التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ
٨
وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتْ
٩
وَإِذَا ٱلْجِبَالُ نُسِفَتْ
١٠
وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتْ
١١
لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ
١٢
لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ
١٣
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ
١٤
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
١٥
أَلَمْ نُهْلِكِ ٱلأَوَّلِينَ
١٦
ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ٱلآخِرِينَ
١٧
كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ
١٨
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
١٩
-المرسلات

اللباب في علوم الكتاب

ثم بين وقت وقوعه فقال تعالى: { فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ } اي: ذهب ضوؤها، ومُحِيَ نورها كطَمْسِ الكتاب، يقال: طمس الشيء إذا درس، وطمس فهو مطموس، والريح تطمس الآثار، فتكون الريح طامسة، والأثر طامس بمعنى مطموس.
قال ابن الخطيب: ويحتمل ان تكون محقت ذواتها، وهو موافق لقوله تعالى: { نُشرت }.
و "النُّجومُ" مرتفعة بفعل مضمر يفسره ما بعده عند البصريين غير الأخفش، وبالابتداء عن الكوفيين والأخفش.
وفي جواب "إذا" قولان:
أحدهما: محذوف، تقديره: فإذا طمست النجوم وقع ما توعدون، لدلالة قوله إنما توعدون لواقع أو بان الأمر.
والثاني: أنه "لأيَِّ يَومٍ أجِّلتْ" على إضمار القول، أي يقال: لأي يوم أجّلت، فالفعل في الحقيقة هو الجواب.
وقيل: الجواب: "وَيْلٌ يَوْمَئذٍ". نقله مكي، وهو غلط؛ لأنه لو كان جواباً للزمته الفاء لكونه جملة اسمية.
قوله تعالى: { وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتْ }. أي: فتحت وشقّت، ومنه قوله تعالى:
{ { وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً } [النبأ: 19]، والفَرْجُ: الشقُّ، ونظيره: { { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ } [الانشقاق: 1] { { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ } [الفرقان: 25].
وروى الضحاك عن ابن عباس: - رضي الله عنهم - قال: فرجت للطي.
قوله تعالى: { وَإِذَا ٱلْجِبَالُ نُسِفَتْ } أي: ذهب بها كلها بسرعة، من أنسفت الشيء إذا اختطفته، وقيل: تنشق كالحب المغلق إذا نسف بالمنسف، ومنه قوله تعالى:
{ { لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي ٱلْيَمِّ نَسْفاً } [طه: 97]، ونظيره: { { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } [الواقعة: 5] { { وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً } [المزمل: 14] { { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [طه: 105].
وقرئ: "طُمّست، وفُرّجت، ونُسّفت" مشددة.
وكان ابن عباس يقول: سويت بالأرض، والعرب تقول: فرس نسوف، إذا كان يؤخر الحزام بمرفقيه؛ قال بشرٌ: [الوافر]

5055- نَسُـوفٌ لِلحـزَامِ بِمرْفقيْهَــا................................

ونسفت الناقة الكلأ إذا رعتهُ.
قوله: { وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتْ }. قرأ أبو عمرو: "وقِّتَتْ" بالواو، والباقون: بهمزة بدل الواو. قالوا: والواو هي الأصل؛ لأنه من الوقت، والهمزة بدل منها لأنها مضمومة ضمة لازمة، وكل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة تبدل على الاطراد همزة أولاً، تقول: صلى القوم إحداناً، تريد: وِحدَاناً، وهذه أجوه حسان؛ لأن ضمة الواو ثقيلة وبعدها واو فالجمع بينهما يجري مجرى المثلين فيكون ثقيلاً، ولم يجز البدل في قوله تعالى
{ { وَلاَ تَنسَوُاْ ٱلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } [البقرة: 237]؛ لأن الضمة غير لازمة، قال الفراء. وقد تقدم ذكر ذلك أول الكتاب.
فصل في المراد بالتأقيت
قال مجاهد والزجاج: المراد بهذا التأقيت تبيين الوقت الذي تحضرون فيه للشهادة على أممكم، أي: جمعت لوقتها ليوم القيامة، والوقت: الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه، فالمعنى: جعل لها وقت وأجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم، كقوله تعالى:
{ { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } [المائدة: 109].
وقيل: المراد بهذا التأقيت تحصيل الوقت وتكوينه، وليس في اللفظ بيان أنه يحصل لوقت أي شيء، ولم يبينه ليذهب الوهم إلى كل جانب، فيكون التهويل فيه أشد، فيحتمل أن يكون المراد تكوين وقت جمعهم للفوز بالثواب، وأن يكون وقت سؤال الرسل عما أجيبوا به، وسؤال الأمم عما أجابوا هم لقوله تعالى:
{ { فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ } [الأعراف: 6]، وأن يكون وقت مشاهدة الجنة والنار وسائر أحوال القيامة، وقيل: "أقِّتَتْ" أي: أرسلت لأوقات معلومة على ما علمه الله وأراده.
فصل في قراءات الآية
قرأ أبو جعفر وشيبة: بالواو وتخفيف القاف, وهو "فعلت" من الوقت، ومنه
{ { كِتَاباً مَّوْقُوتاً } [النساء: 103].
وقرئ - أيضاً -: "وُوقتت" - بواوين -، وهو "فوعلت" من الوقت أيضاً مثل: عُوهِدَت.
قال القرطبي: "ولو قلبت الواو في هاتين القراءتين ألفاً لجاز، وقد قرأ يحيى وأيوب وخالد بن إلياس وسلام: "أقِتَتْ" بالهمز والتخفيف؛ لأنها مكتوبة في المصحف بالألف".
قوله تعالى: { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ }. الجار متعلق بـ "أجلت" وهذه الجملة معمولةٌ لقول مضمر، أي: يقال وهذا القول المضمرُ يجوز أن يكون جواباً لـ "إذا" - كما تقدَّم - وأن يكون حالاً من مرفوع "أقتت" أي: مقولاً فيها لأيِّ يوم أجّلت أي: أخّرت، وهذا تعظيم لذلك اليوم، فهو استفهام على التعظيم، أي ليوم الفصل أجلت، كأنه تعالى قال: يعجب العباد من تعظيم ذلك اليوم، فيقال: لأي يوم أجلت الأمور المتعلقة بهذه الرسل، وهي تعذيب من كذبهم وتعظيم من آمن بهم وظهور ما كانوا يدعون الخلق إلى الإيمان به من الأهوال والعرض والحساب، ونشر الدواوين ووضع الموازين.
قوله: { لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ } بدل من "لأيِّ يومٍ" بإعادة العامل.
وقيل: بل يتعلق بفعل مقدر أي أجلت ليوم الفصل، وقيل: اللام بمعنى "إلى" ذكرها مكي.
فصل في المراد بيوم الفصل
اعلم أنه تعالى بين ذلك اليوم فقال: { لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ }، قال ابن عباس: يوم فصل الرحمن بين الخلائق، لقوله تعالى:
{ { إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ } [الدخان: 40].
قوله: { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ }. أتبع التعظيم تعظيماً، أي: وما علمك بيوم الفصل وشدته ومهابته، ثم أتبعه بتهويل ثالث، وهو قوله: "ويْلٌ" مبتدأ، سوغ بالابتداء به كونه دعاء.
قال الزمخشري: "فإن قلت: كيف وقعت النكرة مبتدأ في قوله تعالى { وَيْلٌ }؟ قلت: هو في أصله مصدر منصوب سادّ مسدَّ فعله، ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على إثبات معنى الهلاك، ودوامه للمدعو عليهم، ونحوه
{ { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [الرعد: 24]، ويجوز "قِيلاً" بالنصب، ولكنه لم يقرأ به".
قال شهاب الدين: "هذا الذي ذكره ليس من المسوّغات التي عدها النحويون وإنما المسوغ كونه دعاء وفائدة العدول إلى الرفع ما ذكره".
و "يَوْمئذٍ" ظرف للويل.
وجوز أبو البقاء: أن يكون صفة للويلِ، وللمكذبين خبره.
فصل في تفسير الآية
قال القرطبي: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي: عذاب وخِزْي لمن كذب بالله تعالى وبرسله، وعلى تقدير تكذيبهم؛ فإنَّ لكل مكذب بشيء سوى تكذيبه بشيء آخر، وربّ شيء كذب به وهو أعظم جرماً من تكذيبه بغيره؛ لأنه أقبح في تكذيبه، وأعظم في الرد على الله تعالى، فإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك، وهو قوله:
{ { جَزَآءً وِفَاقاً } [النبأ: 26].
وقيل: كرره لمعنى تكرار التخويف والوعيد.
وروي عن النعمان بن بشير قال: "ويْلٌ" واد في جهنم فيه ألوان العذاب، قاله ابن عباس وغيره.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"عُرِضتْ عليَّ جَهنَّمُ فَلمْ أرَ فيهَا وَادِياً أعْظمَ منَ الوَيْلِ" .
وروي أيضاً أنه مجمع ما يسيل من قيحِ أهل النار وصديدهم، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض، وقد علم العباد في الدنيا أن شرّ المواضع في الدنيا ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغسلات من الجيف وماء الحمَّامات، فذكر أن ذلك الوادي مستنقع صديد أهل النَّار والشرك ليعلم العاقل أنه لا شيء أقذرُ منه قذارةً، ولا أنتنُ منه نتناً.
قوله تعالى: { أَلَمْ نُهْلِكِ ٱلأَوَّلِينَ }. العامة: على ضم حرف المضارعة، من "أهْلَكَ" رباعيًّا، وقتادة: بفتحه.
قال الزمخشري: من هلكه بمعنى "أهلكه"؛ قال العجاج: [الرجز]

5056- ومَهْمَــهٍ هَـالــكُ مَــنْ تَعــرَّجَــا

فـ "من" معمول الهالك، وهو من "هلك"، إلاَّ أن بعض النَّاس جعل هذا دليلاً على إعمال الصِّفة المشبهة في الموصول، وجعلها من اللازم؛ لأن شرط الصفة المشبهة أن تكون من فعل لازم، فعلى هذا دليل فيه.
قوله: { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ٱلآخِرِينَ }.
العامة: على رفع العين استئنافاً أي: ثم نحن نتبعهم، كذا قدره أبو البقاء.
وقال: "وليس بمعطوف، لأن العطف يوجب أن يكون المعنى: أهلكنا الأولين، ثمَّ أتبعناهم الآخرين في الهلاك، وليس كذلك؛ لأن هلاك الآخرين لم يقع بعد".
قال شهاب الدين: ولا حاجة في وجه الاستئناف إلى تقدير مبتدأ قبل الفعل، بل يجعل الفعل معطوفاً على مجموع الجملة من قوله: "ألَمْ نُهْلكِ"، ويدل على هذا الاستئناف قراءة عبد الله: "ثم سَنُتْبِعهُم الآخرين" بسين التنفيس، وقرأ الأعرج والعباس عن أبي عمرو: بتسكينها، وفيها وجهان:
أحدهما: أنه تسكين للمرفوع، فهو مستأنف كالمرفوع لفظاً.
والثاني: أنه معطوف على مجزوم، والمعني بالآخرين حينئذ قوم شعيب ولوط وموسى، وبالأولين قوم نوح وعاد وثمود.
قال ابن الخطيب: وهذا القول ضعيف؛ لأن قوله تعالى: { نُتْبِعُهُمُ } مضارع، وهو للحال والاستقبال، ولا يتناول الماضي، وإنما المراد بالأولين: جميع الكفار الذين كانوا في عهد محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ٱلآخِرِينَ } على الاستئناف، أي: سنفعل ذلك، ونتبع الأول الآخر، ويدل على الاستئناف قراءة عبد الله في نتبعهم تدل على الاشتراك، وحينئذ يكون المراد به الماضي لا المستقبل.
قلنا: لو كان المراد هو الماضي لوقع التنافي بين القراءتين، وهو غير جائز، فعلمنا أن تسكين العين ليس للجزم، بل للتخفيف.
قوله: { كَذَلِكَ نَفْعَلُ } أي: مثل ذلك الفعل الشَّنيع نفعل بكل من أجرم.
فصل في المراد بالآية
المقصوُد من هذه الآية تخويف الكفار وتحذيرهم من الكفر، أخبر عن إهلاك الكفار من الأمم الماضين من لدُن آدم -عليه الصلاة والسلام - إلى محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - { ثُمَّ نُتْبِعهُمُ الآخرين } أي: نُلحق الآخرين بالأولين، { كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ } أي: مثل ما فعلنا بمن تقدم بمشركي قريش إما بالسيف وإما بالهلاك، ثم قال تعالى: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } كأنه تعالى يقول: أما الدنيا: فحاصلهم الهلاك، وأما الآخرة فالعذاب الشديد، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
{ { خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } [الحج: 11] فإن قيل: المراد من قوله: { أَلَمْ نُهْلِكِ ٱلأَوَّلِينَ } وهو مطلق الإماتة، والإماتة بالعذاب فإن كان مطلق الإماتة لم يكن ذلك تخويفاً للكفار؛ لأن ذلك معلوم حاصل للمؤمن والكافر، فلا يكون تخويفاً للكفار، وإن كانت الإماتة بالعذاب فقوله تعالى: { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ٱلآخِرِينَ } { كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ } يقتضي أن يكون فعل بكفَّار قريش مثل هذا، ومعلوم أن ذلك لم يوجد، وأيضاً فقد قال تعالى: { { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [الأنفال: 33].
فالجواب: قال ابن الخطيب: لم لا يجوز أن يكون المراد من الإهلاك معنى ثالث، وهو الإماتة للذمِّ واللَّعن، فكأنه قيل: أولئك المتقدمون لحرصهم على الدنيا عادوا الأنبياء وخاصموهم، ثم ماتوا ففاتتهم الدنيا، وبقي اللَّعْن عليهم في الدنيا والعقوبة في الاخرة دائماً سرمداً، فهكذا يكون حال الكفار الموجودين، وهذا من أعظم وجوه الزجر.