التفاسير

< >
عرض

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً
١١
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً
١٢
وَبَنِينَ شُهُوداً
١٣
وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً
١٤
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ
١٥
كَلاَّ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً
١٦
سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً
١٧
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ
١٨
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
١٩
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
٢٠
ثُمَّ نَظَرَ
٢١
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ
٢٢
ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ
٢٣
فَقَالَ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ
٢٤
إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ
٢٥
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ
٢٦
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ
٢٧
لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ
٢٨
لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ
٢٩
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ
٣٠
-المدثر

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً }، الواو في قوله: { وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً }، كقوله: "والمُكَذبين" في الوجهين المتقدمين في السورة قبلها.
وقوله تعالى: { وَحِيداً } فيه أوجه:
أحدها: أنه حال من الياء في "ذَرْنِي"، أي: ذرني وحدي معه فأنا أكفيك في الانتقام منه.
الثاني: أنه حال من التاء في "خَلقْتُ"، أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه.
الثالث: أنه حال من "مَن".
الرابع: أنه حال من عائده المحذوف، أي خلقته وحيداً، فـ"وَحِيْداً" على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف، أي: خلقته وحده لا مال له ولا ولد، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته؛ قاله مجاهد.
الخامس: أن ينتصب على الذَّمِّ، لأنه يقال: إن وحيداً كان لقباً للوليد بن المغيرة، ومعنى "وَحِيْداً" ذليلاً.
قيل: كان يزعم أنه وحيد في فضله، وماله، وليس في ذلك ما يقتضي صدق مقالته لأن هذا لقب له شهر به، وقد يلقب الإنسان بما لا يتصف به، وإذا كان لقباً تعين نصبه على الذم.
فصل في معنى "ذرني"
معنى "ذرني" أي: دعني، وهي كلمة وعيد وتهديد، "ومَنْ خَلقْتُ" هذه واو المعية، أي: دعني والذي خلقته وحيداً.
قال المفسرون: هو الوليد بن المغيرة المخزومي، وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه فإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة، وأذى الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يسمى الوحيد في قومه.
قال ابن عباس: كان الوليد يقول: أنا الوحيد ابن الوحيد، ليس لي في العرب نظير، ولا لأبي المغيرة نظير، فقال الله تعالى: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ } بزعمه "وَحِيْداً" لأن الله تعالى صدقه، بأنه وحيد.
قال ابن الخطيب: ورد هذا القول بعضهم بأنه تعالى لا يصدقه في دعواه بأنه وحيد لا نظير له، ذكره الواحدي، والزمخشري، وهو ضعيف من وجوه:
الأول: لأنه قد يكون الوحيد علماً فيزول السؤال، لأن اسم العلم لا يفيد في المسمى صفة، بل هو قائم مقام الإرشاد.
الثاني: أن يكون ذلك بحسب ظنه، واعتقاده، كقوله - عز وجل -:
{ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [الدخان: 49].
الثالث: أنه وحيد في كفره، وعناده وخبثه؛ لأن لفظ الوحيد ليس فيه أنه وحيد في العلو والشرف.
الرابع: أنه إشارة إلى وحدته عن نفسه.
قال أبو سعيد الضرير: الوحيد الذي لا أب له كما تقدم في "زَنِيْمٌ".
قوله تعالى: { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً }، أي: خولته، وأعطيته مالاً ممدوداً.
قال ابن عباس: هو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الإبل والنعم والخيول والعبيد والجواري.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس - أيضاً -: ألف دينار.
وقال قتادة: ستة آلاف دينار.
وقال سفيان الثوري: أربعة آلاف دينار.
وقال الثوري - أيضاً -: ألف ألف دينار.
وقال ابن الخطيب: المال الممدود: هو الذي يكون له مدد يأتي منه الجزء بعد الجزء دائماً، ولذلك فسره عمر - رضي الله عنه - غلة شهر بشهر وقال النعمان: الممدود بالزيادة كالزرع والضرع، وأنواع التجارات.
قال مقاتل: كان له بستان لا ينقطع شتاء ولا صيفاً، كما في قوله - عز وجل -:
{ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } [الواقعة: 30]، أي: لا ينقطع والذي يظهر أنه المال الكثير، والتقديرات تحكم.
قوله: { وَبَنِينَ شُهُوداً }، أي: حضوراً لا يغيبون، ولا يفارقونه - ألبتة - طَيِّبَ القلب بحضورهم.
وقيل: معنى كونهم شهوداً، أي: يشهدون معه المجامعَ والمحافلَ.
وقيل: "شهوداً" أي: صاروا مثلهُ في شهود ما كان يشهدُ، والقيام بما كان يباشره.
قال مجاهد وقتادة: كانوا عشرة.
وقال السديُّ والضحاكُ: كانوا اثني عشر رجلاً، وعن الضحاك: سبعة ولدُوا بمكة، وخمسة بالطائف.
وقال مقاتل: كانوا سبعة أسلم منهم ثلاثةٌ: خالد، وهشام، والوليد بن الوليد، قال: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك قال ابن الخطيب كانوا سبعة الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص، وعبد القيس، وعبد شمس أسلم منهم ثلاثة: خالد، وعمارة، وهشام.
قوله: { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً }، أي: بسطتُ له في العيش بسطاً في الجاه العريض والرياسة في قومه.
والتميهدُ عند العرب: التوطئة والتهيئة.
ومنه: مهدُ الصبيّ.
وقال ابن عباس: { ومَهَّدتُ لهُ تَمْهِيداً } أي: وسعَّتُ له ما بين "اليمن" إلى "الشام"، وهو قول مجاهدٍ وعن مجاهد أيضاً: أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش.
قوله تعالى: { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ }. لفظة "ثُمَّ" - هاهنا - معناها: التعجب كقولك لصاحبك: أنزلتك داري وأطعمتك وأسقيتك ثم أنت تشتمني، ونظيره: قوله تعالى:
{ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [الأنعام: 1]، فمعنى "ثُمَّ - هاهنا - الإنكارُ والتعجبُ، أي: ثم الوليد يطمعُ بعد هذا كله أن أزيدهُ في المالِ والولدِ، وقد كفر بِي! قاله الكلبي ومقاتل، ثم قال: "كَلاَّ" ليس يكون ذلك مع كفرهِ بالنعمِ.
قال الحسنُ وغيره: أي: ثُمَّ يطمعُ أن أدخلهُ الجنة، وكان الوليد يقولُ: إنْ كَانَ محمدٌ صادقاً فما خلقتِ الجنة إلا لي، فقال الله عزَّ وجلَّ رداً عليه وتكذيباً له: "كلاَّ" لستُ أزيدهُ، فلمْ يزلْ في نقصانٍ بعد قوله: "كلاَّ" حتى افتقر ومات فقيراً.
وقيل: أي: ثم يطمع أن أنصره على كفره، "كَلا" قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة، فيكون متصلاً بالكلام الأول.
وقيل: "كَلاَّ" بمعنى "حقاً"، ويبتدىء بقوله "إنَّهُ" يعني الوليد { كان لآيَاتِنَا عَنِيداً }، أي: معانداً للنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به.
قال الزمخشريُّ: { إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا } استئناف جواب لسائل سأل: لم لا يزداد مالاً، وما باله ردع عن طبعه؟.
فأجيب بقوله: { إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً }، انتهى.
فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم في الهرة:
"إنَّها ليْسَتْ بنجسٍ، إنَّها مِنَ الطوَّافِيْنَ عَليْكُمْ" .
والعنيد: المعاند.
يقال: عاند فهو عنيد وعانِد، والمعاند: البعير الذي يجور عن الطريق ويعدل عن القصد، والجمع: عند مثل: "راكع وركع"، قاله أبو عبيدة؛ وأنشد قول الحازميِّ: [الرجز]

4959 - إذَا رَكبتُ فاجْعَلانِي وَسَطا إنَّي كَبِيرٌ لا أطيقُ العُنَّدا

وقال أبو صالح: "عنيداً" معناه: مباعداً؛ قال الشاعر: [الطويل]

4960 - أرَانَا على حَالٍ تُفَرِّقُ بَيْنَنا نَوّى غُرْبَةٌ إنَّ الفِراقَ عَنُودُ

وقال قتادة: جاحداً.
وقال مقاتل: معرضاً.
وقيل: إنه المجاهر بعداوته.
وعن مجاهد: أنه المجانب للحق.
قال الجوهري: ورجل عنود: إذا كان لا يخالط الناس، والعنيد من التجبر، وعرق عاند: إذا لم يرقأ دمه، وجمع العنيد عُنُد مثل رغيف ورغف، والعنود من الإبل: الذي لا يخالط الإبل إنما هو في ناحية، والعنيد في معنى المعاند كالجليس والأكيل والعشير.
فصل في بيان فيما كانت المعاندة
في الآية إشارة إلى أنه كان يعاند في أمور كثيرة:
منها أنه كان يعاند في دلائل التوحيد، والعدل، والقدرة، وصحة النبوة وصحة البعث.
ومنها: أن كفره كان عناداً لأنه كان يعرف هذه الأشياء بقلبه وينكرها بلسانه. وكفر المعاند أفحش أنواع الكفر.
ومنها: أن قوله "كان" يدل على أن هذه حرفته من قديم الزمان.
ومنها: أن هذه المعاندة، كانت مختصة منه بآيات الله تعالى.
قوله: { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً }، أي: سأكلفه، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: سألجئه، والإرهاق في كلام العرب: أن يحمل الإنسان الشيء.
والصعود: جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفاً، ثم يهوي به كذلك فيه أبداً. رواه الترمذي.
وفي رواية: صخرة في جهنم، إذا وضعوا أيديهم عليها ذابت، فإذا رفعوها عادت.
وقيل: هذا مثل لشدة العذاب الشاق الذي لا يطاق، كقوله: عقبة صعود وكؤود، أي: شاقة المصعدِ.
ثم إنه تعالى حكى كيفية عناده، وهو قوله تعالى:
{ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ }: يجوز أن يكون استئناف تعليل لقوله تعالى: { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً }، ويجوز أن يكون بدلاً من { إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً }.
يقال: فكر في الأمر، وتفكر إذا نظر فيه وتدبر، ثم لما تفكر رتب في قلبه كلاماً وهيأه، وهو المراد من قوله "وقَدَّرَ".
والعرب تقول: قدرت الشيء إذا هيأته.
فصل في معنى الآية
معنى الآية: أن الوليد فكر في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن لما نزل:
{ حـمۤ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِي ٱلطَّوْلِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [غافر: 1 - 3]، سمعه الوليد يقرأها، فقال: والله لقد سمعت منه كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجنِّ، وإنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لمثمر، وإنَّ أسفله لمغدق وإنه ليعلو، وما يعلى عليه، وما يقول هذا بشر، فقالت قريش: صبأ الوليد لتصبونَّ قريش كلها، وكان يقال للوليد: ريحانة قريش، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فانطلق إليه حزيناً، فقال له: ما لي أراك حزيناً، فقال: وما لي لا أحزن، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينوك بها، ويزعمون أنك زينت كلام محمدٍ، وتدخل على ابن أبي كبشة، وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما، فغضب الوليدُ - لعنهُ الله - وتكبَّر، وقال: أنا أحتاجُ إلى كسرِ محمدٍ وصاحبه، وأنتم تعلمون قدر مالي، واللاتِ والعُزَّى ما بي حاجةٌ إلى ذلك وأنتم تزعمُون أن محمداً مجنون، فهل رأيتموه قط يخنق؟.
قالوا: لا والله، قال: وتزعمون أنه كاهنٌ، فهل رأيتموه تكهن قط؟ ولقد رأينا للكهنةِ أسجاعاً وتخالجاً، فهل رأيتموهُ كذلك؟.
قالوا: لا والله. وقال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟ قالوا: لا والله.
قال: وتزعمون أنه كذَّاب، فهل جريتمْ عليه كذباً قط؟.
قالوا: لا والله. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُسمَّى الصادق والأمين من كثرة صدقه، فقالت قريش للوليدِ: فما هو؟ ففكّر في نفسه ثم نظر ثم عبس، فقال: ما هذا إلا سحرٌّ أما رأيتموه يفرق بين الرجل وولده فذلك قوله تعالى: { إِنَّهُ فَكَّرَ } أي في أمر محمدٍ والقرآن "وقدر" في نفسه ماذا يمكنهُ أن يقول فيهما.
قوله: { فَقُتِلَ }، أي: لعنَ.
وقيل: قُهِرَ وغلبَ.
وقال الزهري: عذب، وهو من باب الدعاء.
قال ابن الخطيب: وهذا إنما يذكرُ عند التعجب والاستعظام.
ومثله قولهم: قتلهُ اللَّهُ ما أشجعهُ، وأخزاه الله ما أفجره، ومعناهُ: أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسدهُ بذلك، وإذا عرف ذلك، فنقول: هنا يحتملُ وجهين:
الأول: أنه تعجب من قوة خاطره، يعني أنه لا يمكن القدحُ في أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم بشبهةٍ أعظم ولا أقوى مما ذكرهُ هذا القائلُ.
الثاني: الثناءُ عليه على طريقةِ الاستهزاء، يعني أن هذا الذي ذكره في غاية الركاكة والسقوط.
قوله: { كَيْفَ قَدَّرَ }، أي: كيف فعل هذا، كقوله تعالى:
{ ٱنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ } [الإسراء: 48] ثم قيل: بضرب آخر من العقوبة. "كيف قدَّر" على أيّ حال قدَّر. "ثم نظر" بأي شيء يردّ الحق ويدفعهُ.
قال ابن الخطيب: والمعنى أنه أولاً فكّر. وثانياً: قدَّر. وثالثاً: نظر في ذلك المقدرِ، فالنظر السابق للاستخراج، والنظر اللاحق لتمام الاحتياطِ، فهذه المرات الثلاث متعلقة بأحوال ثلاث.
قوله تعالى: { ثُمَّ عَبَسَ }، يقال: عبس يعبس عبساً، وعبوساً: أي: قطب وجهه.
وقال الليث: عبس يعبس فهو عبس إذا قطب ما بين عينيه، فإذا أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل: كلح، فإن اهتم لذلك، وفكر فيه قيل: بسر، فإن غضب مع ذلك قيل بسل. واعلم أنه ذكر صفات جسمه بعد صفات قلبه، وهذا يدل على عناده، لأن من فكر في أمر حسن يظهر عليه الفرح لا العبوس، والعبس أيضاً: ما يبس في أذناب الإبل من البعر، والبول؛ قال أبو النجم: [الرجز]

4961 - كَأنَّ في أذْنابِهنَّ الشُّوَّلِ مِنْ عبسِ الصَّيفِ قُرونَ الأُيَّلِ

فصل في معنى الآية
معنى الآية: قطب وجهه في وجوه المؤمنين، وذلك أنه لما قال لقريش محمداً ساحر مرَّ على جماعة من المسلمين، فدعوه إلى الإسلام، فعبس في وجوههم.
وقيل: عبس على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه، والعبس: مصدر "عبس" مخففاً"، كما تقدم.
قوله: "وَبَسَرَ"، يقال: بَسَر يَبسُرُ بسراً وبُسُوراً" إذا قبض ما بين عينيه كراهة للشيء واسود وجهه منه، يقال: وجه باسر، أي منقبض مسود كالح متغير اللون، قاله قتادة والسدي؛ ومنه قول بشير بن الحارث: [المتقارب]

4962 - صَبَحْنَا تَمِيماً غَداةَ الجِفارِ بِشهْبَاءَ ملمُومةٍ بَاسِرَهْ

وأهل اليمن يقولون: بسر المركب بسراً، أي: وقف لا يتقدم، ولا يتأخر، وقد أبسرنا: أي صرنا إلى البسور.
وقال الراغب: البسر استعجال الشيء قبل أوانه، نحو: بسر الرجل حاجته طلبها في غير أوانها، وماء بسر متناول من غديره قبل سكونه، ومنه قيل للذي لم يدرك من التمر: بسر، وقوله تعالى: { عَبَسَ وَبَسَرَ }، أي: أظهر العبوس قبل أوانه، وقبل وقته.
قال: فإن قيل: فقوله تعالى:
{ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } [القيامة: 24]، ليس يفعلون ذلك قبل الموت، وقد قلت: إن ذلك يكون فيما يقع قبل وقته.
قيل: أشير بذلك إلى حالهم قبل الانتهاء بهم إلى النار، فخص لفظ البسر تنبيهاً على أن ذلك مع ما ينالهم من بعد، يجري مجرى التكلف، ومجرى ما يفعل قبل وقته، ويدل على ذلك
{ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [القيامة: 25].
وقد عطف في هذه الجمل بحروف مختلفة، ولكل منها مناسبة، أما ما عطف بـ"ثُمَّ" فلأن بين الأفعال مهلة، وثانياً: لأن بين النظر، والعبوس، وبين العبوس، والإدبار تراخياً.
قال الزمخشريُّ: و "ثمّ نظر" عطف على "فكَّر" و "قدَّر"، والدعاء اعتراض بينهما، يعني بالدعاء قوله: "فَقُتِل"، ثم قال: فإن قلت: ما معنى "ثُمَّ" الداخلة على تكرير الدعاء؟.
قلت: الدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى؛ ونحوه قوله: [الطويل]

4963 - ألاَ يَا اسْلمِي ثُمَّ اسْلمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي .....................

فإن قلت: ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟.
قلت: للدلالة على أنه تأنَّى في التأمل، والتمهل، وكأن بين الأفعال المتناسقة تراخٍ، وتباعد، فإن قلت: فلم قال: "فَقالَ" - بالفاء - بعد عطف ما قبله بـ"ثُمَّ"؟.
قلت: لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث، فإن قلت: فلم لم يتوسط حرف العطف بين الجملتين؟.
قلت: لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التأكيد من المؤكد.
قوله تعالى: { ثُمَّ أَدْبَرَ }، أي: ولى وأعرض ذاهباً عن سائر الناس إلى أهله.
{ وَٱسْتَكْبَرَ } حين دعي إلى الإيمان، أي: تعظم.
{ إن هذا } أي: ما هذا الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم { إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ }، أي: تأثره عن غيره.
والسحر: الخديعة.
وقيل: السحر إظهار الباطل في صورة الحق.
والأثر: مصدر قولك: أثرت الحديث آثره، إذا ذكرته عن غيرك؛ ومنه قيل: حديث مأثور، أي: ينقله خلف عن سلف؛ قال الأعشى: [السريع]

4964 - إنَّ الَّذي فيه تَمَاريْتُمَا بُيِّنَ للسَّامِع والآثِرِ

قال ابن الخطيب: فيه وجهان:
الأول: أنه من قولهم: أثرت الحديث آثره، أَثراً، إذا حدثت به عن قوم في آثارهم، أي: بعدما ماتوا، هذا هو الأصل، ثم صار بمعنى الرواية عما كان.
والثاني: يؤثر على جميع السحر، وهذا يكون من الإيثارِ.
وقال أبو سعيد الضرير: يؤثر، أي: يُورَثُ.
قوله تعالى: { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ }، أي: هذا إلا كلام المخلوقين تختدع به القلوب كما يخدع بالسحر.
قال ابن الخطيب: ولو كان الأمر كذلك لتمكنوا من معارضته إذا طريقتهم في معرفة اللغة متقاربة.
قال السديُّ: يعني أنه من قول سيَّار عبد لبني الحضرمي، كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك.
وقيل: إنه أراد أنه تلقنه ممن ادعى النبوة قبله، فنسج على منوالهم.
قال ابن الخطيب وهذا الكلام يدل على أن الوليد كان يقولُ هذا الكلام عناداً، لما روي في الحديث المتقدم:
"أنه لما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حم ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لقد سمعتُ من محمدٍ كلاماً، ليس من كلام الجنِّ، ولا من كلام الإنس" الحديث، فلمَّا أقر بذلك في أول الأمر علمنا أن قوله - هاهنا -: { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ }، إنَّما ذكره عناداً، أو تمرداً لا اعتقاداً.
قوله تعالى: { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } هذا بدل من قوله تعالى: { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً }. قاله الزمخشري.
فإن كان المراد بالصعود: المشقة، فالبدل واضح، وإن كان المراد: صخرة في جهنم - كما جاء في التفسير - فيعسر البدل، ويكون فيه شبه من بدل الاشتمال، لأن جهنم مشتملة على تلك الصخرة.
فصل في معنى الآية
المعنى: سأدخله سقر كي يصلى حرها، وإنما سميت "سَقَرَ" من سقرته الشمس: إذا أذابته ولوحته، وأحرقت جلدة وجهه، ولا ينصرف للتعريف والتأنيث قال ابن عباس: "سقر" اسم للطبقة السادسة من "جهنم".
{ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ }. هذا مبالغة في وصفها، أي: وما أعلمك أي شيء هي؟. وهي كلمة تعظيم، وتهويل، ثم فسر حالها، فقال - جل ذكره -: { لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } أي: لا تترك لهم لحماً، ولا عظماً، ولا دماً إلا أحرقته.
قوله: { لاَ تُبْقِي }، فيها وجهان:
أحدهما: أنها في محل نصب على الحال، والعامل فيها معنى التعظيم، قاله أبو البقاء.
يعني أن الاستفهام في قوله: "مَا سَقَرُ" للتعظيم، والمعنى: استعظموا سقر في هذه الحال.
ومفعول "تُبْقِي"، وتَذرُ" محذوف أي لا تبقي ما ألقي فيها، ولا تذره، بل تهلكه.
وقيل: تقديره لا تُبْقِي على من ألقي فيها، ولا تذر غاية العذاب إلا وصلته إليه.
والثاني: أنها مستأنفة.
قال ابن الخطيب: واختلفوا في قوله: { لا تبقي ولا تذر }.
فقيل: هما لفظان مترادفان بمعنى واحد، كرر للتأكيد والمبالغة، كقولك صدَّ عني وأعرض عني، بل بينهما فرق، وفيه وجوه:
الأول: لا تبقي من اللحم، والعظم، والدم شيئاً، ثم يعادون خالقاً جديداً، "ولا تَذرُ" أن تعاود إحراقهم بأشد مما كانت، وهكذا أبداً، رواه عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال مجاهد: لا تبقي فيها حياً ولا تذره ميتاً بل تحرقهم كلما جُدِّدوا. وقال السديّ: لا تبقي لهم لحماً ولا تذر لهم عظماً. وقيل: لا تبقي من المعذبين، ولا تذر من فوقها شيئاً، إلا تستعمل تلك القوة في تعذيبهم.
قوله تعالى: { لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ }، قرأ العامة: بالرفع، خبر مبتدأ مضمر، أي هي لواحة، وهذه مقوية للاستئناف في "لا تُبقِي".
وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة وزيد بن علي وعطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر: بنصبهما على الحال، وفيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها حال من "سَقرُ"، والعامل معنى التعظيم كما تقدم.
والثاني: أنها حال من "لا تُبْقِي".
والثالث: من "لا تَذرُ".
وجعل الزمخشري: نصبها على الاختصاص للتهويل.
وجعلها أبو حيان حالاً مؤكدة.
قال: "لأن النار التي لا تبقي ولا تذر، لا تكون إلاَّ مُغيرة للأبشار".
و "لوَّاحةٌ" هنا مبالغة، وفيها معنيان:
أحدهما: من لاح يلوح،أي: ظهر، أي: أنها تظهر للبشر، [وهم الناس، وإليه ذهب الحسن وابن كيسان، فقال: "لوَّاحةٌ" أي: تلوح للبشر] من مسيرة خمسمائة عام، وقال الحسن: تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً، ونظيره:
{ وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ } [النازعات: 36].
والثاني: وإليه ذهب جمهور الناس، أنها من لوّحه أي: غيَّرهُ، وسوَّدهُ.
قال الشاعر: [الرجز]

4965 - تقُولُ: ما لاحَكَ يا مُسَافِرُ يَا بْنَةَ عَمِّي لاحَنِي الهَواجِرُ

وقال رؤبة بن العجَّاج: [الرجز]

4966 - لُوِّحَ مِنْهُ بَعْدَ بُدْنٍ وسَنَقْ تَلْويحكَ الضَّامرَ يُطْوى للسَّبَقْ

وقال آخر: [الطويل]

4967 - وتَعْجَبُ هِنْدٌ إنْ رأتْنِي شَاحِباً تقُولُ لشَيءٍ لوَّحتهُ السَّمائمُ

ويقال: لاحَهُ يلُوحُه: إذا غير حليته.
قال أبو رزين: تلفح وجوههم لفحة تدعهم أشد سواداً من الليل، قال تعالى:
{ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } [المؤمنون: 104].
وطعن القائلون بالأول في هذا القول، فقالوا: لا يجوز أن يصفهم بتسويد الوجوهِ، مع قوله: { لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ }.
وقيل: اللوح شدة العطش، يقال: لاحه العطش ولوحه: أي غيره، قال الأخفش: والمعنى أنها معطشة للبشر، أي: لأهلها؛ وأنشد: [الطويل]

4968 - سَقَتْنِي على لَوْحِ من المَاءِ شَرْبةً سَقَاهَا بِه اللَّهُ الرِّهامَ الغَوادِيَا

يعني باللوح: شدة العطش. والرهام جمع رهمة - بالكسر - وهي المطرة الضعيفة وأرهمت السحابة: أتت بالرهام.
واللُّوح - بالضم - الهواء بين السماء والأرض، والبشر: إما جمع بشرة، أي: مغيرة للجلود. قاله مجاهد وقتادة، وجمع البشر: أبشار، وإما المراد به الإنس من أهل النار، وهو قول الجمهور.
واللام في "البشر": مقوية، كهي في
{ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ } [يوسف:43].
وقراءة النصب في "لوَّاحَةً" مقوية، لكون "لا تُبْقِي" في محل الحال.
قوله تعالى: { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ }، هذه الجملة فيها الوجهان:
أعني: الحالية، والاستئناف وفي هذه الكلمة قراءات شاذة، وتوجيهات مشكلة.
فقرأ أبو جعفر وطلحة: "تِسعَة عْشرَ" - بسكون العين من "عشر"؛ تخفيفاً؛ لتوالي خمس حركات من جنس واحد، وهذه كقراءة { أَحَدَ عَشْرَ كَوْكباً } [يوسف: 4] وقد تقدمت. وقرأ أنس وابن عباس رضي الله عنهما "تِسعَةُ عشَر" بضم التاء، "عَشَر" بالفتح.
وهذه حركة بناء، لا يجوز أن يتوهم كونها إعراباً، إذ لو كانت للإعراب لجعلت في الاسم الأخير لتنزل الكلمتين منزلة الكلمة الواحدة، وإنما عدل إلى التسكين كراهة توالي خمس حركات.
وعن المهدوي: "من قرأ: "تِسْعَةُ عَشَرْ" فكأنه من التداخل، كأنه أراد العطف، فترك التركيب، ورفع هاء التأنيث، ثم راجع البناء، وأسكن" انتهى.
فجعل الحركة للإعراب، ويعني بقوله: أسكن راء "عَشَرْ" فإنه في هذه القراءة كذلك.
وعن أنس - رضي الله عنه - أيضاً: "تِسْعَةُ أعْشُرٍ" بضم "تِسْعَة" و "أعْشُر" بهمزة مفتوحة، ثم عين ساكنة، ثم شين مضمومة، وفيها وجهان:
قال أبو الفضل: يجوز أن يكون جمع "العشيرة" على "أعْشُر"، ثم أجراه مجرى "تِسْعَة عشر".
وقال الزمخشريُّ: جمع "عَشِير" مثل: يَمِين وأيْمُن.
وعن أنس - أيضاً -: "تِسْعَةُ وعْشُرْ" بضم التاء وسكون العين وضم الشين وواو مفتوحة بدل الهمزة.
وتخريجها كتخريج ما قبلها، إلا أنه قلب الهمزة واواً مبالغة في التخفيف، والضمة - كما تقدم - للبناء لا للإعراب.
ونقل المهدوي: أنه قرىء: "تِسْعَةٌ وعَشْرْ"، قال: "فجاء به على الأصل قبل التركيب وعطف "عَشْر" على "تِسْعَة"، وحذف التنوين، لكثرة الاستعمال، وسكون الراء من "عشر" على نية الوقف".
وقرأ سليمان بن قتة: بضم التاء وهمزة مفتوحة، وسكون العين، وضم الشين وجر الراء من "أعْشُرٍ".
والضمة على هذا ضمة إعراب، لأنه أضاف الاسم لها بعده فأعربهما إعراب المتضايفين وهي لغة لبعض العرب يفكون تركيب الأعداد، ويعربونها كالمتضايفين؛ كقوله: [الرجز]

4969 - كُلِّفَ مِنْ عَنائِهِ وشِقْوتِهْ بِنْتَ ثَمانِي عَشْرةٍ مِنْ حِجَّتِهْ

قال أبوالفضل: ويجيء على هذه القراءة، وهي قراءة من قرأ: "أعشر" مبنياً، أو معرباً من حيث هو جمع، أن الملائكة الذي هم على "سَقَر" تسعون ملكاً.
فصل في معنى الآية
معنى الآية: أنه يلي أمر تلك النار تسعة عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها.
قيل: هم خزنة النار، مالك وثمانية عشر ملكاً.
وقيل: التسعة عشر نقيباً، وقال أكثر المفسرين: تسعة عشر ملكاً بأعيانهم.
قال القرطبي: وذكر ابن المبارك عن رجل من بني تميم، قال كنا عند أبي العوام.
فقرأ هذه الآية، فقال: ما تسعة عشر تسعة عشر ألف ملك أو تسعة عشر ملكاً؟ قال: قلت: لا بل تسعة عشر ملكاً، قال: وأنى تعلم ذلك؟
فقلت: لقول الله - عز وجل -:
{ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } [المدثر: 31]
قال: صدقت، هم تسعة عشر ملكاً.
قال ابنُ جريج: نعت النبي صلى الله عليه وسلم خزنة جهنم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أعْينُهُمْ كالبَرْقِ، وأنْيابُهمْ كالصَّيَاصي، وأشْعارُهمْ تَمَسُّ أقْدامَهُمْ يَخرجُ لهَبُ النَّارِ مِنَ أفْواهِهِمْ" ، الحديث.
قال ابن الأثير: "الصَّياصِي: قرون البقر".
وروى الترمذي عن عبد الله قال:
"قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟
قالوا: لا ندري حتى نسأله فجاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد غلب أصحابك اليوم، فقال: وبماذا غلبوا؟.
قال: سألهم يهود، هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟.
قال: فماذا قالوا؟ قال: فقالوا: لا ندري حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: أيغلب قومٌ سئلوا عما لا يعلمون، فقالوا: لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم؟ لكنهم قد سألوا نبيهم، فقالوا: أرنا الله جهرة، عليّ بأعداء الله، إني سائلهم عن تربة الجنة، وهي الدرمك، فلما جاءوا، قالوا: يا أبا القاسم، كم عدد خزنة جهنم؟.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَكذَا، وهَكذَا، في مرة عشرة، وفي مرة تسعة، قالوا: نعم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا تُربَةُ الجنَّةِ؟ فسكتوا، ثم قالوا: أخبرنا يا أبا القاسم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الخُبْزُ مِنَ الدَّرْمكِ"
.
قال ابن الأثير: الدرمك: هو الدقيق الحوارى.
قال القرطبيُّ: الصحيح - إن شاء الله - أن هؤلاء التسعة عشر، هم الرؤساء، والنقباء، وأما جملتهم فكما قال تعالى:
{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [المدثر: 31]، وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُؤتَى بجَهنَّم يَومئِذٍ، لها سبعُونَ ألفَ زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يَجُرُّونهَا" .
وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: لما نزل قوله - عز وجل - { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمعُ ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم: "تسعة عشر" وأنتم الدهماء - أي العدد العظيم - والشجعان، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم.
قال السدي: فقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي: لا يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة، يقولها مستهزءاً.
وفي رواية: أن الحارث بن كلدة قال: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، فلما قال أبو الأسود ذلك، قال المسلمون: ويحكم، لا يقاس الملائكة بالحدادين، فجرى هذا مثلاً في كل شيئين لا تساوي بينهما، ومعناه: لا يقاس الملائكة بالسجّانين، والحداد: السجان.
فصل في تقدير عدد الملائكة
ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوهاً:
منها ما قاله أرباب الحكمةِ: أنّ سبب فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية والعملية، هو القوى الحيوانية والطبيعية، فالقوى الحيوانية: فهي الخمسة الظاهرة، والخمسة الباطنة، والشَّهوة، والغضب فهذه اثنا عشر، وأما القوى الطبيعية: فهي الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة والعادية، والنافية، والمولدة، فالجموع تسعة عشر، فلما كانت هذه منشآت الآفات لا جرم كان عدد الزبانية هكذا.
ومنها: أن أبو جهنم سبعة، فستة منها للكفار وواحد للفسَّاق، ثم إنَّ الكفَّار يدخلون النار لأمور ثلاثة: ترك الاعتقاد، وترك الإقرار، وترك العمل، فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة، فالمجموع: ثمانية عشر.
وأما باب الفساق: فليس هناك إلا ترك العمل، فالمجموع: تسعة عشر مشغولة بغير العبادة، فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر.