التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٠
-المزمل

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ }.
العامة: على ضم "اللام" من "ثلثي" وهو الأصل، كالربع والسدس.
وقرأ هشام: بإسكانها تخفيفاً.
قوله: { وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ }، قرأ الكوفيون وابن كثير: بنصبهما، والباقون، بجرهما.
وفي الجر إشكال يأتي إن شاء الله تعالى.
فالنصبُ: نسق على "أدْنَى"؛ لأنه بمعنى وقت أدنى، أي: أقرب، استعير الدنو لقرب المسافة في الزمان، وهذا مطابق لما في أول السورة من التقسيم، وذلك أنه إذا قام أدنى من ثلثي الليل، فقد صدق عليه أنه قام الليل إلا قليلاً، لأن الزمان لم يقم فيه، فيكون الثلث، وشيئاً من الثلثين، فيصدق عليه قوله: "إلاَّ قَلِيلاً".
وأما قوله: "ونصفهُ" فهو مطابق لقوله: "ولا نِصْفهُ"، وأما قوله: "وثُلثهُ" فإنَّ قوله: { أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } قد ينتهى النقص في القليل إلى أن يكون الوقت ثلثي الليل، وأما قوله: { أَو زِدْ عَلَيْهِ } فإنَّه إذا زاد على النصف قليلاً كان الوقت أقل من الثلثين. فيكون قد طابق أدنى من ثلثي الليل، ويكون قوله تعالى: { نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } شرطاً لمبهم ما دل عليه قوله: { قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً }، وعلى قراءة النصب: فسر الحسن "تحصُوهُ" بمعنى تطيقوه، وأما قراءة الجر: فمعناها أنه قيام مختلف مرة أدنى من الثلثين، ومرة أدنى من الثلث وذلك لتعذر معرفة البشر بمقدار الزمان مع عذر النوم، وقد أوضح هذا كله الزمخشري، فقال: وقرىء: "نصفه وثلثه" بالنصب، على أنك تقوم أقل من الثلثين، وتقوم النصف والثلث، وهو مطابق لما مر فيه أول السورة في التخيير بين قيام النصف بتمامه، وبين قيام الناقص وهو الثلث، وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين.
وقرىء بالجر أي تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف والثلث، وهو مطابق للتخيير بين النصف، وهو أدنى من الثلثين، والثلث، وهو أدنى من النصف، والربع وهو أدنى من الثلث، وهو الوجه الأخير، انتهى.
يعني بالوجه الأخير ما قدمه أول السورة من التأويلات. وقال أبو عبد الله الفارسي: وفي قراءة النصب إشكال إلا أن يقدر نصفه تارة، وثلثه تارة، وأقل من النصف، والثلث تارة، فيصح المعنى.
فصل في بيان أن هذه الآية تفسير للقيام في أول السورة
قال القرطبي: هذه الآية تفسير لقوله تعالى: { إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } أو زد عليه - كما تقدم - وهي الناسخة لفريضة قيام الليل كما تقدم، ومعنى قوله تعالى: "تَقُومُ" أي: تصلي، و "أدْنَى"، أي: أقل.
وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام: "ثلثي" بإسكان اللام، و "نصفه وثلثه" بالخفض: قراءة العامة - كما تقدم -، عطفاً على "ثلثي" والمعنى: تقوم أدنى من ثلثي الليل، ومن نصفه، وثلثه، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، لقوله تعالى: { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } فكيف تقيمون نصفه أو ثلثيه، وهو لا تحصونه؟! وأما قراءة النصف عطفاً على "أدنى"، والتقدير: تقوم أدنى من ثلثيه وتقوم نصفه وثلثه. قال الفراءُ: وهو أشبه بالصوابِ؛ لأنه قال: أقلّ من الثلثين، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة.
قال القشيريُّ: وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف لخفة القيام عليهم بذلك القدر، وكانوا يزيدون، وفي الزيادة إصابة المقصود، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه، وينقصون منه، ويحتمل أنهم أمروا بالقيام نصف الليل، ورخص لهم في الزيادة والنقصان، وكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين، وفي النصف إلى قريب من الثلث، ويحتمل أنَّهُم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث، والزيادة إلى الثلثين، وكان فيهم من يفي بذلك، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم، وقيل: إنَّما فرض عليهم الربع، وكانوا ينقصون من الربع.
قال القرطبيُّ: "وهَذَا تَحكُّمٌ".
قوله: { وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ }. رفع بالعطف على الضمير في "تقُومُ"، وجوز ذلك الفصل بالظرف، وما عطف عليه.
قوله: { وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلْلَّيْلَ }.
قال الزمخشريُّ: "تقديم اسم الله - عز وجل - مبتدأ مبنياً عليه "يقدر" هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير".
ونازعه أبو حيَّان في ذلك، وقال: "لو قيل: زيدٌ يحفظ القرآن، لم يدل ذلك على اختصاصه".
وقيل: الاختصاص في الآية مفهوم من السياق، والمعنى: ليعلم مقادير الليل، والنهار على حقائقها، وأنتم تعلمون بالتحري، والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ.
قوله: { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ }، "أنْ لَنْ" و "أنْ سَيكُون" كلاهما مخففة من الثقيلة والفاصل للنفي، وحرف التنفيس.
والمعنى: علم أن لن تطيقُوا معرفة حقائق ذلك، والقيام به، أي: أن الله هو الذي يعلم مقادير الليل والنهار على حقيقته.
وقيل: المعنى: لن تطيقوا قيام الليل، والأصح الأول، لأن قيام الليل ما فرض كله قط.
قال مقاتل وغيره: لما نزل
{ { قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } [المزمل: 2-4] شق ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل، من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطىء، وانتفخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فخفف الله عليهم، وقال: { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ }، أي: علم أنكم إن زدتم ثقل عليكم، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضاً، وإن نقصتم شق معرفة ذلك عليكم.
قوله: { فَتَابَ عَلَيْكُمْ }، أي: فعاد عليكم بالعفو، وهذا يدل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به.
وقيل: "فتَابَ علَيْكمْ" من فرض القيام أو عن عجزكم، وأصل التوبة الرجوع - كما تقدم - فالمعنى: رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى إيسار، وإنما أمروا بحفظ الأوقات بالتحري، فخفف عنهم ذلك التحري.
وقيل: معنى قوله: { وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ }، أي: يخلقهما مقدرين، كقوله تعالى:
{ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [الفرقان: 2].
قال ابنُ العربي: تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف التكليف. قوله: { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ }.
قيل: المراد نفس القراءةِ، أي: فاقرأوا فيما تصلون به بالليل ما خف عليكم.
قال السديُّ: مائة آية.
وقال الحسنُ: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن.
وقال كعبٌ: من قرأ في ليلةٍ مائة آيةٍ كتب من القانتين.
وقال سعيد بن جبير: خمسون آية.
قال القرطبي: قول كعب أصح،
"لقوله - عليه الصلاة والسلام-: مَنْ قَامَ بِعشْرِ آيَاتٍ لمْ يُكتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ، ومَنْ قَامَ بِمائَةِ آيةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتيْنَ، ومَنْ قَامَ بألفِ آيةٍ كُتِبَ من المُقنطرينَ" . خرجه أبو داود الطيالسي.
وروى أنس بن مالك قال:
"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مَنْ قَرَأ خَمْسينَ آيةً فِي يَومٍ أوْ فِي ليْلةٍ لَمْ يُكتَبْ مَنَ الغَافليْنَ، ومَنْ قَرَأ مِائةَ آيةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتينَ، ومَنْ قَرَأ مائَتَي آيةٍ لَمْ يُحَاجِّهِ القرآنُ إلى يَوْمِ القيامة، ومن قرأ خَمْسمائةِ آيةٍ كُتِبَ لَهُ قِنطارٌ مِنَ الأجْرِ" .
فقوله: "مَنَ المقُنَطرِيْنَ"، أي: أعطي قنطاراً من الأجر.
وجاء في الحديث:
"أن القنطار: ألف ومائتا أوقية، والأوقية خير مما بين السماء والأرض" .
وقال أبو عبيدة: القناطيرُ، واحدها قنطار، ولا تجد العرب تعرف وزنه، ولا واحد للقنطار من لفظه.
وقال ثعلب: المعمول عليه عند العربِ أنه أربعة آلافِ دينارٍ، فإذا قالوا: قناطير مقنطرة فهي اثنا عشر ألف دينار.
وقيل: إن القنطار: ملء جلد ثور ذهباً.
وقيل: ثمانون ألفاً.
وقيل: هي جملة كثيرة مجهولة من المال، نقله ابن الأثير.
وقيل: المعنى: { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ }، أي: فصلوا ما تيسر عليكم، والصلاة تسمى قرآناً، قال تعالى:
{ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } [الإسراء: 78]، أي: صلاة الفجر.
قال ابن العربي: "والأول أصح، لأنه أخبر عن الصلاة وإليها يرجع القول".
قال القرطبيُّ: "الأول أصح حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ، والقول الثاني مجاز لأنه من تسمية الشيءِ ببعض ما هو من أعماله".
فصل في بيان أن الآية ناسخة
قال بعض العلماءِ: قوله تعالى { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } نسخ قيام الليل ونصفه، والنقصان من النصف، والزيادة عليه، ثم يحتمل قول الله - عز وجل - { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } معنيين:
أحدهما: أن يكون فرضاً ثانياً لأنه أزيل به فرض غيره.
والآخر: أن يكون فرضاً منسوخاً أزيل بغيره كما أزيل به غيره، وذلك بقول الله - تعالى -:
{ وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [الإسراء: 79]، فاحتمل قوله تعالى: { { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [الإسراء:79] أي: تتهجد بغير الذي فرض عليك مما تيسر منه.
قال الشافعيُّ: فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين فوجدنا سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس.
فصل في أن النسخ هنا خاص بالأمة
قال القشيريُّ: والمشهورُ أنَّ نسخ قيامِ الليل كان في حق الأمةِ، وبقيت الفريضةُ في حق النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إنما النسخ: التقدير بمقدار، وبقي أصل الوجوب كقوله تعالى:
{ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [البقرة: 196]، فالهدي لا بد منه، كذلك لا بد من الصلاة في الليل ولكن فوض تقديره إلى اختيار المصلي، وعلىهذا فقال قوم: فرض قيام الليل بالقليل باق، وهو مذهب الحسنِ.
قال الشافعيُّ: بل نسخ بالكلية، فلا تجب صلاة الليل أصلاً، ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صلى الله عليه وسلم هي هذه، وهو قيامه، ومقداره مفوض إلى خيرته، وإذا ثبت أن القيام ليس فرضاً، فقوله تعالى: { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ }، معناه: اقرأوا إن تيسر عليكم ذلك وصلوا إن شئتم.
وقال قوم: إنَّ النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه، وقوله: { نَافِلَةً لَكَ } محمول على حقيقة النفل، ومن قال: نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل لم ينسخ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة كقوله تعالى:
{ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلْلَّيْلِ } [الإسراء: 78] الآية، وقوله تعالى: { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ } [الروم: 17] الآية، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع.
وقيل: وقع النسخ بقوله تعالى: { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ }، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة كما أن فرضية الصلاة، وإن خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:
{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ قُمِ ٱلْلَّيْلَ } [المزمل: 1-2] فهي عامة له ولغيره.
وقد قيل: إن فريضة قيام الليل امتدت إلى ما بعد الهجرةِ، ونسخت بالمدينة لقوله تعالى: { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }، وإنما فرض القتال بالمدينة، فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة، فقيام الليل نسخ بقوله:
{ وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [الإسراء: 79].
وقال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نسخ قول الله - عز وجل -: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ }، وجوب قيام الليل
فصل في علة تخفيف قيام الليل
قوله: { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ } بيَّن سبحانه علة تخفيف قيام الليل، فإن الخلق منهم المريض، ويشق عليه قيام الليل، ويشق عليه أن تفوته الصلاة، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل، والمجاهد كذلك، فخفَّف الله عن الكل لأجل هؤلاء.
وقال ابن الخطيب: لمَّا علم الله تعالى أعذار هؤلاء، يعني المريض، والمسافر، والمجاهد، فلو لم يناموا بالليل لتوالت عليهم أسباب المشقة، وهذا السبب ما كان موجوداً في حق النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:
{ إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } [المزمل: 7] فلا جرم لم ينسخ وجوب التهجد في حقه عليه الصلاة والسلام.
و "أن" في قوله: "أنْ سيَكونُ" مخففة من الثقيلة، أي: علم أنه سيكون.
قوله: "وآخَرُونَ" عطف على "مَرْضَى"، أي: علم أن سيوجد منكم قوم مرضى، وقوم آخرون مسافرون، فـ"يَضْربُونَ" نعت لـ"آخَرُونَ" وكذلك "يَبْتَغُونَ"، ويجوز أن يكون "يبتغون" حالاً من فاعل "يَضْرِبُونَ"، و "آخَرُونَ" عطف على "آخَرُونَ" و "يُقَاتلُونَ" صفته.
فصل في بيان أن الكسب الحلال كالجهاد
سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين، والملتمسين للمال الحلال للنفقة على نفسه، وعياله، والإحسان، فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنّ جمعه من الجهاد في سبيل الله.
قال - عليه الصلاة والسلام -:
"مَا مِنْ جَالبٍ يَجلبُ طَعاماً مِنْ بَلدٍ إلى بَلدٍ، فيَبيعُهُ بِسْعرٍ يَومِهِ إلاَّ كانتْ مَنزِلتُهُ عنْدَ اللَّهِ تعالى مَنْزلةَ الشُّهداءِ ثُمَّ قَرَأ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }" .
وقال ابن مسعود: أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء، وقرأ: { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }.
وقال ابن عمر: ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إليَّ من الموت بين شعبتي رحْلي، أبتغي من فضل الله، ضارباً في الأرض.
وقال طاووس: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله.
قوله: { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ }، أي: صلُّوا ما أمكن فأوجب الله تعالى من صلاة الليل، ما تيسَّر، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم.
وقال عبد الله بن عمرو:
"قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا عَبْدَ اللَّه، لا تكُنْ مِثْلَ فُلانِ كَانَ يقُومُ اللَّيْلَ، فتركَ قِيامَ اللَّيْلِ" ولو كان فرضاً ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه، بل كان يذمه غاية الذم.
فصل في القدر الذي يقرأ به في صلاته
إذا ثبت أنَّ قيام الليل ليس بفرض، وأن قوله { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ }، { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة، فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة.
فقال مالك والشافعيُّ: فاتحة الكتاب لا يجوز العدول عنها ولا الاقتصار على بعضها، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة من أي القرآن كانت، وعنه ثلاث آياتٍ لأنها أقل سورة، وقيل المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة.
قال الماورديُّ: فعلى هذا القول يكون مطلق الأمر محمولاً على الوجوب ليقف بقراءته على إعجازه وما فيه من دلائل التوحيد، وبعث الرسل، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه، ودلائل التوحيد أن يحفظه؛ لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة والأكثرون على أنه للاستحباب، لأنه لو وجب علينا قراءته لوجب حفظه. وفي قدر الواجب أقوال:
الأول: قال الضحاكُ: جميع القرآن، لأن الله تعالى يسره على عباده.
الثاني: قال جويبر: ثلث القرآن.
الثالث: قال السديُّ: مائتا آية.
الرابع: قال ابن عباسٍ: مائة آية.
الخامس: قال أبو خالد الكناني: ثلاث آياتٍ كأقصر سورة.
قوله { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ }، يعني الخمس المفروضة، وهي الخمس لوقتها، { وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ } الواجبة في أموالكم.
قاله عكرمة وقتادة، وقال الحارث العكلي: صدقة الفطر، لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك، وقيل: صدقة التطوع.
وقيل: كل فعل خير.
وقال ابن عباسٍ: طاعة الله الإخلاص.
قوله: { وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً }. القرض الحسن ما أريد به وجه الله تعالى خالصاً من المال الطيب وقال زيد بن أسلم: القرض الحسن، النفقة على الأهل، وقيل: صلةُ الرَّحمِ، وقرى الضيف، وقال عمر بن الخطاب: هو النفقة في سبيل الله.
قوله: { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ } تقدم بيانه في سورة "البقرة".
قوله: { هُوَ خَيْراً }، العامة على نصب الخير مفعولاً ثانياً، و "هُوَ" إما تأكيد للمفعول الأول، أو فصل.
وجوَّز أبو البقاء: أن يكون بدلاً، وهو غلط، لأنه كان يلزم أن يطابق ما قبله في الإعراب فيقال: إياه.
وقرأ أبو السمال وابن السميقع: "خير" على أن يكون "هو" مبتدأ، و "خير" خبره، والجملة مفعول ثان لـ"تَجِدُوه".
قال أبو زيد: هي لغة تميم، يرفعون ما بعد الفصل.
وأنشد سيبويه: [الطويل]

4943 - تَحِنُّ إلى لَيْلَى وأنْتَ تَرَكْتَها وكُنْتَ عَليْهَا بالمَلا أنْتَ أقْدَرُ

والقَوَافِي مرفوعةٌ، ويروى: "أقدرا" بالنصب.
[وقال الزمخشريُّ: وهو فصل]، وجاز، وإن لم يقع بين معرفتين، لأن "أفعل من" أشبه في امتناعه من حرف التعريف، المعرفة.
قال شهاب الدين: "هذا هو المشهورُ، وبعضهم يجوزه في غير أفعل من النكرات".
وقال القرطبي: "ونصب "خيراً، وأعظم" على المفعول الثاني: لـ"تَجِدُوهُ" و "هُوَ" فصل عند البصريين، وعماد عند الكوفيين، لا محلَّ له من الإعراب، و "أجْراً" تمييز".
فصل في معنى الآية
المعنى: { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً } من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت. قاله ابن عباس.
وقال الزجاجُ: (خير لكم من متاع الدنيا).
قوله: { وَأَعْظَمَ أَجْراً }، قال أبو هريرة: يعني الجنَّة، ويحتمل أن يكون "أعظم أجْراً" لإعطائه بالحسنة عشراً { وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ } أي سلوه المغفرة لذنوبكم { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لما كان عل التوبة رحيم لكم بعدها، قاله سعيد بن جبير وقيل: غفور لمن لم يصرّ على الذنوب.
وقال مقاتل: غفور لجميع الذنوب لأن قوله "غَفُورٌ" يتناول التائب والمصر، بدليل أنه يصح استثناء كل واحد منهما وحده، والاستثناء حكمه إخراج ما لولاه لدخل.
وأيضاً: غفران التائب واجب عند الخصم فلا يحصل المدح بأداء الواجبِ، والغرض من الآية تقرير المدح فوجب حمله على الكل تحقيقاً للمدح.
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ قَرَأ سُوْرَةَ يا أيُّهَا المُزَّمِّل رُفِعَ عنهُ العُسْرُ في الدُّنيَا والآخِرَةِ" والله أعلم.