التفاسير

< >
عرض

أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى
٣٦
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ
٣٧
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ
٣٨
فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٣٩
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ
٤٠
-القيامة

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ }، أي: أيظن ابن آدم "أن يترك سُدى" أي: أن يخلى مهملاً، فلا يؤمر ولا ينهى. قاله ابن زيد ومجاهد.
وقيل: أن يترك في قبره أبداً كذلك لا يبعث، و "سدى" حال من فاعل "يترك" ومعناه: مهملاً، يقال: إبل سدى، أي: مهملة.
وقال الشاعر: [المتقارب]

5016 - وأقْسِمُ باللَّهِ جَهْدَ اليَمِيــ ــنِ ما خلقَ اللَّهُ شَيْئاً سُدَى

أي: مهملاً، وأسديت حاجتي، أو ضيعتها، ومعنى أسدى إليه معروفاً، أي: جعله بمنزلة الضائع عند المسدى إليه لا يذكره ولا يمن به عليه.
قوله: { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةٌ }. العامة: على الياء من تحت في "يك" رجوعاً إلى الإنسان.
والحسن: بتاء الخطاب، على الالتفات إليه توبيخاً له.
وقوله: { مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ }. قرأ حفص: "يُمْنَى" بالياء من تحت.
وفيه وجهان:
أحدهما: أن الضمير عائد على المني - أي يصب - فتكون الجملة في محل جر.
والثاني: أنه يعود للنطفة، لأن تأنيثها مجازيّ؛ ولأنها في معنى الماء. قاله أبو البقاء.
وهذا إنما يتمشى على قول ابن كيسان.
وأما النحاة فيجعلونه ضرورة؛ كقوله: [المتقارب]

5017 -................. ولا أرْضَ أبْقلَ إبْقَالهَا

وقرأ الباقون: "تُمْنَى" بالتاء من فوق على أن الضمير للنطفة، فعلى هذه القراءة وعلى الوجه المذكور قبلها تكون الجملة في محل نصب؛ لأنها صفة المنصوب.
فصل في معنى الآية
والمعنى من قطرة ما تمنى في الرحم، أي تراق فيه، ولذلك سميت "منى" لإراقة الدماء، والنُّطفة: الماء القليل، ويقال: نطف الماء، أي: قطر، أي ألم يك ماء قليلاً في صلب الرجل وترائب المرأة، فنبه تعالى بهذا على خسة قدره. ثم قال تعالى: { فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ } أي: فسواه تسوية، وعدله تعديلاً بجعل الروح فيه.
وقيل: فخلق فقد فسوى فعدل.
وقيل: "فخلق" أي: نفخ فيه "فسوى" فكمل أعضاءه. قاله ابن عباس ومقاتل.
{ فَجَعَلَ مِنْهُ } أي: من الإنسان.
وقيل: من المني "الزوجين، الذكر والأنثى" أي: الرجل والمرأة.
فقوله تعالى { ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } يجوز أن يكونا بدلين من الزوجين على لغة من يرى إجراء المثنى إجراء المقصور، وقد تقدم تحقيقه في "طه" ومن ينسب إليه هذه اللغة والاستشهاد على ذلك [طه: 63].
فصل فيمن احتج بالآية على إسقاط الخنثى
قال القرطبي: وقد احتج بهذه الآية من رأى إسقاط الخنثى وقد مضى في سورة "الشورى" أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجت مخرج الغالب.
فإن قيل: ما فائدة قوله: "يمنى" في قوله تعالى { من منيّ يمنى }؟ فالجواب فيه إشارة إلى حقارة حاله، كأنه قيل: إنه مخلوق من المني الذي يجري مجرى النَّجاسة، فلا يليق بمثل هذا أن يتمرد عن طاعة الله - تعالى - إلا أنه عبر عن هذا المعنى على سبيل الرمز، كما في قوله تعالى في "عيسى ومريم" - عليهما الصلاة والسلام -
{ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ } [المائدة: 75] والمراد منه قضاء الحاجةِ.
قوله تعالى: { أَلَيْسَ ذَلِكَ بَقَادِرٍ } أي: أليس الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة ماء.
وقوله: "بقَادرٍ" اسم فاعل مجرور بـ"باء" زائدة في خبر "ليس" وهذه قراءة العامة.
وقرأ زيد بن علي: "يقدر" فعلاً مضارعاً.
والعامة: على نصب "يحيى" بـ"أن" لأن الفتحة خفيفة على حرف العلة.
وقرأ طلحة بن سليمان والفياض بن غزوان: بسكونها، فإما أن يكون خفف حرف العلة بحذف حرف الإعراب. وإما أن يكون أجرى الوصل مجرى الوقف، وجمهور النَّاس على وجوب فك الإدغام.
قال أبو البقاء: لئلا يجمع بين ساكنين لفظاً وتقديراً.
يعني أن الحاء ساكنة، فلو أدغمنا لسكنا الياء الأولى أيضاً للإدغام، فيلتقي ساكنان لفظاً، وهو متعذر النطق، فهذان ساكنان لفظاً.
وأما قوله: تقديراً؛ فإن بعض الناس جوز الإدغام في ذلك، وقراءته أن يُحْيِّ، وذلك أنه لما أراد الإدغام نقل حركة الياء الأولى إلى الحاء فأدغمها فالتقى ساكنان، الحاء لأنها ساكنة في الأصل قبل النقل إليها والياء؛ لأن حركتها نقلت من عليها إلى الحاء؛ واستشهد الفراء لهذه القراءة بقول الشاعر: [الكامل]

5018 - تَمْشِي بِسُدَّة بَيْتهَا فَتُعيّ

وأما أهل "البصرة" فلا يدغمونه ألبتة قالوا: لأن حركة الياء عارضة إذ هي للإعراب.
وقال مكي: وقد أجمعوا على عدم الإدغام في حال الرفع، وأما في حال النصب فقد أجازه الفرَّاء لأجل تحرك الياء الثانية، وهو لا يجوز عند البصريين، لأن الحركة عارضة.
قال شهاب الدين: ادعاؤه الإجماع مردود بالبيت الذي تقدم إنشاده عن الفراء، وهو قوله: "فتعيّ" فهذا مرفوع وقد أدغم، ولا يبعد ذلك لأنه لما أدغم ظهرت تلك الحركة لسكون ما قبل الياء بالإدغام".
فصل في معنى الآية
المعنى الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة ماء قادر على أن يحيي الموتى أي: أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البِلَى.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
"أنَّه كَانَ إذَا قَرأهَا، قال: سُبحَانَكَ اللَّهُمَّ وبَلَى" .
وقال ابن عباس: من قرأ { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } إماماً كان أو غيره فليقل:"سُبْحَانَ ربِّيّ الأعْلَى" ومن قرأ: { { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [القيامة:1] إلى آخرها فليقل: سبحانك اللهم بلى، إماماً كان أو غير.
روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنَ قَرَأ سُورةَ القِيامةِ شَهِدتُ أنَا وجِبْريلُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أنه كَانَ مُؤمِناً بِيوم القِيامَةِ وجَاءَ وَوجْههُ يُسْفِرُ عَن وُجُوهِ الخَلائقِ يَوْمَ القِيامَةِ" . والله أعلم وأحكم.