التفاسير

< >
عرض

لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ
١
وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ
٢
أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ
٣
بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ
٤
بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ
٥
يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ
٦
-القيامة

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ }.
العامَّة: على "لاَ" نافية، واختلفوا حينئذ فيها على أوجه:
أحدها: أنَّها نافية لكلامٍ تقدم، كأنَّ الكفَّار ذكروا شيئاً، فقيل لهم: "لا" ثم ابتدأ الله قسماً.
قال القرطبيرحمه الله : "إنَّ القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار، فجاء الإقسام بالردِّ عليهم كقوله: "والله لا أفعل" فـ"لا" ردٌّ لكلام قد مضى، وذلك كقولك: لا والله إن القيامة. لحق، كأنك أكذبت قوماً أنكروه".
والثاني: أنها مزيدة. قال الزمشخري: قالوا: إنها مزيدة، مثلها في
{ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ } [الحديد: 29]، وفي قوله - عز وجل -: { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف: 12]؛ وقوله: [الرجز]

4978 - فِي بِئْرِ لا حُورٍ سَرَى وما شَعَرْ

قال ابن الخطيب: وهذا القولُ عندي ضعيفٌ من وجوه:
أحدها: أنَّ تجويز هذا يفضي إلى الطعن في القرآن، لأن على هذا التقدير يجوز جعل النفي إثباتاً، والإثبات نفياً، وذلك ينفي الاعتماد على الكلام نفياً وإثباتاً.
وثانيها: أن الحرف إنما يزاد في وسط الكلام، فإن امرأ القيس زادها في مستهل قصيدته؛ وهي قوله: [المتقارب]

4979 - فَلاَ - وأبِيكِ - ابنَةَ العَامِرِيْــ ـيِ لا يَدَّعِي القَوْمُ أنِّي أفِرْ

وأيضاً: هَبْ أنَّ هذا الحرف في أول الكلام إلا أنَّ القرآن كله كالسُّورة الواحدة لاتصال بعضه ببعض بدليل أنه قد يذكر الشيء في سورة ثم يجيء جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى { وَقَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [الحجر: 6] ثم جاء جوابه في سورة أخرى وهو قوله { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } [القلم: 2]، وإذا كان كذلك، كان أوّل هذه السورة جارياً مجرى وسط الكلام.
والجواب عن الأول: أنَّ قوله: لا وأبيك، قسمٌ عن النفي، وقوله: "لا أقْسِمُ" نفي للقسم، لأنه على وزان قولنا: "لا أقبل، لا أضرب، لا أنصر" وذلك يفيد النفي، بدليل أنه لو حلف لا يقسم كان البرُّ بترك القسم، والحنث بفعل القسم، فظهر أن البيت المذكور ليس من هذا الباب.
وعن الثاني: أن القرآن الكريم كالسُّورة الواحدة في عدم التناقض، فإما أن يقرن في كل آية ما أقرن في الأخرى، فذلك غير جائز؛ لأنه يلزم جوازه أن يقرن بكل إثبات حرف النفي الوارد في سائر الآيات، وذلك يقتضي انقلاب كل إثبات نفياً وانقلاب كل نفي إثباتاً، وأنه لا يجوز.
وثالثها: أن المراد من قولنا: "لا" صلة أنَّه لغو باطل يجب طرحه وإسقاطه حتى ينتظم الكلام ووصف كلام الله - تعالى - بذلك لا يجوز.
الوجه الثالث: قال الزمشخري: "إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم؛ قال امرؤ القيس: [المتقارب]

4980 - فَلاَ - وأبِيكِ - ابْنَةَ العَامِري

البيت المتقدِّم.
وقال غويةُ بنُ سلمَى: [الوافر]

4981 - ألاَ نَادتْ أمَامةُ باحْتِمَالِ لتَحْزُننِي فلا بِكِ ما أبَالِي

وفائدتها: توكيد القسم في الردِّ". ثمَّ قال بعد أن حكى وجه الزيادة والاعتراض والجواب كما تقدم: والوجه أن يقال: هي للنَّفي، والمعنى في ذلك: أنَّه لا يقسم بالشيء إلاَّ إعظاماً له، يدلُّك عليه قوله تعالى: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [الواقعة: 75 - 76] فكأنه بإدخال حرف النَّفي يقول: إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام، يعني أنه يستأهل فوق ذلك.
وقيل: إنَّ "لا" نفيٌ لكلامٍ ورد قبل ذلك انتهى.
قال ابن الخطيب: كأنَّهُم أنكروا البعث فقيل: "لا" ليس الأمر على ما ذكرتم، ثم قيل: أقسم بيوم القيامة.
قال: وهذا فيه إشكال؛ لأن إعادة حرف النفي أحرى في قوله تعالى: { وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ } مع أن المراد ما ذكروه يقدح في فصاحة الكلام.
قال شهاب الدينرحمه الله : "فقول الزمخشري": والوجه أن يقال إلى قوله: يعني أنه يستأهل فوق ذلك، تقرير لقوله: إدخال "لا" النافية على فعل القسم مستفيض إلى آخره وحاصل الكلام يرجع إلى أنها نافية، وأنَّ النَّفي متسلّط على فعل القسم بالمعنى الذي شرحه، وليس فيه منع لفظاً ولا معنى".
ثم قال: فإن قلت: قوله تعالى:
{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [النساء: 65] والأبيات التي أنشدتها المقسم عليه فيها منفي، فهلا زعمت أنَّ "لا" التي قبل القسم زيدت موطِّئة للنَّفي بعده، ومؤكدة له، وقدَّرت المقسم عليه المحذوف - هاهنا - منفياً كقولك: لا أقسم بيوم القيامة لا تتركُونَ سُدًى؟.
قلت: لو قصَرُوا الأمر على النَّفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ، ولكنه لم يقصر، ألا ترى كيف نفى
{ لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } [البلد: 1] بقوله: { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ } [البلد: 4] وكذلك قوله: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } [الواقعة: 75] بقوله: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } [الواقعة: 77]، وهذا من محاسن كلامه تعالى.
وقرأ قنبل والبزِّي - بخلاف عنه -: "لأقسم" بلام بعدها همزة دون ألف، وفيها أوجه:
أحدها: أنها جوابٌ لقسم مقدر، تقديره: "والله لأقسم" والفعل للحالِ، فلذلك لم تأت نونُ التوكيد، وهذا مذهبُ الكوفيين.
وأمَّا البصريون: فلا يجيزون أن يقع فعل الحال جواباً للقسم فإن ورد ما ظاهره ذلك جعل الفعل خبراً لمبتدإ مضمر، فيعود الجواب جملة اسمية قدر أحد جزأيها وهذا عند بعضهم، من ذلك التقدير: والله لأنا أقسم.
الثاني: أنه فعل مستقبل، وإنَّما لم يأتِ بنون التوكيدِ؛ لأنَّ أفعال الله - تعالى - حقٌّ وصدقٌ فهي غنيةٌ عن التأكيد بخلاف أفعال غيره، على أن سيبويه حكى حذف النون، إلا أنه قليل، والكوفيون: يجيزون ذلك من غير قلَّة، إذ من مذهبهم جواز تعاقب اللام والنون فمن حذف اللام قوله: [الكامل]

4982 - وقَتيلُ مُرَّة أثْأرنَّ فإنَّهُ فَرْغٌ وإنَّ أخَاكمُ لَمْ يَثْأرِ

أي لأثأرن، ومن حذف النون وهو نظير الآية الكريمة قول الآخر: [الطويل]

4983 - لَئِن تَكُ قَدْ ضَاقتْ عليكَم بُيوتكُمْ ليَعلمُ ربِّي أنَّ بَيْتِيَ واسِعُ

الثالث: أنَّها لامُ الابتداء، وليست بلام القسم.
قال أبو البقاء: كقوله:
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ } [النحل: 164]. والمعروف أنَّ لام الابتداء لا تدخل على المضارع إلاَّ في خبر "إنَّ" نحو: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ } [النحل: 164] وهذه الآية نظير الآية التي في سورة يونس: { وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ } [يونس: 16] فإنهما قرآها بغير الألف. والكلام فيها قد تقدم.
ولم يختلف في قوله: "ولاَ أقسم" أنه بالألف بعد "لا"؛ لأنه لم يرسم إلاَّ كذا بخلاف الأول، فإنه رسم بدون ألفٍ بعد "لا"، وكذلك في قوله تعالى
{ لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } [البلد: 1] لم يختلف فيه أنه بألف بعد "لا"، وجواب القسم محذوف، تقديره: لتبعثنّ، دل عليه قوله { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ }[القيامة: 3].
وقيل: الجواب: "أيَحْسَبُ".
وقيل: هو { بَلَىٰ قَادِرِينَ } [القيامة: 4]، ويروى عن الحسن البصري.
وقيل: المعنى على نفي القسم، والمعنى: إنِّي لا أقسم على شيء، ولكن أسألك أيحسب الإنسان.
وهذه الأقوال شاذَّة منكرة، ولا تصح عن قائلها لخروجها عن لسان العرب، وإنما ذكرناها تنبيهاً على ضعفها.
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس وابن جبير: معنى الكلام: أقسمُ بيوم القيامة، وهو قول أبي عبيدة، ومثله قوله: [الطويل]

4984 - تَذكَّرْتُ لَيْلَى فاعْترتْنِي صَبَابَةٌ فَكادَ صَمِيمُ القَلْبِ لا يَتقطَّعُ

قوله: { بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ }، أي: بيوم يقوم الناس فيه لربِّهم، والله - عز وجل - أن يقسم بما شاء، { وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ }، لا خلاف في هذا بين القراء، وأنه سبحانه - جل ذكره - إنما أقسم بيوم القيامة تعظيماً لشأنه، وعلى قراءة ابن كثير أقسَم بالأولى ولم يقسم بالثانية.
وقيل: { وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ } ردٌّ آخر وابتداء قسم بالنفس اللوامة.
قال الثعلبيُّ: والصحيح أنه أقسم بهما جميعاً، ومعنى "بالنَّفْسِ اللَّوامَةِ": أي: نفس المؤمن الذي لا تراه يلوم إلا نفسه، يقول: [ما أردت بكذا؟ ولا تراه إلا وهو يعاتب نفسه قاله ابن عبَّاس ومجاهد والحسن وغيرهم.
قال الحسن: هي والله نفس المؤمن ما يُرى المؤمن إلاّ يلوم نفسه]، ما أردت بكلامي هذا؟ ما أردت بأكلي ما أردت بحديثي؟ والفاجر لا يحاسب نفسه.
وقال مجاهد: هي التي تلوم على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشَّرِّ لم فعلته، وعلى الخير لِمَ لَمْ تستكثر منه.
وقيل: تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها.
وقيل: المراد آدم - صلوات الله وسلامه عليه - لم يزل لائماً لنفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنها الملومة، فتكون صفة ذمٍّ، وهو قول من نفى أن يكون قسماً وعلى الأول: صفةُ مدحٍ فيكون القسم بها سائغاً.
وقال مقاتل: هي نفس الكافر يلوم نفسه ويتحسَّر في الآخرة على ما فرط في جنبِ الله تعالى.
قوله: { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن }. هذه "أن" المخففة وتقدم حكمها في "المائدة" و "أن" وما في حيِّزها في موضع الجرِّ، والفاصل هنا حرف النَّفي، وهي وما في حيِّزها سادَّةٌ مسدّ مفعولي "حَسِب" أو مفعوله على الخلاف.
والعامَّة: على "نَجْمَعَ" بنون العظمة، و "عِظامهُ" نصب مفعولاً به.
وقتادة: "تُجْمع" بتاءٍ من فوقُ مضومةٍ على ما لم يسم فاعله؛ "عظامه" رفع لقيامه مقام الفاعل.
فصل في جواب هذا القسم
قال الزجاج: أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة ليجمعنَّ العظام للبعث، فهذا جواب [القسم.
وقال النحاس: جواب] القسم محذوف، أي: لنبعثن.
والمراد بالإنسان: الكافر المكذب بالبعث.
قيل:
"نزلت في عدي بن ربيعة قال للبني صلى الله عليه وسلم حَدِّثنِي عن يَومِ القِيامةِ مَتَى تكُونُ، وكَيْفَ أمْرهَا وحَالُهَا؟ فأخْبرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: لَوْ عَايَنْتُ ذلكَ اليَوْمَ لَمْ أصَدِّقكَ يا مُحمَّدُ ولَمْ أومِنْ بِه، أو يَجْمَعُ اللَّهُ العِظامَ؟ ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: اللَّهُمَّ اكفِنِي جَارَي السُّوءِ عدَيَّ بن ربيعَة، والأخنس بنَ شَريقٍ" .
وقيل: نزلت في عدو الله أبي جهل حين أنكر البعث بعد الموت، وذكر العظام، والمراد نفسه كلها؛ لأن العظام قالب الخلق.
وقيل: المراد بالإنسان: كل من أنكر البعث مطلقاً.
قوله: { بَلَىٰ } إيجاب لما بعد النفي المنسحب عليه الاستفهام، وهو وقف حسن، ثم يبتدىء "قَادِرين"، فـ"قَادِرين" حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرنا من التقدير.
وقيل: المعنى بل نجمعها نقدر قادرين.
قال الفراء: "قادرين" نصب على الخروج من "نَجْمعَ" أي نقدر ونقوى "قادرين" على أكثر من ذلك.
وقال أيضاً: يَصْلُح نصبُه على التكرير، أي: بلى فليحسبنا قادرين.
وقيل: المضمر "كنا" أي: كنا قادرين في الابتداء، وقد اعترف به المشركون.
وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميفع: "قادرون" رفعاً على خبر ابتداء مضمر، أي "بلى" نحن "قادرون" { عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } والبنانُ عند العرب: الأصابع، واحدُها بنانةٌ؛ قال عنترة: [الوافر]

4985 - وأنَّ المَوْتَ طَوْعُ يَدِي إذَا مَا وصَلْتُ بَنانَهَا بالهِنْدُوَانِي

فنبه بالبنان على بقية الأعضاء.
وأيضاً: فإنها أضعف العظام فخصها الله - عز وجل - بالذكر لذلك.
قال القتبي والزجاج: وزعموا أن الله تعالى لا يبعث الموتى، ولا يقدرعلى جمع العظام، فقال الله تعالى: بلى قادرين على أن نعيد السُّلاميات على صغرها، ونُؤلِّف بينها حتى تستوي، ومن قدر على هذا فهو على جميع الكبار أقدرُ.
وقال ابن عباس وعامة المفسرين: { عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخُفِّ البعير، أو كحافر الحمار، أو كظلفِ الخنزيرِ، ولا يمكنه أن يعمل به شيئاً ولكنا فرقنا أصابعه حتى يفعل بها ما يشاء.
وقيل: نقدر أن نُعيد الإنسان في هيئة البهائم، فكيف في صورته التي كان عليها، وهو كقوله تعالى:
{ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الواقعة: 60، 61].
والقول الأول أشبه بمساق الآية.
فصل في الكلام على الآية
قال ابن الخطيبرحمه الله : وفي الآية إشكالات:
أحدها: ما المناسبة بين القيامة والنَّفس اللوامة حتى جمع الله بينهما في القسم؟.
وثانيها: على وقوع القيامة
وثالثها: قال جل ذكره: أقسم بيوم القيامة ولم يقل: والقيامة، كما قال - عز وجل - في سائر السور:
{ وَٱلطُّورِ } [الطور: 1] { وَٱلذَّارِيَاتِ } [الذاريات: 1]، { وَٱلضُّحَىٰ } [الضحى: 1].
والجواب عن الأول من وجوه:
أحدها: أنَّ أحوال القيامة عجيبة جدّاً، ثُمَّ المقصود من إقامة القيامة إظهار أحوال النُّفوس على ما قال صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ عَرفَ نَفْسَهُ عرَفَ رَبَّهُ" ومن أحوالها العجيبة قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]، وقوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } [الأحزاب: 72].
وقيل: القسم وقع بالنَّفس اللوامة على معنى التعظيم من حيث إنها أبداً يستحقرُ فعلها وجدُّها واجتهادها في طاعة الله تعالى.
وقيل: إنه - تعالى - أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوامة تحقيراً لها؛ لأن النفس اللوامة إمَّا أن تكون كافرة بالقيامة مع عظم أمرها، وإمَّا أن تكون فاسقة مقصرة في العمل، وعلى التقديرين فإنها تكون مستحقرة.
والجواب عن الثاني: أن المحقِّقين قالوا: القسم بهذه الأشياء قسم بربِّها وخالقها في الحقيقة، فكأنه قيل: أقسم برب القيامة على وقوع القيامة.
والجواب عن الثالث: أنه حيث أقسم، قال جل ذكره: "والذَّارياتِ"، وأما هنا فإنه سبحانه نفى كونه مقسماً بهذه الأشياء، فزال السؤال.
قوله تعالى: { بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ }. فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون "بل" لمجرد الإضراب والانتقال من غير عطف، أضرب عن الكلام الأول وأخذ في آخر.
الثاني: أنها عاطفة. قال الزمخشري: "بل يريد" عطف على "أيحسب"، فيجوز أن يكون مثله استفهاماً، وأن يكون إيجاباً على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر، أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب.
قال أبو حيان بعد ما حكى عن الزمخشري ما تقدَّم: "وهذه التقادير الثلاثة متكلَّفة لا تظهر".
وقال شهاب الدين: "وليس هنا إلا تقديران، ومفعول "يُرِيد" محذوف يدل عليه التعليل في قوله تعالى: { لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } والتقدير: يريد شهواته ومعاصيه فيمضي فيها دائماً أبداً و "أمامه" منصوب على الظَّرفِ، وأصله مكانٌ فاستعير هنا للزمان".
والضمير في "أمَامَه" الظاهرُ عوده على الإنسان.
وقال ابن عباس: يعود على يوم القيامة بمعنى أنه يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث بين يدي يوم القيامة.
فصل في تفسير الآية
قال مجاهد والحسن وعكرمة والسدي وسعيد بن جبير رضي الله عنهم: يقول: سوف أتوب حتى يأتيه الموت على أسوأ أحواله.
وعن ابن عباس: { بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ }، قال: يعجل المعصية ويسوفُ بالتوبة وجاء في الحديث:
"قال يقولُ: سوف أتُوبُ، ولا يتوبُ، فهُو قَدْ أخْلفَ فكذبَ" .
وقال عبد الرحمن بن زيد: { بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } من البعث والحساب ودليله: يسأل أيان يوم القيامة أي يسأل متى يكون؟ على وجه الإنكار والتكذيب.
وقال الضحاك: هو الأمل، يقول: سوف أعيش وأصيب من الدنيا، ولا يذكر الموت.
وقيل: يعزم على المعصية أبداً وإن كان لا يعيش إلا مدة قليلة، فالهاء على هذه الأقوال الثلاثة للإنسان.
وإذا قلنا: بأن الهاء ليوم القيامة، فالمعنى: بل يريد الإنسان ليكفر بالحق بين يدي القيامة. والفجورُ: أصله الميل عن الحق.
قوله: { يَسْأَلُ أَيَّانَ } هذه جملة مستأنفة.
وقال أبو البقاءرحمه الله : تفسير لـ"يفجر" فيحتمل أن يكون مستأنفاً مفسّراً، وأن يكون بدلاً من الجملة قبلها؛ لأن التفسير يكون بالاستئناف وبالبدل إلا أنَّ الثاني منه رفع الفعل، ولو كان بدلاً لنصب، وقد يقال: إنه أبدلَ الجملة من الجملة لا خصوصيَّة الفعلِ من الفعل وحده، وفيه بحث قد تقدم نظيره في "الذاريات" وغيره. والمعنى: يسأل متى يوم القيامة.
فصل فيمن أنكروا البعث
قال ابن الخطيب: اعلم أنَّ إنكار البعث يتولد تارة من الشُّبهة، وأخرى من الشَّهوة، فأما تولده من الشبهة فهو ما حكاه الله - عز وجل - بقوله: { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ }، وتقديره: أنَّ الإنسان هو هذا البدن، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه، واختلطت بأجزاء التراب، وتفرَّقت بالرِّياح في مشارق الأرض ومغاربها، فيكون تمييزها بعد ذلك محالاً.
وهذه الشبهة ساقطة من وجهين:
الأول: لا نُسلِّمُ أن الإنسان هو هذا البدن، بل هو شيء مدبرٌ لهذا البدن، فإذا فسد هذا البدن بقي هو حيّاً كما كان، وحينئذ يعيد الله - تبارك وتعالى - أي بدن أراد، فيسقط السؤال وفي الآية إشارة إلى هذا، لأنه سبحانه أقسم بالنفس اللوامة، ثم قال تعالى جل ذكره: { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ }، وهو تصريح بالفرق بين النفس والبدن.
الثاني: سلَّمنا أنَّ الإنسان هو هذا البدن، لكنه سبحانه عالم بالجزئيات، فيكونُ عالماً بالجزء الذي هو بدن زيدٍ، وبالجزء الذي هو بدن عمرو، وهو - تعالى - قادر على كلِّ الممكنات، فيلزم أن يكون قادراً على تركيبها ثانياً، فزال الإشكال وأما إنكار البعث بناءً على الشَّهوةِ فهو قوله تعالى: { بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ }.
ومعناه أن الإنسان الذي يميل طبعه للشَّهوات واللَّذات والفكرةُ في البعث تنغصها عليه فلا جرم ينكره.