التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ
١
قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً
٢
نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً
٣
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً
٤
-المزمل

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ }، أصله "المُتزمِّلُ" فأدغمت التاء في الزاي، يقال: تزمَّل يتزمل تزملاً، فإذا أريد الإدغام: اجتلبت همزة الوصل، وبهذا الأصل قرأ أبي بن كعب.
وقرأ عكرمة: "المُزمِّل" - بتخفيف الزاي وتشديد الميم - اسم فاعل، وعلى هذا فيكون فيه وجهان:
أحدهما: أن أصله "المُزتمِل" بوزن "مفتعل" فأبدلت التاء ميماً وأدغمت، قاله أبو البقاء، وهو ضعيف.
والثاني: أنه اسم فاعل من "زمل" مشدداً، وعلى هذا، فيكون المفعول محذوفاً، أي: المزمل جسمه. وقرىء كذلك إلا أنه بفتح الميم اسم مفعول منه أي: "المُلفَّفُ، والتزمل: التلفف، يقال: تزمل زيد بكساء، أي: الفت به؛ وقال ذو الرُّمَّة: [الطويل]

4918 - وكَائِنْ تَخطَّت نَاقتِي مِنْ مفَازةٍ ومِنْ نَائِمٍ عَنْ ليْلِهَا مُتزمِّلِ

وقال امرؤ القيس: [الطويل]

4919 - كَأنَّ ثَبِيراً فِي أفَانينِ ودقِهِ كَبِيرُ أنَاسٍ في بجَادٍ مُزمَّلِ

وهو كقراءة بعضهم المتقدمة
فصل في بيان لمن الخطاب في الآية
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه ثلاثةُ أقوالٍ:
الأول: قال عكرمة: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } بالنبوة المتزمل بالرسالة، وعنه: يا أيها الذي زمل هذا الأمر، أي: حمله ثم فتر، وكان يقرأ: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزمَّلُ } - بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها، على حذف المفعول، وكذلك: "المدثر"، والمعنى: المزمل نفسه والمدثر نفسه، والذي زمله غيره.
الثاني: قال ابن عباس: يا أيها المزمل بالقرآن.
الثالث: قال قتادة: يا أيها المزمل بثيابه.
قال النخعيُّ: كان متزملاً بقطيفة عائشة رضي الله عنها بمرط طوله أربعة عشر ذراعاً نصفه عليّ، وأنا نائمة ونصفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، والله ما كان خزاً ولا قزاً ولا مرعزاء ولا إبريسم ولا صوفاً، كان سداه شعراً ولحمته وبراً، ذكره الثعلبي.
قال القرطبيُّ: "وهذا القول من عائشة يدل على أنَّ السورة مدنية، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يبنِ بها إلاَّ بالمدينة، والقول بأنها مكية لا يصح".
وقال الضحاكُ: تزمل لمنامه.
وقيل: بلغه من المشركين سوء قول فيه، فاشتد عليه فتزمل، وتدثر، فنزل: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ }.
وقيل: كان هذا في ابتداء أمر ما أوحي إليه فإنه لما سمع صوت الملك، ونظر إليه أخذته الرعدة، فأتى أهله، وقال: زمِّلوني، دثِّرُونِي.
روي معناه عن ابن عباس، قال: أول ما جاءه جبريل خافه، وظن أن به مساً من الجنِّ، فناداه، فرجل من الجبل مرتعداً وقال: زمِّلُوني، زمِّلُونِي.
وقال الكلبيُّ: إنما تزمل النبي بثيابه ليتهيأ للصلاة، وهو اختيار الفراءِ.
وقيل: إنه - عليه الصلاة والسلام - كان نائماً بالليل متزملاً في قطيفة فنودي بما يهجر تلك الحالة، فقيل له: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } قم واشتغل بالعبودية.
وقيل: معناه يا من تحمل أمراً عظيماً، والزمل: الحمل.
قال البغويُّ: قال الحكماء: كان هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الوحي قبل تبليغ الرسالة، ثم خوطب بعد بالنبي، والرسول.
فصل في نفي كون "المزمل" اسماً للنبي صلى الله عليه وسلم
قال السهيليُّ: ليس المزمل باسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه بعض الناس، وعدوه في أسمائه صلى الله عليه وسلم وإنما "المُزمِّلُ" اسم مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطاب، وكذلك كان المُدثِّرُ.
وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان: إحداهما: الملاطفة، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة، سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها
"لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي - رضي الله عنه - حين غاضب فاطمة - رضي الله عنها - فأتاه وهو نائم وقد لصق جنبه بالتراب، فقال له: قُمْ أبَا تُرابٍ" إشعاراً له بأنه غير عاتب عليه، وملاطفة له وإشعاراً بترك العتب، [وملاطفاً له وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة: قم يا نومان ملاطفة له، وإشعاراً بترك العتب والتأنيب] - وكان نائماً - فقول الله تعالى لمحمد - عليه الصلاة والسلام -: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ قُمِ } فيه تأنيس له، وملاطفة ليستشعر أنه غير عاتب عليه.
والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل، وذكر الله تعالى فيه لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل، واتصف بتلك الصفة.
قوله: { قُمِ ٱلْلَّيْلَ }. العامة: على كسر الميم لالتقاء الساكنين.
وأبو السمال: بضمها، إتباعاً لحركة القاف.
وقرىء: بفتحها طلباً للخفة.
قال أبو الفتح: الغرض: الهرب من التقاء الساكنين، فبأيِّ حركة تحرك الأول حصل الغرض.
قال شهاب الدين: "إلا أن الأصل: الكسر، لدليل ذكره النحويون، و "الليل" ظرف للقيام وإن استغرقه الحدث الواقع فيه، هذا قول البصريين، وأما الكوفيون فيجعلون هذا النوع مفعولاً به".
قال القرطبي: "وهو من الأفعال القاصرة الغير متعدية إلى مفعول، فأما ظرف المكان والزمان فسائغ فيه، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة، لا تقول: "قمت الدار" حتى تقول: "قُمْتُ وسَط الدَّارِ، وخارج الدارِ"، وقد قيل هنا: إن "قم" معناه: صل، عبر به هنا واستعير له حتى صار عرفاً بكثرة الاستعمال".
فصل في حد الليل
الليل: حده من غروب الشمس إلى طلوع الفجر وقد تقدم بيانه في البقرة.
قال القرطبيُّ: "واختلف هل كان قيامه فرضاً أو نفلاً؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان فرضاً لأن الندب لا يقع على بعض الليل دون بعض لأن قيامه ليس مخصوصاً بوقت دون وقتٍ".
واختلف هل كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء، أو عليه وعلى أمته، ثلاثة أقوالٍ:
الأول: قول سعيد بن جبيرٍ لتوجه الخطاب إليه.
الثاني: قول ابن عباسٍ، قال: كان قيامُ الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله.
الثالث: قول عائشة وابن عباس أيضاً وهو الصحيح أنه كان فرضاً عليه وعلى أمته، لما روى "مسلم":
"أن سعد بن هشام بن عامر قال لعائشة رضي الله عنها: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ألست تقرأ: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } قلت: بلى، قالت: فإن الله - عز وجل - افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً، وأمسك الله - عز وجل - خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء، حتى أنزل الله - عز وجل - في آخر السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعاً بعد أن كان فريضة" .
وروى وكيع، ويعلى ابن عباس قال: لما نزلت: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها، وكان بين نزول أولها وآخرها نحو من سنة.
وقال سعيد بن جبير: مكث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل، فنزلت بعد عشر سنين
{ { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ } [المزمل: 20] فخفف الله عنهم.
وقيل: كان قيام الليل واجباً، ثم نسخ بالصلوات الخمس.
وقيل: عسر عليهم تمييز القدر الواجب فقاموا الليل كلَّه فشق ذلك عليهم فنسخ بقوله في آخرها
{ { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [المزمل: 20] وكان بين الوجوب ونسخه سنة.
وقيل: نسخ التقدير بمكة وبقي التهجد، حتى نسخ بالمدينة.
وقيل: لم يجب التهجد قط لقوله
{ وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [الإسراء: 79]، ولأنه لو وجب عليه صلى الله عليه وسلم لوجب على أمته لقوله تعالى { وَٱتَّبِعُوهُ } [الأعراف: 158]، والنسخ على خلاف الأصل، ولأنه فرض تعيين المقدار أي المكلف وذلك ينافي الوجوب.
قوله: { إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً }. للناس في هذا كلام كثير، واستدلال على جواز استثناء الأكثر، والنصف، واعتراضات وأجوبة.
قال شهاب الدين: وها أنا أكذر ذلك محرراً له بعون الله تعالى: اعلم أن في هذه الآية ثمانية أوجه:
أحدها: أن "نِصْفهُ" بدل من "اللَّيْلِ" بدل بعض من كل، و "إلاَّ قَليْلاً" استثناء من النصف، كأنه قيل: [قُم أقل من نصف الليل، والضمير في "مِنْهُ" و "عليه" عائد على النصف، والمعنى: التخيير بين أمرين: بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت]، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف، والزيادة عليه، قاله الزمخشريُّ.
وناقشه أبو حيَّان: "بأنه يلزم منه تكرار اللفظ، ويصير التقدير: قم نصف الليل إلا قليلاً من نصف الليل، قال: وهذا تركيب ينزه القرآن عنه".
قال شهاب الدين: والوجه في إشكال، لكن لا من هذه الحيثية، فإن الأمر فيها سهل بل لمعنى آخر - سأذكره إن شاء الله تعالى قريباً -، وجعل أبو البقاء هذا الوجه مرجوحاً فإنه قال: والثاني: هو بدل من "قليلاً" - يعني النصف - قال: وهو أشبه بظاهر الآية لأنه قال: "أو انقُصْ مِنْهُ"، "أو زِدْ عليْهِ"، والهاء فيهما للنصف، فلو كان الاستثناء من النصف لصار التقدير: قم نصف الليل إلا قليلاً، أو انقص منه قليلاً، والقليل المستثنى غير مقدر فالنقصان منه لا يعقل.
قال شهاب الدين: "والجواب عنه: أن بعضهم قد عين هذا القليل، فعن الكلبي، ومقاتل: هو الثلث فلم يكن القليل غير مقدر، ثم إن في قوله تناقضاً فإنه قال: "والقليل المستثنى غير مقدر فالنقصان منه لا يعقل"، فأعاد الضمير على القليل، وفي الأول أعاده على النصف، ولقائل أن يقول: قد ينقدح هذا الوجه بإشكال قوي، وهو أنه يلزم منه تكرار المعنى الواحد، وذلك أن قوله: قُمْ نصف الليل إلا قليلاً، بمعنى أنقص من نصف الليل، لأن ذلك القليل، هو بمعنى النقصان وأنت إذا قلت: "قم نصف الليل إلا القليل من النصف، وقم نصف الليل، أو انقص من النصف" وجدتهما بمعنى واحد، وفيه دقة فتأمله، ولم يذكر الحوفيُّ غير هذا الوجه المتقدم، وقد عرف ما فيه، وممن ذهب إليه أيضاً الزجاجُ فإنه قال: "نِصفَهُ" بدل من "الليل" و "إلاَّ قَلِيلاً" استثناء من النصف، والضمير في "مِنْهُ" و "عَليْهِ" عائد للنصف، والمعنى: قُم نصف الليل، أو انقص من النصف قليلاً إلى الثلث، أو زد عليه إلى الثلثين، فكأنه قال: قم ثلثي الليل، أو نصفه، أو ثلثه".
قال شهاب الدين: "والتقديرات التي يبرزونها ظاهرة حسنة إلا أن التركيب لا يساعد عليها لما عرفت من الإشكال المذكور آنفاً".
الثاني: أن يكون "نِصفَهُ" بدلاً من "قَلِيْلاً" وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء، وابن عطية.
قال الزمخشريُّ: "وإن شئت جعلت "نِصفَهُ" بدلاً من "قَلِيْلاً" وكان تخييراً بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه، وبين قيام الناقص منه، وبين قيام الزائد عليه، وإنَّما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل".
وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أشبه من جعله بدلاً من "اللَّيْلِ" كما تقدم.
إلا أن أبا حيان اعترض هذا، فقال: "وإذا كان "نِصفَهُ" بدلاً من "إلاَّ قليلاً"، فالضميرُ في "نصفهُ" إما أن يعود على المبدل منه، أو على المستثنى منه، وهو "الليْل" لا جائزٍ أن يعود على المبدل منه؛ لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول، إذ التقدير: إلا قليلاً نصف القليل، وهذا لا يصح له معنى ألبتَّة، وإن عاد الضمير إلى "اللَّيْلِ" فلا فائدة في الاستثناء من "الليْلِ"،إذ كان يكون أخصر، وأفصح، وأبعد عن الإلباس: قم الليل نصفه، وقد أبطلنا قول من قال: "إلاَّ قَليلاً" استثناء من البدل، وهو "نِصْفَهُ" وأنَّ التقدير: قم الليل نصفه إلا قليلاً منه، أي من النصف، وأيضاً ففي دعوى أن "نِصفَهُ" بدل من "إلاَّ قَلِيلاً"، والضمير في "نِصْفَهُ" عائد على "الليْلِ"، إطلاق القليل على النصف، ويلزم أيضاً أن يصير التقدير: إلا نصفه فلا تقمه، أو انقص من النصف الذي لا تقومه، وهذا معنى لا يصلح، وليس المراد من الآية قطعاً".
قال شهاب الدين: يقول بجواز عوده على كل منهما، ولا يلزم محذور، أما ما ذكره من أنه يكون استثناء مجهول من مجهول فممنوع، بل هو استثناء معلوم من معلوم، لأنا بينا أن القليل قدر معين وهو الثلث، والليل ليس بمجهول، وأيضاً فاستثناء المبهم قد ورد، قال الله تعالى:
{ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [النساء: 66]، وقال تعالى: { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [البقرة: 249]، وكان حقه أن يقول: لأنه بدل مجهول من مجهول، وأما ما ذكره من أنه "أخصر منه، وأوضح" كيت وكيت، أما الأخصر، فمسلم وأما أنه يلبس، فممنوع، وإنما عدل عن اللفظ الذي ذكره لأنه أبلغ، وبهذا الوجه استدل من قال: يجوز استثناء النصفِ، والأكثر، [ووجه الدلالة على الأول أنه جعل قليلاً مستثنى من الليل ثم فسَّر ذلك القليل بالنصف، فكأنه قيل قم الليل إلا نصفه] ووجه الدلالة على الثاني: أنه عطف "أوْ زِدْ عليْهِ" على "انْقُصْ مِنْهُ"، فيكون قد استثنى الزائد على النصف، لأن الضمير في "مِنْهُ" وفي "عَليْهِ" عائد على النصف وهو استدلال ضعيف لأن الكثرة إنَّما جاءت بالعطف، وهو نظير أن يقول: له عندي عشرةٌ إلا خمسة درهماً درهماً، فالزيادة على النصف بطريق العطف، لا بطريق أن الاستثناء أخرج الأكبر بنفسه.
الثالث: إن "نِصفَهُ" بدل من "الليل" [أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأول، إلا أن الضمير في "مِنْهُ" و "عَليْهِ" عائد على الأقل من النصف،] وإليه ذهب الزمشخريُّ، فإنه قال: "وإن شئت قلت: لما كان معنى { قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ } إذا أبدلت النصف من الليل يكون المعنى: قم أقل من نصف الليل، فيرجع الضمير في "مِنْهُ" و "عَليْهِ"، إلى الأقل من النصف، فكأنه قيل: قم أقل من نصف الليل، أو قم أنقص من ذلك الأقل، أو أزيد منه قليلاً، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث".
الرابع: أن يكون "نِصفَهُ" بدلاً من "قَلِيْلاً" كما تقدم؛ إلا أنك تجعل القليل الثاني ربع الليلِ، وقد أوضح الزمخشري هذا أيضاً، فقال: "ويجوز إذا أبدلت "نِصْفَهُ" من "قَلِيْلاً" وفسرته به أن تجعل "قَلِيلاً" الثاني بمعنى نصف النصف بمعنى الربع، كأنه قيل: أو انقص منه قليلاً نصفه، وتجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع، كأنه قيل: أو زد عليه قليلاً نصفه، ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث، فيكون تخييراً بين النصف، والثلث، والربع" انتهى.
واختار ابن الخطيب هذا الوجه مع الوجه الثاني: فقال: وقد أكثر الناس في هذه الآية، وفيها وجهان ملخصان:
أحدهما: أن القليل في قوله: "إِلاَّ قَليْلاً"، هو الثلث، لأن قوله تعالى في آخر السورة: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ }، يقتضي أن أكثر المقادير الواجبة هو الثلثان، فيكون قيامُ الثلث جائزاً، وهو قوله: { إلاَّ قَلِيلاً } فكأنه قيل: قم ثلثي الليل، ثم قال: "نِصْفَهُ" فمعناه: أو قم نصفه، من باب قولهم: "جالس الحسن، أو ابن سيرين" على الإباحة، فحذف العاطف، فالتقدير: قم الثلثين، أو قم النصف، أو انقص من النصف، أو زد عليه، فعلى هذا يكون الثلثان أقصى الزيادة، والثلث أقصى النقصان، فيكون الواجب هو الثلث، والزائد عليه مندوباً، فإن قيل: فيلزم على قراءة الخفض في "نصفه" و "ثلثه" أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ترك من الواجب الأدنى، لأنه تعالى قال: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } فيكون المعنى أنك تقوم أقل من الثلثين، وأقل من النصف وأقل من الثلث، فإذا كان الثلث واجباً كان النبي صلى الله عليه وسلم تاركاً للواجب؟
قلنا: المقدر للشيء قد ينقص منه لعدم انضباطه لأنه باجتهاد فربما أخطأ، فهو كقوله تعالى:
{ عَلِمَ أَن لَّنْ تُحْصُوهُ } [المزمل: 20].
الثاني: أن "نِصْفَهُ" تفسير لـ"قَلِيْلاً" لأن النصف قليل بالنسبة إلى الكل لأن المكلف بالنصف لا يخرج عن العهدة بيقين، إلا بزيادة شيء قليل عليه فيصير في الحقيقة نصفاً وشيئاً، فيكون الباقي بعد ذلك أقل من النصف، فالمعنى: قم نصف الليل، أو انقص منه نصفه، وهو الربع، أو زد عليه نصفه، وهو الربع، فيصير المجموع ثلاثة أرباع، فيكون مخيراً بين أن يقوم تمام النصف، أو ربع الليل، أوثلاثة أرباعه، وحينئذ يزول الإشكال بالكلية، لأن الربع أقل من الثلث، وذلك أن قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقم ثلثي الليل، ولا نصفه ولا ثلثه، لأن الواجب لما كان هو الربع فقط، لم يلزم ترك قيام الثلث.
الوجه الخامس: أن يكون { إِلاَّ قَلِيلاً } استثناء من القيام، فيجعل "الليْل" اسم جنس، ثم قال: { إِلاَّ قَلِيلاً }، أي: إلا الليالي التي تُخِلّ فيها، أي تترك في قيامها القدر البين ونحوه، وهذا النظر يحسن مع القول بالندب، قاله ابن عطية، احتمالاً من عنده وهذا خلافُ الظاهرِ، وهو تأويل بعيد.
السادس: قال الأخفش: الأصل قم الليل إلا قليلاً أو نصفه، قال: كقولك: "أعطه درهماً درهمين ثلاثة".
وهذا ضعيف جداً، لأن فيه حذف حرف العطفِ، وهو ممنوعٌ، لم يردْ منه إلا شيء شاذ ممكن تأويله، كقولهم: "أكَلتُ لحْماً سَمَكاً تَمْراً".
وقول الآخر: [الخفيف]

4920 - كَيْفَ أصْبحْتَ كيْفَ أمْسيْتَ ممَّا يَنْزِعُ الوُدَّ في فُؤادِ الكَريمِ

أي: "لحماً وسمكاً وتمراً"، وكذا: كيف أصبحت، وكيف أمسيت، وقد خرج الناس هذا على بدل النداء.
السابع: قال التبريزي: الأمر بالقيام، والتخيير في الزيادة، والنقصان وقع على الثلثين في آخر الليل، لأن الثلث الأول وقت العتمة، والاسثتناء وارد على المأمورية، فكأنه قال: قم ثلثي الليل إلا قليلاً أي ما دون نصفه "أو زِدْ عليْهِ"، أي على الثلثين، فكان التخيير في الزيادة، والنقصان واقعاً على الثلثين، وهذا كلام غريب لا يظهر من هذا التركيب.
الثامن: أن "نِصْفَهُ" منصوب على إضمار فعل، أي: قم نصفه، حكاه مكي عن غيره، فإنه قال: "نِصْفَهُ" بدل من "الليْلِ".
وقيل: "انتصب على إضمار: قم نصفه".
قال شهاب الدين: "وهذا في التحقيق، وهو وجه البدل الذي ذكره أولاً، لأن البدل على نية تكرار العامل".
فصل في نسخ الأمر بقيام الليل
اختلفوا في الناسخ للأمر بقيام الليل، فعن ابن عباس وعائشة: أن الناسخ قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ } إلى آخرها، وقيل: قوله تعالى: { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } وعن ابن عباس أيضاً: أنه منسوخ بقوله { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ }، وعن عائشة أيضاً، والشافعي وابن كيسان: هو منسوخ بالصلوات الخمس، وقيل: الناسخ قوله تعالى: { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ }.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: لما نزلت { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ثم نزل قوله تعالى: { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ }.
قال بعض العلماء: وهو فرض نسخ به فرض كان على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لفضله كما قال تعالى: { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ }.
قال القرطبيُّ: "والقول الأول يعم جميع هذه الأقوال، وقد قال تعالى:
{ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } [البقرة: 43]. فدخل فيها قول من قال: إن الناسخِ الصلوات الخمس، وذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل كانت فريضة على كلِّ مسلمٍ، ولو على قدر حلب شاة، وعن الحسن أيضاً أنه قال في هذه الآية: الحمد لله تطوع بعد الفريضة، وهو الصحيح - إن شاء الله تعالى - لما جاء في قيامه من الترغيب، والفضل في القرآن، والسنة".
قالت عائشة رضي الله عنها:
"كنت أجعل للنبي صلى الله عليه وسلم حصيراً يصلي عليه من الليل، فتسامع الناس به فلما رأى جماعتهم كره ذلك، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فدخل البيت كالمغضب، فجعلوا يتحنحون، ويتفلون، فخرج إليهم فقال: أيُّهَا النَّاسُ تكلَّفُوا مِن العمل ما تُطيقُونَ، فإنَّ اللَّه لا يمَلُّ من الثواب حتَّى تَملُّوا من العملِ، وإنَّ خَيْرَ العمَلِ أدومهُ، وإنْ قَلَّ" ، فنزلت { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ }، فكتب عليهم، وأنزل بمنزلة الفريضة حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل، فيتعلق به، فمكثوا ثمانية أشهرٍ، فنزل قوله: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ }، فردهم الله إلى الفريضة، ووضع عنهم قيام الليل، إلا ما تطوعوا به.
قال القرطبيُّ: ومعنى حديث عائشة رضي الله عنها ثابت في الصحيح، إلى قوله: "وإنْ قَلَّ" وباقيه يدل على أن قوله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } نزل بالمدينة، وأنهم مكثوا ثمانية أشهرٍ يقومون، وقد تقدم عنها في "صحيح مسلم" حولاً.
وحكى الماورديُّ عنها قولاً ثالثاً: وهو ستة عشر شهراً لم يذكر غيره عنها، وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه كان بين أول "المُزمِّل" وآخرها سنة، قال: فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضاً عليه، وقيل في نسخه عنه قولان:
أحدهما: أنه كان فرضاً عليه إلى أن مات.
والثاني: أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته، وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان:
أحدهما: المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين، يريد قول ابن عباس حولاً، وقول عائشة ستة عشر شهراً.
الثاني: "أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ".
قوله: { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً }، أي: لا تعجل في قراءة القرآنِ بل اقرأه على مهل وهينة، وبينه تبييناً مع تدبر المعاني.
قال المبرد: أصله من قولهم: "ثغر رتل ورتل" بفتح العين وكسرها إذا كان حسن التنضيد، ورتلت الكلام ترتيلاً، إذا جملت فيه، ويقال: ثغر رتل إذا كان بين الثنايا افتراق قليل.
فقوله تعالى: { تَرْتِيلاً } تأكيد في إيجاب الأمر به، وأنه مما لا بد منه للقارىء.
روى الحسن:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل يقرأ آية ويبكي، فقال:أَمْ تَسمعُوا إلى قولِ اللَّهِ تعالى: { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً }، هذا الترتيل" .
وروى "أبو داود" عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُؤتَى بِقَارِىء القُرآنِ يَوْم القِيامةِ، فيُوقَفُ فِي أول دَرجِ الجنَّةِ، ويقال له: اقْرَأ وارْقَ ورتلْ كَمَا كُنْتَ تُرتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتك عِنْدَ آخِرِ آية تقرؤها" .