التفاسير

< >
عرض

إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً
٢٧
نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً
٢٨
إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً
٢٩
وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
٣٠
يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَٱلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
٣١
-الإنسان

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ }. توبيخ وتقريع والمراد أهل "مكة"، والعاجلة، الدنيا.
واعلم أنه تعالى لما خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بالتعظيم والأمر والنهي، عدل إلى شرح أحوال الكفار والمتمردين، فقال تعالى: { إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ }، ومعناه: إن الذي حمل هؤلاء على الكفر والإعراض عما ينفعهم في الآخرة، هو محبتهم اللذات العاجلة والراحات الدنيوية البدنية.
قوله: { وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ }، أي: بين أيديهم، وقال: "وَرَاءَهُم" ولم يقل: قُدَّامهم لأمور:
أحدها: أنهم لما أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه فكأنهم جعلوه وراء ظهورهم.
وثانيها: المراد: يذرون وراءهم مصالح يوم ثقيل، أي عسير، فأسقط المضاف.
وثالثها: أن "وراء" يستعمل بمعنى "قُدّام"، كقوله تعالى:
{ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } [إبراهيم: 16] { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ } [الكهف: 79].
وقال مكي: سمّي "وراء" لتواريه عنك، فظاهر هذا أنه حقيقة، والصحيح أنه استعير لـ "قُدّام".
قوله: "يَوْماً". مفعول بـ "يَذَرُونَ" لا ظرف، وصفه بالثقل على المجاز؛ لأنه من صفات الأعيان لا المعاني.
وقيل: معناه يتركون الإيمان بيوم القيامة.
وقيل: نزلت في اليهود فيما كتموه من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته، وحبُّهم العاجلة: أخذهم الرّشا ما كتموه، وقيل: أراد المنافقين لاستبطانهم الكفر وطلب الدنيا، والآية تعُمّ، واليوم الثقيل: يوم القيامة، وسمي ثقيلاً لشدائده وأهواله وقيل: للقضاء فيه بين العباد.
قوله تعالى: { نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ } أي من طين، { وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ } أي: خلقهم. قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم، والأسر: الخلق.
قال أبو عبيد: يقال: فرس شديد الأسر، أي: الخلق، ويقال: أسره الله، إذا شدد خلقه؛ قال لبيدٌ [الرمل]

5051- سَاهِمُ الوجْهِ شَدِيدٌ أسْرهُ مُشْرِفُ الحَارِكِ مَحْبُوكُ الكَتِدْ

وقال الأخطل: [الكامل]

5052- مِنْ كُلِّ مُجْتَنِبٍ شَديدٍ أسْرهُ سَلِسُ القِيَادِ تخَالهُ مُخْتَالاً

وقال أبو هريرة والحسن والربيع رضي الله عنهم: شَددْنَا مفَاصِلهُمْ.
قال أهل اللغة: الأسر: الرَّبْط، ومنه: أسِرَ الرجُل، إذا أوثق بالقيد، وفرس مأسورة الخلق وفرس مأسورة بالعقب، والإسار: هو القيد الذي يشد به الأقتاب، تقول: أسرت القتب أسراً، أي: شددته وربطته.
فصل في معنى الأسر
قال ابن زيد: الأسر القوة، والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية، أي: سويت خلقك وأحكمته بالقوى ثم أنت تكفر بي.
قال ابن لخطيب: وهذا الكلام يوجب عليهم طاعة الله تعالى من حيث الترغيب والترهيب؛ أما الترغيب فلأنه هو الذي خلقهم وأعطاهم الأعضاء السليمة التي بها يمكن الانتفاع باللذات العاجلة، وخلق لهم جميع ما يمكن الانتفاع به، فإذا أحبوا اللذات العاجلة، وتلك اللذات لا تحصل إلا بالمنتفع والمنتفع به، وهما لا يحصلان إلا بتكوين الله وإيجاده، وهذا مما يوجب عليهم الانقياد لله - تعالى - وترك التمرُّد.
وأما الترهيب فإنه قادرٌ على أن يميتهم وأن يسلُب النعم عنهم، وأن يلقي بهم في كل محنة وبلية، فلأجل الخوف من فوت هذه اللذات العاجلة يجب عليهم الانقياد لله - تعالى - وترك التمرّد، فكأنه قيل: هبْ أن حبكم لهذه اللذات العاجلة طريقة حسنة إلا أن ذلك يوجب عليكم الإيمان بالله - تعالى - والانقياد له، فلم توسلتم به إلى الكفر بالله - تعالى - والإعراض عن حكمه.
قوله تعالى: { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً }.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بأطْوَعَ لله منهم.
وقال ابن الخطيب: معناه: إذا شئنا أهلكناهم، وأتينا بأشباههم، فجعلناهم بدلاً منهم كقوله تعالى:
{ عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ } [الواقعة: 61]، والغرض منه: بيان الاستغناء التام عنهم، كأنه قيل: لا حاجة بنا إلى أحد من المخلوقين ألبتة، وبتقدير إن ثبتت الحاجة، فلا حاجة بنا إلى هؤلاء الأقوام؛ فإنا قادرون على إبدالهم وإيجاد أمثالهم، ونظيره قوله تعالى: { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } [إبراهيم: 19]، { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } [النساء: 133]. وروى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهم - معناه: لغيرنا محاسنهم إلى أقبح الصور.
وقيل: أمثالهم في الكفر.
فصل في نظم الآية
قال الزمخشري في قوله تعالى: { وَإِذَا شِئْنَا }: وحقه أن يجيء بـ "إن" لا بـ "إذا"، كقوله تعالى:
{ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [محمد: 38]، { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } يعني: أنَّ "إذا" للمحقَّق، و "إن" للمحتمل، وهو تعالى لم يشأ ذلك، وجوابه أن "إذا" قد تقع موقع "إن" كالعكس.
قال ابن الخطيب: فكأنه طعن في لفظ القرآن وهو ضعيف، لأن كل واحد من "إن" و "إذا" حرف شرط، إلا أن حرف "إن" لا يستعمل فيما هو معلوم الوقوع، فلا يقال: إن طلعت الشمس أكرمتك.
أما حرف "إذا" فإنه يستعمل فيما يكون معلوم الوقوع تقول ابتداء: إذا طلعت الشمس - فهاهنا - لما كان الله تعالى عالماً أنه سيجيء وقت يبدل الله تعالى فيه أولئك الكفرة بأمقالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة لا جرم حسن استعمال حرف "إذا".
قوله تعالى: { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ }. أي: هذه السورة موعظة، { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } أي: طريقاً موصِّلاً إلى طاعته.
وقيل: "سبيلاً" أي وسيلة.
وقيل: وجهة وطريقة إلى الخير والمعنى: أنّ هذه السورة لما فيها من الترتيب العجيب، والوعد الوعيد، والترغيب والترهيب تذكرة للمتأملين وتبصرة للمتبصرين.
فصل في قول الجبرية
قال ابن الخطيب: متى ضمت هذه الآية إلى الآية بعدها خرج منهما صريح مذهب الجبر، لأن قوله تعالى: { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } الآية يقتضي أن مشيئة العبد متى كانت خالصة، فإنها تكون مستلزمة للفعل، وقوله تعالى بعد ذلك: { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } يقتضي كون مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد، ومستلزم المستلزم مستلزم، فإن مشيئة الله - تعالى - مستلزمة لفعل العبد، وذلك هو الجبر، وكذا الاستدلال على الجبر بقوله تعالى:
{ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [الكهف: 29]، لأن هذه الآية أيضاً تقتضي كون المشيئة مستلزمة للفعل، ثم التقدير ما تقدم.
قال القاضي: المذكور هاهنا اتخاذ السبيل إلى الله - تعالى - وهو أمر قد شاءه؛ لأنه أمر به فلا بد وأن يكون قد شاءه، وهذا لا يقضي أن يقال: العبد لا يشاء إلاَّ ما قد شاء الله على الإطلاق إذ المراد بذلك الأمر المخصوص الذي قد ثبت أن الله تعالى أراده وشاءه. وهذا الكلام لا تعلق له بالاستدلال الذي ذكرناه، فحاصل ما ذكره القاضي تخصيص العام بالصُّور المتقدمة، وذلك ضعيف لأن خصوص ما قبل الآية لا يقتضي تخصيص هذا العام لاحتمال أن يكون الحكم في هذه الآية وارداً بحيث تعمّ تلك الصورة وغيرها.
قوله: { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } فيه وجهان:
أحدهما: أنه حال، أي إلاَّ في حال مشيئة الله تعالى. قاله أبو البقاء.
وفيه نظر: لأن هذا مقدر بالمعرفة إى أن يريد تفسير المعنى.
والثاني: أنه ظرف.
قال الزمخشري: "فإن قلت: ما محل أن يشاء الله؟.
قلت: النصب على الظرف، وأصله: إلا وقت مشيئة الله تعالى، وكذلك قرأ ابن مسعود: إلا ما يشاء الله، لأن "ما" مع الفعل كـ "إن" معه".
وردّ أبو حيان: بأنه لا يقوم مقام الظرف إلاَّ المصدر الصريح، لو قلت: أجيئك أن يصيح الديك، أو ما يصيح، لم يجز. قال شهاب الدين: قد تقدم الكلام في ذلك مراراً.
وقرأ نافع والكوفيون: "تشاءون" خطاباً لسائر الخلق، أو على الالفتات من الغيبة في قوله تعالى: { نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ }، والباقون: بالغيبة جرياً على قوله: "خلقناهم" وما بعده.
قوله: { وَمَا تَشَآءُونَ } أي الطاعة والاستقامة، واتخاذ السبيل إلى الله { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } فأخبر أن الأمر إليه سبحانه، وليس لهم، وأنه لا ينفذ مشيئة أحد، ولا تقدّم إلا تقدّم مشيئة الله تعالى، قيل: إن الآية الأولى منسوخة بالثانية.
قال القرطبي: والأشبه أنه ليس بنسخ، بل هو تبيين أن ذلك لا يكون إلا بمشيئته.
قال الفراء: "ومَا تَشَاءُونَ إلاَّ أن يَشاءَ اللهُ" جواب لقوله تعالى: { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } ثم أخبرهم أن الأمر ليس إليهم، فقال: "ومَا تَشَاءُونَ" ذلك السبيل "إلاَّ أن يشَاءَ اللهُ" لكم، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً } بأعمالكم "حَكِيماً" في أمره ونهيه لكم.
قوله تعالى: { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ }. أي: يدخله الجنة راحماً له.
قال ابن الخطيب: إن فسرنا الرحمة بالإيمان فالآية صريحة في أن الإيمان من الله تعالى وإن فسرناها بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئته بسبب مشيئة الله تعالى وفضله، وإحسانه لا بسبب الاستحقاق؛ لأنه لو ثبت الاستحقاق لكان تركه يفضي إلى الجَهْل أو الحاجة، وهما محالان على الله تعالى، والمفضي إلى المحال محال، فتركه محال، فوجوده واجبٌ عقلاً، وعدمه ممتنعٌ عقلاً، وما كان كذلك لا يكون معلقاً على المشيئة ألبتة.
قوله: { وَٱلظَّالِمِينَ }، أي: ويعذّب الظالمين، وهو منصوب على الاشتغال بفعل يفسره "أعَدَّ لَهُمْ" من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، تقديره: وعذب الظالمين، ونحوه: "زيداً مررت به" أي: جاوزت ولابست. وكان النصب هنا مختاراً لعطف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها، وهو قوله "يُدْخِلُ".
قال الزجاج: نصب "الظَّالمينَ" لأن قبله منصوباً، أي: يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين، أي: المشركين، ويكون "أعَدَّ لَهُمْ" تفسيراً لهذا المضمر؛ قال الشاعر: [المنسرح]

5053- أصْبَحتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولا أمْلِكُ رَأسَ البَعيرِ إنْ نَفَرَا
والذِّئْـب أخْشَـاهُ إنْ مَـررْتُ بِــهِ وحْدِي وأخْشَــى الرِّيَــاحَ والمَطَــرَا

أي: أخشى الذئب أخشاه.
قال الزجاج: والاختيار النصب. وإن جاز الرفع.
وقوله تعالى في "حَم عَسق":
{ يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَٱلظَّالِمُونَ } [الشورى: 8] ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فنصب في المعنى، فلم يجز العطف على المنصوب قبله فارتفع بالابتداء، وهاهنا قوله: { أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً } يدل على "ويُعَذِّبُ" فجاز النصب.
وقرأ الزبير، وأبان بن عثمان، وابن أبي عبلة: "والظَّالمُونَ" رفعاً على الابتداء، وما بعده الخبر، وهو أمر مرجوح لعدم المناسبة.
وقرأ ابن مسعود: "ولِلظَّالِمينَ" بلام الجر، وفيه وجهان:
أظهرهما: أن يكون "للظَّالمين" متعلقاً بـ "أعَدَّ" بعده، ويكون "لَهُمْ" تأكيداً.
والثاني: وهو ضعيف، أن يكون من باب الاشتغال، على أن يقدر فعلاً مثل الظاهر، ويجر الاسم بحرف الجر، فتقول: "بزيد مررت به" أي: مررت بزيد مررت به، والمعروف في لغة العرب مذهب الجمهور، وهو إضمار فعل ناصب موافق لفعل الظاهر في المعنى، فإن ورد نحو "بزيد مررت به" عُدَّ من التوكيد لا من الاشتغال. والأليم: المؤلم.
روى الثَّعلبيّ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ قَرَأ سُورَة { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ } كَانَ جَزَاؤهُ عَلى اللهِ تَعَالى جَنَّةً وحَرِيراً" .