التفاسير

< >
عرض

فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ
٤٩
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ
٥٠
فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ
٥١
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً
٥٢
كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ ٱلآخِرَةَ
٥٣
كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ
٥٤
فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ
٥٥
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ
٥٦
-المدثر

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } عن القرآن، أي: فما لأهل "مكة" قد أعرضوا وولَّوا.
قال مقاتل: معرضين عن القرآن من وجهين:
أحدهما: الجحود والإنكار.
والثاني: ترك العمل بما فيه.
وقيل: المراد بالتذكرة: العظة بالقرآن، وغيره من المواعظ.
و "مُعرِضيْنَ" حال من الضمير في الجار الواقع خبراً عن "ما" الاستفهامية، وقد تقدم أن مثل هذه الحال تسمى حالاً لازمة وقد تقدم بحث حسن.
و "عن التذكرة" متعلق به.
قال القرطبي: "وفي "اللام" معنى الفعل، فانتصاب الحال على معنى الفعل".
قال ابن الخطيب: "هو كقولك: ما لك قائماً".
قوله: { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ }، هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من الضمير في الجار، وتكون بدلاً من "معرضين". قاله أبو البقاء. يعني: أنها كالمشتملة عليها، وأن تكون حالاً من الضمير في "معرضين" فيكون حالاً متداخلة.
وقرأ العامة: حُمُر - بضم الميم -، والأعمش: بإسكانها.
وقرأ نافع وابن عامر: "مُسْتَنْفَرَةٌ" - بفتح الفاء - على أنه اسم مفعول، أي: نفَّرها القنَّاص.
والباقون: بالكسر، بمعنى نافرة.
يقال: استنفر ونفر بمعنى نحو عجب واستعجب، وسخر واستسخر؛ قال الشاعر: [الكامل].

4974 - إمْسِكْ حِماركَ إنَّهُ مُسْتنفِرٌ فِي إثرِ أحْمرةٍ عَمدْنَ لِغُرَّبِ

وقال الزمخشري: "وكأنها تطلب النِّفار في نفوسها، في جمعها له وحملها عليه".
فأبقى السِّين على بابها من الطلب، وهو معنى حسنٌ.
قال أبو علي الفارسي: "الكسر في "مستنفرة" أولى لقوله: "فرَّت" للتناسب، لأنه يدل على أنها استنفرت، ويدل على صحة ذلك ماروى محمد بن سلام قال: سألت أبا سوار الغنوي - وكان عربياً فصيحاً - فقلت: كأنهم حمرٌ ماذا؟ فقال: مستنفرة طردها قسورة، فقلت: إنما هي فرَّت من قسورة، فقال: أفرت؟ قلت: نعم، قال: فمستنفِرة إذاً" انتهى.
يعني: أنها مع قوله طرد، تناسب الفتح، لأنها اسم مفعول، فلما أخبر بأن التلاوة "فرّت من قسورة" رجع إلى الكسر للتناسب إلا أنَّ بمثلِ هذه الحكاية لا تردُّ القراءة المتواترة.
والقَسْورة: قيل: الصَّائد، أي: نفرت وهربت من قسورة، أي: من الصائد.
وقيل: الرُّماة يرمُونها.
وقيل: هو اسم جمع لا واحد له.
وقال بعض أهل اللغة: إن "القَسْوَرة": الرامي، وجمعه: القساورة.
ولذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان: "القسورة" وهم الرماة والصيَّادون، ورواه عطاء عن ابن عباس وأبو ظبيان عن أبي موسى الأشعري، وأنشدوا للبيد بن ربيعة: [الطويل]

4975 - إذَا مَا هَتفْنَا هَتْفةً في نَديِّنَا أتَانَا الرِّجالُ العَائِدُون القَساوِرُ

وقيل: "القسورة": الأسد. قاله أبو هريرة، وابن عباس أيضاً رضي الله عنه.
قال ابن عرفة: من القسْرِ بمعنى القهْرِ، أي: أنه يقهرُ السِّباع والحمر الوحشيَّة تهرب من السباع؛ ومنه قول الشاعر: [الرجز]

4876 - مُضمرٌ يَحْذَرُهُ الأبطَالُ كَأَنَّهُ القَسْوَرَةُ الرِّئبَالُ

أي: الأسد، إلا أن ابن عباس أنكره، وقال لا أعرف القسورة أسد في لغة أحد من العرب، وإنما القسورة: عصبُ الرجال؛ وأنشد: [الرجز]

4977 - يَا بِنْتُ كُونِي خَيرةً لِخيِّرهْ أخْوالُهَا الجِنُّ وأهْلُ القَسْوره

وقيل: القَسْورةُ: ظُلمَة الليل، قال ابن الأعرابي: وهو قول عكرمة.
وعن ابن عباس: ركز الناس؛ أي حسُّهم وأصواتهم.
وعنه أيضاً: { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } أي: من حبال الصيادين، وعنه أيضاً: القسورة بلسان "الحَبَشَةَ" الأسد، وخالفه عكرمة فقال: الأسد بلسان "الحبشة": عَنْبَسة، وبلسان "الحبشة": الرُّماة، وبلسان "فارس": شير، وبلسان "النَّبْط": أريا.
وقيل: هو أوَّل سواد الليل، ولا يقال لآخر سواد الليل: قسورة.
فصل في المراد بالحمر المستنفرة
قال ابن عباس: كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صلى الله عليه وسلم حمر مستنفرة، قال ابن عباس: أراد الحمر الوحشية.
قال الزمخشري: وفي تشبيههم بالحمر شهادة عليهم بالبله، ولا يرى مثلُ نفار حمر الوحش، واطرادها في العدوِ إذا خافت من شيء.
قوله تعالى: { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً }، أي: يُعطى كُتُباً مفتوحةً، وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد، لا نُؤمِنُ بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه: "من رب العالمين"، إلى فلان ابن فلان، ونُؤمر فيه باتباعك، ونظيره:
{ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ } [الإسراء: 93].
وقال ابن عباس: كانوا يقولون: إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل واحدٍ منا صحيفةٌ فيها براءةٌ من النار.
وقال مطرٌ الوراق: أرادوا أن يعطوا بغير عمل.
وقال الكلبي: قال المشركون: بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوباً ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك.
قال ابن الخطيب: وهذا من الصُّحف المنشَّرة بمعزل.
وقيل المعنى: أن يذكر بذكرٍ جميلٍ، فجعلت الصُّحفُ موضعَ الذِّكر مجازاً، فقالوا: إذا كانت ذنوب الإنسان تُكتَب عليه فما بالنا لا نرى ذلك؟!
قوله: "مُنشَّرة".
العامة: على التشديد، من "نشَّرهُ" بالتضعيف.
وابن جبير: "مُنْشرَةٌ" بالتخفيف، و "نشَّر، وأنشر" بمنزلة "نزّل وأنزَل": والعامة أيضاً على ضمِّ الحاء من "صحُف".
وابن جبير: على تسكينها.
قال أبو حيان: "والمحفوظ في الصحيفة والثوب: "نشَر" مخففاً ثلاثياً، وهذا مردود بالقرآن المتواتر".
وقال أبو البقاء في قراءة ابن جبير: "من أنشرت، إما بمعنى أمر بنشرها مثل ألحمت عرض فلان، أو بمعنى منشورة، مثل: أحمدت الرجل، أو بمعنى: أنشر الله الميِّت أي: أحياه: فكأنه أحياها فيها بذكره".
قوله: { كَلاَّ }، أي: ليس يكون ذلك.
وقيل: حقّاً، والأول أجود، لأنه ردٌّ لقولهم. ثم قال: { بَل لاَّ يَخَافُونَ ٱلآخِرَةَ } أي: لا أعطيهم ما يتمنُّون لأنهم لا يخافون الآخرة فلذلك أعرضوا عن التأمُّل اغتراراً بالدنيا؛ فإنه لمَّا حصلت المعجزات الكثيرة في الدلالة على صحَّة النبوةِ فطلبُ الزيادة يكون عبثاً.
قوله: { كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ }. أي: حقّاً أنَّ القرآن عظة.
وقيل: هذا ردع لهم عن إعراضهم عن التذكرة { إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } بليغة { فمن شاء ذكره } أي: اتعظ به، وجعله نصب عينه.
والضمير في "إنه، وذكره" للتذكرة في قوله تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } وإنما ذُكِّرا؛ لأنهما في معنى الذِّكر والقرآن.
وقيل: الضمير في "إنه" للقرآن أو الوعيد.
قوله: { وَمَا يَذْكُرُونَ }.
قرأ نافع: بالخطاب، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب والباقون: بالغيبة حملاً على ما تقدم من قوله: "كُل امرىءٍ" ولم يُؤثِرُوا الالتفات.
وقراءة الخطاب، وهي اختيار أبي حاتم لأنه أعم.
وأما قراءة الغيبة فهي اختبار أبي عبيد لقوله تعالى: { كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ } واتفقواعلى تخفيفها.
قوله: { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ }، بمعنى إلاَّ وقت مشيئته، لا أن ينوب عن الزمان، بل على حذف مضاف.
قالت المعتزلة: بل معناه: إلا أن يقدرهم الله - تعالى - على الذِّكر ويُهمَّهم إليه.
وأجيبوا: بأنه تعالى أبقى الذكر مطلقاً، واستثنى منه حال المشيئة المطلقة، فيلزم أنه متى حصلت المشيئةُ أن يحصلَ الذِّكرُ مطلقاً، فحيث لم يحصل الذكر علمنا أنه لم تحصُلِ المشيئة وتخصيص المشيئة بالمشيئة القهريَّة ترك للظاهر.
قوله تعالى: { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ }، أي: حقيقٌ بأن يتَّقيه عبادُه ويخَافُوا عِقابه فيُؤمِنوا ويُطِيعُوا، وحقيقٌ بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا.
روى الترمذي وابن ماجة عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ } قال: قال الله تعالى:
"أنَّا أهْلُ أنْ أُتَّقَى فَمَن اتَّقَى فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي إلهاً فَأنَا أهْل أنْ أغْفِرَ لَهُ" .
وقال بعض المفسرين: أهل المغفرة لمن تاب إليه من الذنوب الكبائر، وأهل المغفرة أيضاً للذنوب الصغائر.
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من قرأ { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } أعْطِيَ من الأجْرِ عَشْرَ حَسناتٍ بعَددِ من صَدَّقَ بمُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وكذَّبه بـمكة" . والله أعلم.