التفاسير

< >
عرض

كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ
٣٨
إِلاَّ أَصْحَابَ ٱلْيَمِينِ
٣٩
فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ
٤٠
عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ
٤١
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ
٤٢
قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ
٤٣
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ
٤٤
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ
٤٥
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ
٤٦
حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ
٤٧
فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ
٤٨
-المدثر

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }. فيه أوجه:
أحدها: أنَّ "رَهِينَةٌ" بمعنى "رَهْنٍ" كـ "الشَّتِيمة" بمعنى "الشَّتْم".
قال الزمخشري: ليس كتأنيث "رهين" في قوله:
{ كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } [الطور: 21] لتأنيث النفس، لأنه لو قصدت الصفة لقيل: رهين؛ لأن "فعيلاً" بمعنى "مفعول" يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنَّما هي اسم بمعنى "الرهن" كالشتيمة بمعنى "الشّتم" كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن، ومنه بيت الحماسة: [الطويل]

4972 - أبَعْدَ الذي بالنَّعْفِ نَعْفِ كُويكِبٍ رَهِينَةِ رَمْسٍ ذي تُرابٍ وجَنْدلِ

كأنَّه قال: "رَهْنِ رَمْسٍ".
الثاني: أن الهاء للمبالغة.
الثالث: أنَّ التأنيث لأجل اللفظ.
واختار أبو حيان: أنها بمعنى "مفعول" وأنها كالنَّطيحة، وقال: ويدل على ذلك أنَّه لما كان خبراً عن المذكر كان بغير هاء، وقال تعالى: { كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } فأنَّثَ حيث كان خبراً عن المذكر أتى بغير تاء، وحيث كان خبراً عن مؤنث أتى بالتاء كما في هذه الآية فأمَّا التي في البيت فأنَّثَ على معنى النَّفْسِ.
فصل في معنى رهينة
ومعنى "رهينة" أي: مُرتهَنَة بكسبها، مأخوذة بعملها، إمَّا خلَّصهَا وإمَّا أوبقها.
قوله: { إِلاَّ أَصْحَابَ ٱلْيَمِينِ }. فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه استثناء متصل إذا المراد بهم المسلمون الخالصون الصالحون، فإنَّهم فكُّوا رقاب أنفسهم بأعمالهم الحسنة كما يخلِّص الراهن رهنه بإيفاءِ الحق.
والثاني: أنَّه منقطع، إذا المراد به الأطفال والملائكة.
قال ابن عباس: المراد بهم الملائكة.
وقال عليُّ بن أبي طالب وابن عمر - رضي الله عنهما - هم أولاد المسلمين لم يكتسبوا فيُرْتهَنُوا.
وقال الضحاك: هم الذين سبقت لهم منا الحسنى، ونحوه عن ابن جريج قال: كل نفس بعملها محاسبة إلا أصحاب اليمين، وهم أهل الجنة فإنَّهم لا يحاسبون.
وكذا قال مقاتل والكلبي أيضاً: هم أصحاب الجنة الذين كانوا عن يمين آدم - عليه الصلاة والسلام - يوم الميثاق حين قال الله تعالى لهم:
"هؤلاء في الجنة ولا أبالي" .
قال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين، لأنهم أدَّوا ما كان عليهم.
وعن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: هم المسلمون.
وقيل: إلا أصحاب الحق وأهل الإيمان.
وقيل: هم الذين يُعطون كتبهم بأيمانهم.
وقال أبو جعفر الباقرُ: نحن وشيعتنا أصحاب اليمين، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون.
قوله تعالى: { فِي جَنَّاتٍ }. يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: هم في جنات، وأن يكون حالاً من "أصحاب اليمين"، وأن يكون حالاً من فاعل "يتساءلون". ذكرهما أبو البقاء. ويجوز أن يكون ظرفاً لـ"يتساءلون"، وهو أظهر من الحالية من فاعله.
و "يتساءلون" يجوز أن يكون على بابه، أي: يسأل بعضهم بعضاً، ويجوز أن يكون بمعنى "يسألون" أي يسألون غيرهم، نحو "دَعوْتُه وتَداعَيْتُه".
قوله: { عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ } فيه وجهان:
الأول: أن تكون كلمة "عن" صلة زائدة، والتقدير: يتساءلون المجرمين، فيقولون لهم: { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ }، فإنه يقال: سألته كذا، وسألته عن كذا.
الثاني: أن يكون المعنى: أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضاً عن أحوال المجرمين.
فإن قيل: فعلى هذا يجب أن يقولوا: { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ }؟.
فأجاب الزمخشري عنه فقال: "المرادُ من هذا أن المشركين يلقون ما جرى بينهم وبين المؤمنين، فيقولون: قلنا لهم: مَا سلَكَكُمْ في سَقَرَ".
وفيه وجه آخر وهو: أنَّ المراد أن أصحاب اليمين كانوا يتساءلون عن المجرمين أين هم؟ فلما رأوهم، قالوا لهم: ما سلككم في سقر؟ والإضمارات كثيرة في القرآن.
قوله: { مَا سَلَكَكُمْ }: يجوز أن يكون على إضمار القول، وذلك في موضع الحال أي: يتساءلون عنهم قائلين لهم: ما سلككم؟ قال الزمخشري: فإن قلت: كيف طابق بعد قوله: "ما سلككم" وهو سؤال المجرمين، قوله: { يَتَسَآءَلُونَ عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ }، وهو سؤال عنهم، وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل: يتساءلون المجرمين: ما سلككم؟.
قلت: قوله تعالى: { مَا سَلَكَكُمْ } ليس ببيانٍ للتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المسئولين عنهم؛ لأن المشركين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين، فيقولون: قلنا لهم: ما سلككم في سقر؟ أي: أدخلكم في سقر، كما تقول: سَلكْتُ الخَيْط في كذا إذا أدخلته فيه، والمقصود من هذا: زيادة التوبيخ والتخجيل، والمعنى: ما أدخلكم في هذه الدركةِ من النار؟ فأجابوا: أن العذاب لأمور أربعة، ثم ذكروها وهي قولهم: { لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ }.
قال الكلبيُّرحمه الله : يسألُ الرجلُ من أهل الجنة الرجلَ من أهل النار باسمه فيقول له: يا فلانُ.
وفي قراءة عبد الله بن الزبير: يا فلان، ما سلككم في سقر؟ وهي قراءة على التفسير؛ لا أنها قرآن كما زعم من طعن في القرآن. قاله ابن الأنباري.
وقيل: إن المؤمنين يسألون الملائكة عن أقربائهم، فتسأل الملائكة المشركين، فيقولون لهم: ما سلككم في سقر؟.
قال الفراء: في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين هم الولدان؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب.
قوله: { لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ }، هذا هو الدالُّ على فاعل "سلكنا كذا" الواقع جواباً لقول المؤمنين لهم: "ما سلككم" [والتقدير: سلكنا عَدمُ صلاتنا كذا وكذا.
قال أبو البقاء: هذه الجملة سدّت مسدّ الفاعل، وهو جواب: ما سلككم، وهو نظير "مناسككم"، وقد تقدم في "البقرة"]
فصل في تفسير الآية
قال القرطبي: معنى قولهم: { لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ } أي: المؤمنين الذين يصلون { وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ } أي: لم نكن نتصدق.
قال ابن الخطيب: "وهذان يجب أن يكونا محمولين على الصلاة الواجبة، والزكاة؛ لأن ما ليس بواجب لا يجوز أن يعذَّبوا على تركه".
{ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ }، أي: في الأباطيل.
وقال ابن زيد: { نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ } في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وهو قولهم - لعنهم الله -: إنه ساحر، كاهن، مجنون، شاعر كذبوا - والله - لم يكن فيه شيءٌ من ذلك صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة: كلما غوى غاوٍ غوينا معه.
وقيل: معناه: كنا أتباعاً ولم نكن متبوعين، وقولهم: { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } أي: نكذّب بيوم القيامة، يوم الجزاء والحكم.
{ حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ } أي: جائنا الموت، قال الله تعالى:
{ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } [الحجر: 99].
وهذه الآية تدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
فإن قيل: لم أخر التكذيب وهو أفحش تلك الخصال الأربع؟.
فالجواب: أريد أنهم بعد اتصافهم بتلك الأمور الثلاثة كانوا مكذِّبين بيوم الدين، والغرض تعظيم هذا الذنب كقوله تعالى:
{ ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } [البلد: 17].
قوله: { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ }؛ كقوله: [الطويل]

4973 - عَلَى لاَحِبٍ لا يُهتَدَى بِمنَارِهِ ........................

في أحد وجهيه، أي: لا شفاعة لهم فلا انتفاع بها، وليس المراد أن ثمَّ شفاعةً غير نافعة كقوله تعالى: { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [الأنبياء: 28] الآية.
وهذه الآية تدلُّ على صحة الشفاعة للمذنبين من هذه الأمة بمفهومها؛ لأن تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدلُّ على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: يشفع نبيكم صلى الله عليه وسلم رابع أربعة: جبريل، ثم إبراهيم، ثم موسى، أو عيسى، ثم نبيكم صلى الله عليه وسلم ثم الملائكة، ثم النبيون، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ويبقى قوم في جهنم، فيقال لهم: { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ }؟ قالوا: لم نك من المصلين، إلى قوله: { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ }.
قال عبد الله بن مسعود: فهؤلاء الذين في جهنم.