التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ
٧
وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ
٨
وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ
٩
يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ
١٠
كَلاَّ لاَ وَزَرَ
١١
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ
١٢
يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ
١٣
بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
١٤
وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ
١٥
-القيامة

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ }. قرأ نافع وأبان عن عاصم: بَرَق بفتح الراء.
والباقون: بالكسر.
فقيل: لغتان في التحيُّر والدهشة، ومعناه لمع بصره من شدَّة شخوصه، فتراه لا يطرف.
وقيل: بَرِق - بالكسر - تحيَّر فزعاً.
قال الزمخشري: "وأصله من بَرِق الرجل إذا نظر إلى البرقِ فدُهِش بصرهُ".
قال غيره: كما يقال: أسد وبقر، إذا رأى أسداً وبقراً كثيراً فتحيّر من ذلك.
قال ذو الرمة: [الطويل]

4986 - وكُنْتُ أرَى في وجْهِ ميَّةَ لمْحعةً فأبْرَقُ مَغْشِياً عَليَّ مَكانِيَا

وأنشد الفراءرحمه الله : [المتقارب]

4987 - فَنفْسَكَ فَانْعَ ولا تَنْعَنِي ودَاوِ الكُلُومَ ولا تَبْرقِ

أي: لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك.
و "بَرَق" بالفتح: من البريق، أي: لمع من شدَّة شُخُوصه.
وقال مجاهد وغيره: وهذا عند الموت.
وقال الحسن: يوم القيامة، قال: وفيه معنى الجواب عما سأل عنه الإنسان، كأنه قال: يوم القيامة إذا برق البصر، وخسف القمر.
وقيل: عند رؤية جهنم.
قال الفراء والخليل: "برِق" - بالكسر -: فَزِع وبُهِت وتحيّر، والعرب تقول للإنسان المتحيِّر المبهوت: قد برِق فهو برِقٌ.
وقيل: "بَرِق، يَبْرَقُ" بالفتح: شق عينيه وفتحهما. قاله أبو عبيدة، وأنشد قول الكلابيِّ: [الرجز]

4988 - لمَّا أتَانِي ابنُ عُمَيْر راغِباً أعْطيتُه عِيساً صِهَاباً فَبرِقْ

أي: فتح عينيه. قرأ أبو السمال: "بَلِق" باللام.
قال أهل اللغة إلا الفرّاء: معناه "فُتِح"، يقال: بَلقْت الباب وأبلقتُه: أي: فتحتُه وفرَّجتُه.
وقال الفراء: هو بمعنى أغلقته.
قال ثعلب: أخطأ الفراء في ذلك.
ثم يجوز أن يكون مادة "بَلَقَ" غير مادة "بَرَقَ"، ويجوز أن تكون مادةً واحدة بُدِّل فيها حرف من آخر، وقد جاء إبدال "اللام" من الراء في أحرف، قالوا: "نثر كنانته ونثلها" وقالوا: "وجل ووجر" فيمكن أن يكون هذا منه، ويؤيده أن "برق" قد أتى بمعنى شق عينيه وفتحهما، قاله أبو عبيدة، وأنشد [الرجز]

4989 - لمَّا أتَانِي ابن عُمَيْرٍ

البيت المتقدم.
أي: ففتح عينيه فهذا مناسب لـ"بلق".
قوله: { وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ }.
العامةُ: على بنائه للفاعل.
وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، ويزيد بن قطيب قال القرطبي: وابن أبي إسحاق وعيسى: "خُسِف" مبنياً للمفعول.
وهذا لأن "خسف" يستعمل لازماً ومتعدياً، يقال: خُسِفَ القمر، وخسف الله القمر.
وقد اشتهر أن الخسوف للقمر والكسوف للشمس.
وقال بعضهم: يكونان فيهما، يقال: خُسِفت الشمس وكسفت، وخسف القمر وكسف، وتأيد بعضهم بقوله صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ الشَّمسَ والقَمَرَ آيَتَانِ من آيَاتِ اللَّهِ لا يخسفانِ لمَوْتِ أحدٍ" ، فاستعمل الخسوف فيهما، وفي هذا نظرٌ لاحتمال التغليب، وهل هما بمعنى واحد أم لا؟ فقال أبو عبيد وجماعة: هما بمعنى واحد.
وقال ابن أبي أويس: الخسوف ذهاب كل ضوئهما والكسوف ذهاب بعضه.
قال القرطبي: الخسوف في الدنيا إلى انجلاء، بخلاف الآخرة فإنه لا يعود ضوؤه، ويحتمل أن يكون بمعنى "غاب"، ومنه قوله تعالى:
{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ } [القصص: 81].
قوله تعالى: { وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } لم تلحقه علامة تأنيث؛ لأن التأنيث مجازي.
وقيل: لتغليب التذكير. وفيه نظر، لو قلت: "قام هند وزيد" لم يجز عند الجمهور من العرب.
وقال الكسائي: "جمع" حمل على معنى جرح النيران.
وقال الفراء والزجاج: جمع بينهما في ذهاب ضوئيهما فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه.
وقال ابن عباس وابن مسعود: جمع بينهما، أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكوَّرين مظلمين مقرَّنين كأنهما ثوران عقيران.
وقال عطاء بن يسار: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى.
وقال عليّ وابن عباس رضي الله عنهما: يجعلان في الحُجُب وقد يجمعان في نار جنهم لأنهما قد عُبِدا من دون الله ولا تكون النار عذاباً لهما لأنهما جماد وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكفار وحسرتهم.
وقيل: هذا الجمع إنما يجمعان ويقرَّبان من الناس فيلحقهم العرق لشدَّة الحر فيكون المعنى: يجمع حرهما عليهم.
وقيل: يجمع الشمس والقمر، فلا يكون ثم تعاقبُ ليلٍ ولا نهارٍ.
قال ابن الخطيب: وقيل: جمع بينهما في حكم ذهاب الضوء كما يقال: يجمع بين كذا وكذا في حكم كذا، أي: كل منهما يذهب ضوؤه.
فصل في الرد على من طعن في الآية
قال ابن الخطيب: طعنت الملاحدة في الآية فقالوا: خسوف القمر لا يحصل حال اجتماع الشمس والقمر.
والجواب: أن الله - تعالى - قادر على أن يخسف القمر سواء كانت الأرض متوسطة بينه وبين الشمس، أو لم تكن؛ لأن الله - تعالى - قادر على كل الممكنات فيقدر على إزالة الضوء عن القمر في جميع الأحوال.
قوله: { يَقُولُ ٱلإِنسَانُ }. جواب "إذا" من قوله: "فإذا برق"، و "أيْنَ المفَرُّ" منصوب المحل بالقول، و "المَفَرّ" مصدر بمعنى "الفرار" وهذه هي القراءة المشهورة.
وقرأ الحسنان ابنا علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة: بفتح الميم وكسر الفاء، وهو اسم مكان الفرار، أي أين مكان الفرار.
وجوز الزمخشري أن يكون مصدراً، قال: "كالمرجع" وقرأ الحسن عكس هكذا: أي بكسر الميم وفتح الفاء، وهو الرجل الكثير الفرار؛ كقول امرىء القيس يصف جواده: [الطويل]

4990 - مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدبِرٍ مَعاً كجُلْمُودِ صَخْرٍ حطَّهُ السَّيلُ من عَلِ

وأكثر استعمال هذا الوزن في الآلات.
فصل في بيان ما يقوله الإنسان يوم القيامة
يقول الإنسان يومئذ: أين المفر، أي: يقول ابن آدم، وقيل: أبو جهل: أين المفر، أين المهرب؟.
قال الماوردي: ويحتمل وجهين:
أحدهما: أين المفر من الله استحياءً منه.
والثاني: أين المفر من جهنم حذراً منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين:
أحدهما: أن يكون من الكافر خاصة في عرصة القيامة دون المؤمن لثقة المؤمن ببشرى ربه.
والثاني: أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها.
قوله: { كَلاَّ لاَ وَزَرَ }. تقدم الكلام ي "كلاَّ"، وخبر "لا" محذوف، أي لا وزر له.
أي لا ملجأ من النار.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لا حِصْن.
وقال ابن عباس: لا ملجأ وقال الحسن: لا جبل.
وقال ابن جبير: لا مَحِيصَ.
وهل هذه الجملة محكيّة بقول الإنسان، فتكون منصوبة المحل، أو هي مستأنفة من الله - تعالى - بذلك.
و "الوزر": الملجَأ من حصنٍ أو جبلٍ أو سلاح؛ قال الشاعر: [المتقارب]

4991 - لَعمْرُكَ ما لِلْفَتَى من وَزَرْ مِنَ المَوْتِ يُدرِكهُ والكِبَرَ

قال السديُّ: كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصَّنوا في الجبال، فقال الله لهم: لا وزر يعصمكم يومئذٍ منِّي.
قوله تعالى: { إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ }. أي: المنتهى. [قاله قتادة، نظيره: "وأن إلى ربك المنتهى"].
وقال ابن مسعود: إلى ربك المصير والمرجع، أي: المستقر في الآخرة حيث يقره الله.
و "المُسْتقَرُّ" مبتدأ، خبره الجار قبله، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الاستقرار، وأن يكون مكان الاستقرار، و "يَوْمئذٍ" منصوب بفعل مقدر، ولا ينصب بـ"مستقر" لأنه إن كان مصدراً فلتقدمه عليه، وإن كان مكاناً فلا عمل له ألبتة.
قوله: { يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ }. أي: يُخبَّر ابن آدم برّاً كان أو فاجراً يوم القيامة { بِمَا قَدَّمَ وَأخَّرَ } أي: بما أسلف من عمل خيراً أو شرّاً، أو أخَّر من سيِّئة أو صالحة يعمل بها بعده قاله ابن عباس وابن مسعود.
وقال ابن عباس أيضاً: بما قدَّم من المعصية، وأخَّر من الطاعة، وهو قول قتادة.
وقال ابن زيد: "بِما قدَّمَ" مرة من أمواله لنفسه "وأخَّرَ" خلَّف للورثة.
وقال الضحاك: "بِما قدَّم" من فرض "وأخَّرَ" من فرض.
وقال مجاهد والنخعيُّ: يُنَبَّأ بأوَّلِ عملٍ وآخره.
قال القشيري: وهذا الإيتاء يكون في القيامة عند وزن الأعمال، ويجوز أن يكون عند الموت.
قوله: { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ }. يجوز في "بَصِيرة" أوجه:
أحدها: أنها خبر عن الإنسان، و "على نفسه" متعلق بـ"بصيرة"، والمعنى: بل الإنسان بصيرة على نفسه.
وعلى هذا فلأيّ شيء أنَّث الخبر.
وقد اختلف النحويون في ذلك، فقال بعضهم: الهاء فيه للمبالغة.
وقال الأخفش: هو كقولك: "فلان عِبْرة وحُجَّة".
وقيل: المراد بالإنسان الجوارح، فكأنه قال: بل جوارحه بصيرة، أي شاهدة.
والثاني: أنَّها مبتدأ، و "على نفسه" خبرها، والجملة خبر عن الإنسان.
وعلى هذا ففيها تأويلان:
أحدهما: أن تكون "بصيرة" صفة لمحذوف، أي عين بصيرة. قاله الفراء؛ وأنشد: [الطويل]

4992 - كَأنَّ عَلَى ذِي العَقْلِ عَيْناً بَصِيرَةً بِمقْعدِهِ أو مَنْظَرٍ هُو نَاظِرُهْ
يُحَاذِرُ حتَّى يَحْسبَ النَّاسُ كُلُّهُم مِنَ الخَوْفِ لا تَخْفَى عليْهِمْ سَرائِرُهْ

الثاني: أن المعنى جوارحُ بصيرة.
الثالث: أنَّ المعنى ملائكة بصيرة، وهم الكاتبون، والتاء على هذا للتَّأنيث.
وقال الزمخشري: "بصيرة": حُجَّة" بينة وصفت بالبصارة على المجاز كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله تعالى:
{ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } [النمل: 13].
قال شهاب الدين: "هذا إذا لم تجعل الحُجَّة عبارة عن الإنسان، أو تجعل دخول التاء للمبالغة أمَّا إذا كانت للمبالغة فنسبة الإبصار إليها حقيقة".
الوجه الثالث: يكون الخبر الجار والمجرور و "بصيرة" فاعل به، وهو أرجح مما قبله؛ لأن الأصل في الأخبار الإفراد.
فصل في تفسير الآية
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: "بصيرة": أي: شاهد، وهو شهود جوارحه عليه: يداه بما يبطش بهما، ورجلاه بما يمشي عليهما، وعيناه بما أبصر بهما والبصيرة: الشاهد، كما أنشد الفراء، ويدل عليه قوله تعالى:
{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النور: 24].
قال الواحدي: هذا يكون من صفات الكفار، فإنهم ينكرون ما عملوا، فيُختم على أفواههم، وتنطق جوارحهم.
قوله: { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَه }. هذه الجملة حالية، وقد تقدم نظيرها مراراً.
والمعاذير: جمع معذرة على غير قياس كـ"ملاقيح ومذاكير" جمع لقحة وذكر.
وللنحويين في مثل هذا قولان:
أحدهما: أنه جمع لملفوظ به وهو لقحة وذكر.
والثاني: أنه جمع لغير ملفوظ به بل لمقدَّر، أي ملقحة ومذكار.
وقال الزمخشري: "فإن قلت: أليس قياس "المَعْذِرة" أن تجمع على معاذر لا معاذير؟.
قلت: "المعاذير" ليست جمع "معذرة" بل اسم جمع لها، ونحوه: "المناكير" في المُنْكَر".
قال أبو حيان: "وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع، وإنما هو من أبنية جموع التكسير" انتهى.
وقيل: "مَعاذِير" جمع مِعْذار، وهو السِّتر، والمعنى: ولو أرخى ستوره، والمعاذير: الستور بلغة "اليمن"، قاله الضحاك والسديُّ، وأنشد:[الطويل]

4993 - ولكِنَّهَا ضَنَّتْ بمَنْزلِ سَاعةٍ عَليْنَا وأطَّتْ فوْقهَا بالمعَاذِرِ

قال الزجاج: المعاذير: الستور، والواحد: معذار. أي وإن أرخى ستوره يريد أن يخفى عمله فنفسه شاهدة عليه، وقد حذف الياء من "المعاذر" ضرورة.
وقال الزمخشري: "فإن صح - يعني أن المعاذير: الستور - فلأنه يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب". وهذا القول منه يحتمل أن يكون بياناً للمعنى الجامع بين كون المعاذير: الستور والاعتذارات، وأن يكون بياناً للعلاقة المسوِّغة في التجويز.
فصل في معنى الآية
قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسديُّ: المعنى: ولو اعتذر وقال: لم أفعل شيئاً لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه فعليه شاهد يكذِّب عذرهُ".
وقال مقاتل: ولو أدلى بعُذرٍ أو حجة لم ينفعه ذلك، نظيره قوله تعالى:
{ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [المرسلات: 36] فالمعاذير على هذا مأخوذة من العُذْر.