ومنه النكول في اليمين وهو الامتناع منها وترك الإقدام عليها".
والجحيم: النار المؤجَّجَةُ.
{ وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ }. "الغُصَّةُ": الشجى، وهو ما ينشب في الحلق فلا ينساغ، ويقال: "غَصِصتُ" - بالكسر - فأتت غَاصٌّ وغصَّان، قال: [الرمل]

4930 - لَو بِغيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ كُنْتُ كالغَصَّانِ بالمَاءِ اعتِصَارِي

والمعنى: طعاماً غير سائغ يأخذ بالحلق، لا هو نازل، ولا هو خارج وهو كالغسلين، والزَّقُّوم والضريع. قاله ابن عباس. وعنه أيضاً: أنه شوك يدخل الحلق فلا ينزل ولا يخرج.
وقال الزجاجُ: أي: طعامهم الضريع، وهو شوك كالعوسج.
وقال مجاهد: هو كالزقوم.
والغصة: الشجى، وهو ما ينشب في الحلق من عظم، أو غيره، وجمعها: غُصَص، والغَصَصُ - بالفتح - مصدر قولك "غَصِصْتَ" يا رجل تَغُصُّ، فأنت غاصٌّ بالطعام وغصَّان وأغْصصتُهُ أنا، والمنزل غاص بالقوم أي ممتلىء بهم".
ومعنى الآية: أن لدينا في الآخرة ما يضادّ تنعمهم في الدنيا، وهذه هي الأمور الأربعة: الأنكال، والجحيم، والطعام الذي يغص به، والعذاب الأليم، والمراد به: سائرُ أنواع العذابِ.
قوله: { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ }. أي: تتحرك، وفي نصب "يوم" أوجه:
أحدها: أنه منصوب بـ"ذرني"، وفيه بعد.
والثاني: أنه منصوب بنزع الخافض أي: هذه العقوبة في يوم ترجف.
الثالث: أنه منصوب بالاستقرار المتعلق به "لَديْنَا".
والرابع: أنه صفة لـ"عَذاباً" فيتعلق بمحذوف، أي عذاباً واقعاً يوم ترجف.
الخامس: أنه منصوب بـ"ألِيْم".
والعامة: "تَرجُف" - بفتح التاء، وضم الجيم - مبنياً للفاعل.
وزيد بن علي: مبنياً للمفعول، من أرجفها: والرجفة: الزلزلة والزعزعة الشديدة.
قوله: { وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ }، أي: وتكون الجبال { كَثِيباً مَّهِيلاً }، الكثيب: الرمل المجتمع.
قال حسان: [الوافر]

4931 - عَرفْتُ دِيَارَ زَينَب بالكَثِيبِ كخَطِّ الوحْي في الورَقِ القَشِيبِ

والجمع في القلة: "أكْثِبَةٌ"، وفي الكثرة: "كثبان" و "كُثُب" كـ"رَغيف وأرغِفَة، ورُغْفَان ورُغُف".
قال ذو الرمة: [الطويل]

4932 - فَقلْتُ لهَا: لا إنَّ أهْلِي لَجيرةٌ لأكْثِبَةِ الدَّهْنَا جَمِيعاً ومَالِيَا

قال الزمخشري: من كثبت الشيء إذا جمعته، ومنه الكثبة من اللبن؛ قالت الضائنة: أجَزُّ جُفالاً، وأحلبُ كُثَباً عُجَالاً.
[والمهيل: أصله "مهيول" كـ"مضروب" استثقلت الضمة على الياء] فنقلت إلى الساكن قبلها، وهو الهاء فالتقى ساكنان، فاختلف النحاة في العمل في ذلك: فسيبويه، وأتباعه حذفوا الواو، وكانت أولى بالحذف، لأنها زائدة، وإن كانت القاعدة إنما تحذف لالتقاء الساكنين الأول، ثم كسروا الهاء لتصح الياء، ووزنه حينئذ "مفعل".
والكسائي والفراء والأخفش: حذفوا الياء، لأن القاعدة في التقاء الساكنين: إذا احتيج إلى حذف أحدهما حذف الأول، وكان ينبغي على قولهم أن يقال فيه: "مهول" إلا أنهم كسروا الهاء لأجل الياء التي كانت فقلبت الواو ياء، ووزنه حينئذ "مفعول" على الأصل، و "مفيل" بعد القلب.
قال مكي: "وقَدْ أجَازوا كلهم أن يأتي على أصله في الكلام، فتقول: مهيول ومبيوع"، وما أشبه ذلك من ذوات الياء، فإن كان من ذوات الواو لم يجز أن يأتي على أصله عند البصريين، وأجازه الكوفيون، نحو: مقوول، ومصووغ.
وأجازوا كلهم: مهول ومبوع، على لغة من قال: بوع المتاع، وقول القول، ويكون الاختلاف في المحذوف منه على ما تقدم.
قال شهاب الدين: "التمام في "مبيوع، ومهيول" وبابه، لغة تميم، والحذف لغة سائر العرب".
ويقال: هلتُ التراب أهيله هيلاً، فهو مهيل فيه.
وفيه لغة: أهلتُه - رباعيّاً - إهالةً فهو مُهال، نحو أبعته إباعة فهو مباع. والمهيل من هال تحته القدم أي انصب أي هلت التراب أي طرحته.
وقال القرطبيُّ: والمَهِيلُ: الذي يمر تحت الأرجل، قال الضحاك والكلبي: المهيل: الذي إذا وطئته بالقدم زل من تحتها، فإذا أخذت أسفله انهال.
وقال ابن عباس: "مهيلاً" أي: رملاً سائلاً متناثراً.
قال القرطبيُّ: وأصله مَهْيُول، وهو "مفعُول" من قولك: هلت التراب عليه أهيلة إهالة وهيلاً، إذا صببته.
يقال: مَهِيل ومَهْيُول، ومَكِيل ومكيول، ومَدِين ومديُون ومَعِين ومَعْيُون.
قال الشاعر: [الكامل]

4933 - قَدْ كَانَ قَومُكَ يَحسبُونكَ سيِّداً وإخَالُ أنَّكَ سيِّدٌ مَعيُونُ

وقال - عليه الصلاة والسلام - حين شكوا إليه الجدوبة: "أتكِيْلُون أمْ تَهِيْلُون؟ قالوا: نهيل. قال: كِيلُوا طَعامَكُم يُبارِكْ لَكُمُ الله فِيْهِ" .