التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ
٨
فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ
٩
عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ
١٠
-المدثر

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ }.
قال الزمخشري: "الفاء" في قوله: { فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ } لتسبيب، كأنه قال: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى فيه عاقبة صبرك عليه. والفاء في "فإذا" متعلقة بـ"أنذر"، أي: فأنذرهم إذا نقر في الناقور. قاله الحوفيُّ.
وفيه نظر من حيث أن الفاء تمنع من ذلك، ولو أراد تفسير المعنى لكان سهلاً، لكنه في معرض تفسير الإعراب لا تفسير المعنى.
الثاني: أن ينتصب بما دل عليه قوله تعالى: { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ }.
قال الزمخشري: فإن قلت: بم انتصب "إذا"، وكيف صح أن يقع "يومئذ" ظرفاً لـ"يوم عسير"؟.
قلت: انتصب "إذا بما دل عليه الجزاء؛ لأن المعنى: فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين والذي أجاز وقوع "يومئذ" ظرفاً لـ { يَوْمٌ عَسِيرٌ }، إذ المعنى فذلك يوم النقر وقوع يوم عسير لأن يوم القيامة يقع، ويأتي حين يُنقر في النَّاقُور، انتهى.
ولا يجوز أن يعمل فيه نفس "عسير"؛ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل موصوفها عند البصريين، ولذلك رد على الزمخشري قوله: أن "في أنفسهم" متعلق بـ"بَلِيغاً" في سورة "النساء" في قوله تعالى
{ وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } [النساء: 63] والكوفيون يجوزون ذلك وتقدم تحريره.
الثالث: أن ينتصب بما دل عليه "فذلك"؛ لأنه إشارة إلى النقر، قاله أبو البقاء، ثم قال: "و "يومئذ" بدل من "إذا"، و "ذلك" مبتدأ، والخبر { يَوْمٌ عَسِيرٌ }، أي: نقر يوم".
الرابع: أن يكون "إذا" مبتدأ، و "فذلك" خبره، والفاء مزيدة فيه، وهو رأي الأخفش.
وأما "يَومَئذٍ" ففيه أوجه:
أحدها: أن يكون بدلاً من "إذا"، وقد تقدم ذلك في الوجه الثالث.
الثاني: أن يكون ظرفاً لـ { يَوْمٌ عَسِيرٌ } كما تقدم في الوجه الثاني.
الثالث: أن يكون ظرفاً لـ "ذلك"، لأنه أشار به إلى النقر.
الرابع: أنه بدل من "فذلك" ولكنه مبنيّ لإضافته إلى غير متمكن.
الخامس: أن يكون "فذلك" مبتدأ، و { يَوْمٌ عَسِيرٌ } خبره، والجملة خبر "فَذلِكَ".
قوله: "نُقِرَ"، أي: صوت، يقال: نقرت الرجل إذا صوت له بلسانك، وذلك بأن تلصق لسانك بنقرة حنكك، ونقرتُ الرجل: إذا خصصته بالدعوة كأنك نقرت له بلسانك مشيراً إليه، وتلك الدعوة يقال لها: النقرى، وهي ضد الدعوة الجفلى؛ قال الشاعر: [الرمل]

4955 - نَحْنُ فِي المشْتَاةِ نَدْعُو الجَفلَى لا تَرَى الآدِبَ فِينَا يَنْتَقِرْ

وقال امرؤ القيس: [الرجز]

4956 - أنَا ابْنُ مَاويَّةَ إذْ جَدَّ النَّقُرْ

يريد: النقر، أي الصوت، والنقر في كلام العرب: الصوت؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]

4957 - أخَفِّضُهُ بالنَّقْر لمَّا عَلوْتهُ ويَرْفعُ طَرْفاً غَيْرَ جَافٍ غَضِيضِ

والناقور: "فاعول" منه كالجاسوس من التجسس، وهو الشيء المصوّت فيه.
قال مجاهد وغيره: وهو كهيئة البوق، وهو الصور الذي ينفخ فيه الملك.
والنقير: فرع الشيء الصلب، والمنقار: الحديدة التي ينقر بها، ونقرت عينه: بحثت على أخباره استعارة من ذلك، ونقرته: أعبته.
ومنه قول امرأة لزوجها: مر بي على بني نظر، ولا تمر بي على بنات نقر، أرادت: ببني نظر الرجال لأنهم ينظرون إليها، وبينات نقر: النساء، لأنهن يعبنها وينقرن عن أحوالها.
قوله: { عَلَى ٱلْكَافِرِينَ }. فيه خمسة أوجه:
أحدها: أن يتعلق بـ"عسير".
الثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه نعت لـ "عَسِيرٌ".
الثالث: أنه في موضع نصب على الحال من الضمير المستكنّ في "عَسِيرٌ".
الرابع: أن يتعلق بـ "يسير"، أي: غير يسير على الكافرين قاله أبو البقاء.
إلا أن فيه تقديم معمول المضاف إليه على المضاف، وهو ممنوع، وقد جوزه بعضهم إذ كان المضاف "غير" بمعنى النفي، كقوله: [البسيط]

4958 - إنَّ امْرَأ خَصَّنِي يَوْماً مودَّتهُ عَلى التَّنَائِي لعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ

وتقدم تحرير هذا آخر الفاتحة.
الخامس: أن يتعلق بما دل عليه "غَيرُ يَسيرٍ"، أي: لا يسهل على الكافرين.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: فما فائدة قوله: "غير يسير"، و "عسير" مغن عنه؟.
قلت: لما قال - سبحانه وتعالى -: "على الكافرين" فقصر العسر عليهم، قال: "غَيرُ يَسِيرٍ" ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيراً هيناً، ليجمع بين وعيد الكافرين، وزيادة غيظهم، وتيسيراً للمؤمنين، وتسليتهم، ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا.
فصل في تعلق الآية بما بعدها
لما ذكر ما يتعلق بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعده وعيد الأشقياء قيل: المراد بهذه الآية هو النفخة الثانية.
وقيل: الأولى، قال الحليمي في كتاب "المنهاج": إنه تعالى سمى الصور اسمين، وإن كان هو الذي ينفخ فيه النفختان معاً، فإن نفخة الإصعاق غير نفخة الإحياء، وجاء في الأخبار أن في الصور ثقباً بعدد الأرواح كلِّها، وأنها تجمع في ذلك الثقب في النفخة الثانية، فيخرج عن النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزع منه، فيعود الجسد حياً بإذن الله تعالى.
قال ابن الخطيب: وهذا مردود، لأن الناقور اسم لما ينقر فيه لا لما ينقر فيه، ويحتمل أن يكون الصور محتوياً على ثقبين: ينقر في إحداهما، وينفخ في الأخرى، فإذا نفخ فيه للإصعاق جمع بين النقر، والنفخ، لتكون الصيحة أشد، وأعظم، وإذا نفخ فيه للإحياء، لم ينقر فيه بل يقتصر على النفخ لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها بنقرها من أجسادها بالنفخة الأولى للنقير، وهو نظير صوت الرعد؛ فإنه إذا اشتد فربما مات بسماعه، والصيحة الشديدة التي يصيحها رجل بصبي فيفزع منه فيموت.
قال ابن الخطيب: وفيه إشكال، وهو أن هذا يقتضي أن يكون النقر إنما يحصل عند صيحة الإصعاق وذلك اليوم غير شديد على الكافرين؛ لأنهم يموتون في تلك الساعة، إنما اليوم الشديد على الكافرين صيحة الإحياء، ولذلك يقول:
{ يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ } [الحاقة: 27]، أي: يا ليتنا بقينا على الموتة الأولى.
وقوله: "فَذلِكَ"، أي: فذلك اليوم يوم شديد على الكافرين "غير يَسيرٍ" أي: غير سهل، ولا هين وذلك أن عقدهم لا تنحل، إلا إلى عقد أشد منها، فإنهم يناقشون الحساب ويعطون كتبهم بشمائلهم، وتسودُّ وجوههم، ويحشرون زرقاً، وتتكلم جوارحهم، ويفضحون على رؤوس الأشهاد بخلاف المؤمنين الموحدين المذنبين فإنها تنحل إلى ما هو أخف، حتى يدخلوا الجنة برحمة الله تعالى فإنهم لا يناقشون الحساب، ويحشرون بيض الوجوه، ثِقال الموازين.
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون عسيراً على المؤمنين، والكافرين، على ما روي أن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - يفزعون يومئذ، وأن الولدان يشيبون، إلا أنه يكون على الكفار أشد فعلى الأول: لا يحسن الوقف على قوله { يَوْمٌ عَسِيرٌ }، فإن المعنى: إنه على الكافرين عسير وغير يسير.
وعلى الثاني: يحسن الوقف، لأنه في المعنى: أنه في نفسه عسير على الكل ثم الكافر فيه مخصوص بزيادة تخصه، وهي أنه عليه عسير.
فصل في دليل الخطاب
قال ابن الخطيب: استدل بهذه الآية القائلون بدليل الخطاب، قالوا: لولا أن دليل الخطاب حجة وإلا فما فهم ابن عباس من كونه غير يسير على الكافرين كونه يسيراً على المؤمنين.