التفاسير

< >
عرض

هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً
١
إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً
٢
إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً
٣
-الإنسان

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ } في "هل" هذه وجهان:
أحدهما: أنها على بابها من الاستفهام المحض، أي: هو ممن يسال لغرابته أأتى عليه حين من الدهر لم يكن كذا فإنه يكون الجواب: أتى عليه ذلك وهو بالحال المذكورة. كذا قاله أبو حيان.
وقال مكي في تقرير كونها على بابها من الاستفهام: والأحسن أن تكون على بابها للاستفهام الذي معناه التقرير, وإنما هو تقرير لمن أنكر البعث فلا بد أن يقول: نعم قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه، فيقال له: من أحدثه بعد أن لم يكن وكونه بعد عدمه، كيف يمتنع عليه بعثه، وإحياؤه بعد موته، وهو معنى قوله:
{ { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [الواقعة: 62] أي: فهلا تذكرون، فتعلمون أن من أنشأ شيئاً بعد أن لم يكن قادراً على إعادته بعد موته وعدمه انتهى.
فقد جعلها لاستفهام التقرير لا للاستفهام المحض، وهذا هو الذي يجب أن يكون؛ لأن الاستفهام لا يرد من الباري - تعالى - على هذا النحو وما أشبهه.
والثاني: قال الكسائي والفراء وأبو عبيدة وحكي أيضاً عن سيبويه: أنها بمعنى "قد" قال الفرَّاء: "هل" تكون جحداً وتكون خبراً، فهذا من الخبر؛ لأنك تقول: هل أعطيتك؟ تقرره: بأنك أعطيته، والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا؟.
وقال الزمخشري: "هل" بمعنى "قد" في الاستفهام خاصة، والأصل: "أهل"؛ بدليل قوله: [البسيط]

5019- سَائِلْ فَوَارِسَ يَرْبُوعٍ لِشدَّتِنَا أهَلْ رَأوْنَا بوَادِي القِفِّ ذِي الأكَمِ؟

فالمعنى: أقد أتى، على التقرير والتقريب جميعاً، أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب "حين من الدهر لم يكن" فيه { شَيْئاً مَّذْكُوراً } أي: شيئاً منسيّاً غير مذكور انتهى.
فقوله "على التقرير" يعني المفهوم من الاستفهام، وهو الذي فهمه مكي من نفس "هل" لا تكون بمعنى "قد" إلا ومعها استفهام لفظاً كالبيت المتقدم، أو تقريراً كالآية الكريمة.
فلو قلت: هل جاء زيد، يعني: قد قام، من غير استفهام لم يجز. وغيره قد جعلها بمعنى "قد" من غير هذا القَيْدِ.
وبعضهم لا يجيز ذلك ألبتة ويتأول البيت المتقدم على أنه مما جمع فيه بين حرفي معنى للتأكيد، وحسن ذلك اختلاف لفظهما؛ كقوله: [الطويل]

5020- فأصْبَحْــــنَ لا يَسْألنَنِــي عَـــنْ بِمَـــا بِـــهِ

فالباء بمعنى "عن" وهي مؤكدة لها، وإذا كانوا قد أكدوا مع اتفاق اللفظ؛ كقوله: [الوافر]

5021- فَـلاَ - والـلَّــهِ - لا يُلْفَـى لِمَــا بِــي ولا لِلمَــا بِهِــمْ أبَــداً دَوَاءُ

فلأن يؤكد مع اختلافه أحرى، ولم يذكر الزمخشري غير كونها بمعنى "قد"، وبقي على الزمخشري قيد آخر، وهو أن يقول: في الجمل الفعلية، لأنه متى دخلت "هل" على جملة اسمية استحال كونها بمعنى "قد" لأن "قد" مختصة بالأفعال.
قال شهاب الدين: وعندي أن هذا لا يرد لأنه تقرر أن "قد" لا تباشر الأسماء.
فصل في المراد بالإنسان المذكور في الآية
قال قتادة والثوري وعكرمة والشعبي: إن المراد بالإنسان هنا آدم - عليه الصلاة والسلام - وهو مروي عن ابن عباس.
وقيل: المراد بالإنسان: بنو آدم لقوله تعالى: { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ }.
فالإنسان في الموضعين واحد وعلى هذا فيكون نظم الآية أحسن.
وقوله: { حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ }
قال ابن عباس في رواية الضحاك أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة، ثم من حمإ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة، فتم خلقه في مائة وعشرين سنة، ثم نفخ فيه الروح.
وحكى الماوردي عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن الحين المذكور هاهنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره.
وقال الحسن: خلق الله تبارك وتعالى كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دوابّ البر والبحر في الأيام الست التي خلق الله - تعالى - فيها السماوات والأرض، وآخر ما خلق آدم - عليه الصلاة والسلام - فهو كقوله تعالى: { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً }.
فإن قيل: إن الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ الروح فيه ما كان إنساناً، والآية تقتضي أنه مضى على الإنسان حال كونه إنساناً { حينٌ من الدَّهْرِ } مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئاً مذكوراً.
فالجواب: أن الطين والصلصال إذا كان مصوراً بصورة الإنسان، ويكون محكوماً عليه بأنه سينفخ فيه الروح، ويصير إنساناً صح تسميته بأنه إنسان، ومن قال: إن الإنسان هوالنَّفس الناطقة، وأنها موجودة قبل وجود الأبدان فالإشكال عنهم زائل، واعلم أنَّ الغرض من هذا التنبيه على أن الإنسان محدث، وإذا كان كذلك فلا بد من محدث قادر.
قوله: "لم يكن" في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها في موضع نصب على الحال من الإنسان, أي هل أتى عليه حين في هذه الحال.
والثاني: أنها في موضع رفع نعتاً لـ "حين" بعد نعت، وعلى هذا فالعائد محذوف، تقديره: حين لم يكن فيه شيئاً مذكوراً. والأول أظهر لفظاً ومعنى.
فصل في تفسير الآية
روى الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً }: لا في السماء ولا في الأرض.
وقيل: كان جسداً مصوراً تراباً وطيناً لا يعرف ولا يذكر، ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً. قاله الفراء وقطرب وثعلب.
وقال يحيى بن سلام: { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله، ولم يخلق حيواناً بعده، ومن قال: إنَّ المراد من الإنسان الجنس من ذرية آدم - عليه الصلاة والسلام - فالمراد بالحين تسعة أشهر مدة الحمل في بطن أمه { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } إذ كان مضغة وعلقة؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له.
وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لما قرأ هذه الآية: ليتها تمَّت فلا نبتلى، أي ليت المدة التي أتت على آدم لم يكن شيئاً مذكوراً تمت على ذلك فلا يلد ولا يبتلى، أولاده، وسمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلاً يقرأ: { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } فقال: ليتها تمّت.
قوله: { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ }. يعني ابن آدم من غير خلاف "من نُطْفَة" أي: من ماء يقطر وهو المنيّ، وكل ماء قليل في وعاء، فهو نطفة؛ كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه: [الرجز]

5022- مَا لِــي أرَاكِ تَكْرَهِيــنَ الجَنَّــهْ هَـلْ أنْـتِ إلاَّ نُطفـةٌ فِـي شَنِّـــه؟

وجمعها: نطف ونطاف.
قوله: "أمْشَاجٍ": نعت لـ "نُطْفَةٍ" ووقع الجمع نعتاً لمفرد؛ لأنه في معنى الجمع كقوله تعالى:
{ { رَفْرَفٍ خُضْرٍ } [الرحمن: 76] أو جعل جزء من النطفة نطفة، فاعتبر ذلك فوصفت بالجمع.
وقال الزمخشري: "نُطْفةٍ أمشاج" كبُرمةٍ أعشارٍ وبُرٍّ أكباش وثوب أخلاق وأرضٍ يباب وهي الفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد، ويقال: نطفة مشج؛ قال الشماخ: [الوافر]

5023- طَـوتْ أحْشَــاءَ مُرْتِجَـةٍ لوقـتٍ عَلـى مَشـجٍ سُلالتُـهُ مَهِيــنُ

ولا يصح في "أمْشَاجٍ" أن يكون تكسيراً له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما.
فقد منع أن يكون "أمشاج" جمع "مشج" بالكسر.
قال أبو حيان: وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن "أفعالاً" لا يكون مفرداً.
قال سيبويه: وليس في الكلام "أفْعَال" إلا أن يكسر عيله اسماً للجميع، وما ورد من وصف المفرد بـ "أفعال" تأولوه انتهى.
قال شهاب الدين: هو لم يجعل "أفعالاً" مفرداً، إنما قال: يوصف به المفرد، يعني التأويل ذكرته من أنهم جعلوا كل قطعة من البُرْمة بُرْمة، وكل قطعة من البرد برداً، فوصفوهما بالجمع.
وقال أبو حيان: "الأمشاج": الأخلاط، وأحدها "مَشَج" بفتحتين أو مشج كعدل وأعدال، أو مشيج كشريف وأشراف. قاله ابن العربي؛ وقال رؤبة [الرجز]

5024- يَطْرَحْنَ كُلَّ مُعجلٍ مشَّاجِ لم يُكْسَ جِلْداً مِنْ دمٍ أمْشَاجِ

وقال الهذليُّ يصف السهم لهم بأنه قد نفذ في الرمية فالتطخ ريشه وفوقاه بدم يسير: [الوافر]

5025- كَـأنَّ الرِّيــشَ والفُوقيْـنِ مِنْـهُ خِـلافُ النَّصْـلِ سيـطَ بِـهِ مشيــجُ

ويقال: مَشَج يمشُج مشجاً إذا خلط، فمشيج كـ "خليط"، وممشوج كـ "مخلوط" انتهى.
فجوز أن يكون جمعاً لـ "مشيج" كعدل، وقد تقدم أن الزمخشري منع من ذلك.
وقال الزمخشري: "ومشجه ومزجه بمعنى، من نطفة قد امتزج فيها الماءَانِ".
وقال القرطبي: ويقال: مشجت هذا بهذا أي: خلطته، فهو ممشوج ومشيج، مثل مخلواط وخليط، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم، وهو دم الحيض، وذلك أنَّ المرأة إذا بلغت ماء الرجل وحبلت أمسك حيضها، فاختلطت النُّطفة بالدم.
وقال الفراء: أمشاج: اختلاط ماء الرجل وماء المرأة، والدم والعلقة.
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: الأمشاج في الحمرة، والبياض في الحمرة، وعنه أيضاً قال: يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق، فيخلق الولد فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل، وما كان من لحم وشعر فهو من ماء المرأة.
قال القرطبي: "وقد روي هذا مرفوعاً؛ ذكره البزار".
وعن ابن مسعود: أمشاجها عروق المضغة.
وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء.
وقال ابن عباس: خلق من ألوان، خلق من تراب ثم من ماء الفرج والرحم وهي نطفة ثم علقة، ثم مضغة ثم عظم ثم لحم، ونحوه.
قال قتادة: هي أطوار الخلق: طوراً نطفة، وطوراً علقة، وطوراً مضغة، وطوراً عظاماً، ثم يكسو العظام لحماً.
قال ابن الخطيب: وقيل: إن الله - تعالى - جعل في النطفة أخلاطاً من الطَّبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، والتقدير: من نطفة ذات أمشاج، فحذف المضاف وتم الكلام.
قوله: "نبتليه". يجوز في هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها حال من فاعل خلقنا، أي: خلقناه حال كوننا مبتلين له.
والثاني: أنها حال من الإنسان، وصح ذلك لأن في الجملة ضميرين كل منهما يعود على ذي الحال، ثم هذه الحال أن تكون مقارنة إن كان معنى "نبتليه" نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة كما قال ابن عباس وأن تكون مقدرة إن كان المعنى نبتليه نختبره بالتكليف؛ لأنه وقت خلقه غير مكلف.
وقال الزمخشري: "ويجوز أن يكون ناقلين له من حال إلى حال، فسمي بذلك ابتلاء على طريق الاستعارة".
قال شهاب الدين: "وهذا معنى قول ابن عباس المتقدم".
وقال بعضهم: في الكلام تقديم وتأخير، والأصل: إننا جعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه، أي: جعلنا له ذلك للابتلاء، وهذا لا حاجة إليه.
فصل في تفسير قوله تعالى نبتليه
قوله: "نبتليه": لنبتليه، كقولك: "جئتك أقضي حقك، أي لأقضي حقك وآتيك أستمنحك كذا" ونظيره قوله تعالى:
{ { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [المدثر: 6] أي: لتستكثر.
ومعنى: "نبتليه" نختبره، وقيل: نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار، وفيما يختبر به وجهان:
أحدهما: قال الكلبي: نختبره بالخير والشر.
والثاني: قال الحسن: نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء.
وقيل: "نَبْتَلِيه" نكلّفه بالعمل بعد الخلق. قاله مقاتلرحمه الله . وقيل: نكلفه؛ ليكون مأموراً بالطاعة، ومنهياً عن المعاصي.
وقوله: { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً }.
والمعنى: إنا خلقناه في هذه الأمشاج لا للعبث بل للابتلاء والامتحان، ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر، وهما كنايتان عن الفهم والتمييز، لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة، والمعنى: جعلنا له سمعاً يسمع به الهدى وبصراً يبصر به الهدى كما قال تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام:
{ { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } [مريم: 42] وقد يراد بالسميع المطيع، كقوله: "سَمْعاً وطَاعَة"، وبالبصير: العالم، يقال: لفلان بصر في هذا الأمر.
وقيل: المراد بالسمع والبصر: الحاسَّتان المعروفتان، والله - تعالى - خصهما بالذكر؛ لأنهما أعظم الحواس وأشرفهما.
قوله: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } أي: بيَّنا له وعرفناه بطريق الهدى والضلال والخير والشر ببعث الرسل فآمن أو كفر.
وقال مجاهد: السبيل هنا خروجه من الرحم.
وقيل: منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله.
فصل في ان العقل متأخر عن الحواس
قال ابن الخطيب: أخبر الله - تعالى - أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى والضلال، قال: والآية تدل على أن العقل متأخر عن الحواس، وهو كذلك ثم ينشأ عنها عقائد صادقة أولية كعلمنا بان النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان، وأن الكل أعظم من الجزء وهذه العلوم الأولية هي العقل.
قال الفراء: هذا يتعدى بنفسه وباللام.
قوله: { إِمَّا شَاكِراً }. نصب على الحال، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه حال من مفعول "هَدَيْنَاهُ" أي: هديناه مبيناً له كلتا حالتيه.
قال أبو البقاء: وقيل: وهي حال مقدرة.
قال شهاب الدين: لأنه حمل الهداية على أول البيان له وفي ذلك الوقت غير متصف بإحدى الصفتين.
والثاني: أنه حال من "السبيل" على المجاز.
قال الزمخشري: "ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي عرفناه السبيل، إما سبيلاً شاكراً، وإما سبيلاً كفوراً، كقوله تعالى:
{ { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [البلد: 10]، فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً".
والعامة على كسر همزة "إما" وهي المرادفة لـ "أو" وقد تقدم خلاف النحويين فيها.
ونقل مكي عن الكوفيين أن هاهنا: "إن" الشرطية زيدت بعدها "ما" ثم قال: "وهذا لا يجيزه البصريون؛ لأن "إن" الشرطية لا تدخل على الأسماء إلاَّ أن يضمر فعل نحو:
{ { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 6]، ولا يصح إضمار الفعل، ويمكن أن يضمر فعل ينصب "شاكر"، وأيضاً لا دليل على الفعل" انتهى.
قال شهاب الدين: لا نسلم أنه يلزم رفع "شاكراً" مع إضمار الفعل، ويمكن أن يضمر فعل ينصب "شاكراً" تقديره: إنا خلقناه شاكراً فشكوراً، وإنا حلقناه كافراً فكفوراً.
وقرأ أبو السمال، وأبو العجاج: بفتحها، وفيه وجهان:
أحدهما: أنها العاطفة وأنها لغة، وبعضهم فتح الهمزة؛ وأنشدوا على ذلك: [الطويل]

5026- تُنفِّخُهَـا أمَّـا شِمـالٌ عَـرِيَّــةٌ وأمَّـا صَبَـا جُنـحِ العَشِـيِّ هَبُــوبُ

بفتح الهمزة.
ويجوز مع فتح الهمزة إبدال ميمها الأولى ياء؛ قال [البسيط]

5027- أيْمَــا إلَــى جَنَّــةٍ أيْمَــا إلــى نَــارِ

وحذف الواو بينهما.
والثاني: أنها "إما" التفصيلية وجوابها مقدر.
قال الزمخشري: وهي قراءة حسنة، والمعنى: إما شاكراً فبتوفيقنا، وإما كفوراً فبسوء اختياره انتهى، ولم يذكر غيره.
فصل في الكلام على الآية
قال ابن الخطيب بعد حكايته أن "شاكراً وكفوراً" حالان: إنّ المعنى: كلما يتعلق بهداية الله تعالى وإرشاده فقد تم حالتي الكفر والإيمان.
وقيل: وانتصب "شاكراً وكفوراً" بإضمار "كان" والتقدير: سواء كان شاكراً أو كان كفوراً.
وقيل: معناه إن هديناه السبيل ليكون إما شاكراً وإما كفوراً، أي يتميز شكره من كفره، وطاعته من معصيته كقوله تعالى:
{ { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [الملك: 2] قال القفال: ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل كقولك: "قد نصحت لك إن شئت فاقبل، وإن شئت قاترك" فتحذف الفاء، وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد، أي: إنا هديناه السبيل، فإن شاء فليشكر، وإن شاء فليكفر فإنا قد أعتدنا للكافرين كذا قوله { { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [الكهف: 29].
وقيل: حالان من السبيل، فإن شاء فليشكر، وإن شاء فليكفر.
وقيل: حالان من السبيل، أي عرفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً، ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز.
قال ابن الخطيب: وهذه الأقوال لائقةٌ بمذهب المعتزلة.
وقيل قول الخامس مطابق لمذهب أهل السنة واختاره الفراء وهو أن تكون "إما" في هذه الآية كما في قوله تعالى:
{ { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [التوبة: 106] والتقدير: إنا هديناه السبيل، ثم جعلناه تارة شاكراً، وتارة كفوراً ويؤيده قراءة أبي السمال المتقدمة، قالت المعتزلة: هذا التأويل باطل لتهديده الكفار بعد هذه الآية بقوله تعالى { { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً } [الإنسان: 4] ولو كان كفر الكافر من الله وبخلقه لما جاز منه أن يهدده عليه، ولما بطل هذا التأويل الأول، وهو أنه - تعالى - هدى جميع المكلفين، سواء آمن أو كفر، وبهذا بطل قول المجبرة.
وأجيب: بأنه - تعالى - لما علم من الكافر أنه لا يؤمن، ثم كلفه بأن يؤمن فقد كلفه بالجمع بين العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان، وهذا تكليف بالجمع بين متنافيين، فإن لم يصر هذا عذراً في سقوط التهديد والوعيد جاز ايضاً أن يخلق الكفر فيه، ولا يصير ذلك عذراً في سقوط التهديد والوعيد، فإذا ثبت هذا ظهر أن هنا التأويل هوالحق، وبطل تأويل المعتزلة.
فصل في جمعه تعالى بين الشاكر والكفور
قال القرطبي: "جمع بين الشاكر والكفور ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة نفياً للمبالغة في الشكر، وإثباتاً لها في الكفر؛ لأن شكر الله - تعالى - لا يؤدّى فانتفت عنه المبالغة، ولم ينتف عن الكفر المبالغة فقلَّ شكره لكثرة النعم عليه وكثرة كفره وإن قلّ مع الإحسان إليه، حكاه الماوردي".