التفاسير

< >
عرض

وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً
١
فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً
٢
وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً
٣
فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً
٤
فَٱلْمُلْقِيَٰتِ ذِكْراً
٥
عُذْراً أَوْ نُذْراً
٦
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٌ
٧
-المرسلات

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } في "عرفاً" ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مفعول من أجله، أي: لأجل العرف، وهو ضد النُّكْر، فإن الملائكة إن كانوا بعثُوا للرحمة، فالمعنى فيه ظاهر، وإن كانوا بعثوا للعذاب فذلك العذاب وإن لم يكن معروفاً للكفار فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين، والمراد بالمرسلات، إما الملائكة، وإما الأنبياء، وإما الرياح، أي: والملائكة المرسلات، أو والأنبياء المرسلات، أو والرياح المرسلات. و "العرف" المعروف، والإحسان، قال: [البسيط]

5054- مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ لا يَعْدمْ جَوازِيَهُ لا يَذهبُ العُرْفُ بيْنَ اللهِ والنَّاسِ

وقد يقال: كيف جمع صفة المذكر العاقل بالألف والتاء، وحقه أن يجمع بالواو والنون, نقول: الأنبياء المرسلون, ولا نقول: المرسلات؟.
والجواب: أن المرسلات جمع مرسلة, ومرسلة: صفة لجماعة من الأنبياء، والمرسلات: جمع مرسلة الواقعة صفة لجماعة، لا جمع مرسل مفرد.
والثاني: أن ينتصب على الحال بمعنى متتابعة، من قولهم: جاءوا كعرف الفرس، وهم على فلان كعرف الضبع، إذا تألبُّوا عليه.
قال ابن الخطيب: يكون مصدراً، كأنه قيل: والمرسلات إرسالاً، أي متتابعة.
الثالث: أن ينتصب على إسقاط الخافض، أي: المرسلات بالعرف، وفيه ضعف، وقد تقدم الكلام على العرف في الأعراف.
والعامة: على تسكين رائه، وعيسى: بضمها، وهو على تثقيل المخفف، نحو: "بكّر" في "بكَر"، ويحتمل أن يكون هو الأصل، والمشهور مخففة منه، ويحتمل أن يكونا وزنين مستقلين.
فصل في المراد بالمرسلات
جمهور المفسرين على أن "المرسلات" هي الرياح.
وروى مسروق عن عبد الله قال: هي الملائكة أرسلت بالعرف من أمر الله ونهيه والخبر والوحي، وهو قول أبي هريرة ومقاتل وأبي صالح والكلبي.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم الأنبياء أرسلوا بلا إله إلا الله.
وقال أبو صالحٍ: الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات.
وعن ابن عباس وابن مسعود: أنها الرياح، كما قال تعالى:
{ { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ } [الحجر: 22]، وقال تعالى: { { وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ } [الأعراف: 57]، ومعنى "عُرْفاً" أي: يتبع بعضها بعضاً كعرف الفرس، وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالمرسلات: السحاب لما فيها من نعمة ونقمة عارفة بما أرسلت إليه ومن أرسلت إليه.
وقيل: إنها الزَّواجر والمواعظ، و "عُرْفاً" على هذا التأويل: متتابعات كعرف الفرس، قاله ابن عبَّاس.
وقيل: جاريات، قاله الحسن، يعني في القلوب.
وقيل: معروفات في العقول.
قوله تعالى: { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً }. هذا المصدر مؤكد لاسم الفاعل.
والمراد بالعَاصفاتِ: الرياح. قاله المهدوي.
وقال ابن عباسٍ: هي الرياح العواصف تأتي بالعصف، وهو ورق الزرع وحطامه.
وقال: العاصفات الملائكة شبهت بسرعة جريها في أمر الله - تعالى - بالرياح، وكذلك "نَشْراً، وفَرْقاً" انتصابهما على المصدر.
وقيل: الملائكة تعصف برُوح الكَافرِ، يقال: عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه، وناقة عصوف، أي تعصف براكبها فتمضي كأنها ريحٌ في السرعة، وعصفت الحرب بالقوم، أي: ذهبت بهم.
وقيل: يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخوف.
قوله تعالى: { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً }. هي الملائكة المُوكَّلُون بالسحاب ينشرونها.
وقال ابن مسعود ومجاهد: هي الرياح يرسلها الله تعالى نشراً بين يدي رحمته ينشر السحاب للغيث، وهو مروي عن أبي صالح.
وعنه أيضاً: هي الأمطار لأنها تنشر النبات، فالنَّشر بمعنى الإحياء، يقال: نشر الله الميت وأنشره، بمعنى أحياهُ، قال تعالى:
{ { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [عبس: 22].
وروي عن السديِّ: أنها الملائكة تنشر كتب الله تعالى، وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يريد ما ينشر من الكتب، وأعمال بني آدم، وروى الضحاك: أنها الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد.
وقال الربيع: إنه البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح.
وقال تعالى: { وٱلنَّاشِرَاتِ } - بالواو - لأنه استئنافُ قسم آخر.
قوله: { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً }: هي الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل. قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وأبو صالح.
وروى الضحاك عن ابن عباس، قال: ما تفرق الملائكة من الأقوات والأرزاق والآجال، وروى أنس عن مجاهد قال: "الفارقات" الرياح تفرق بين السحاب وتبدده.
وروى سعيد عن قتادة قال: { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً }، الفرقان فرق الله بين الحق والباطل والحلال والحرام، وهو قول الحسن وابن كيسان.
وقيل: هم الرسل فرقوا بين ما أمر الله - تعالى - به، ونهى عنه؛ أي بينوا ذلك.
وقيل: السحابات الماطرة تشبيهاً بالنَّاقة الفارقة، وهي الحامل التي تخرج وتندّ في الأرض حين تضع، ونوق فوارق وفُرَّق.
قوله تعالى: { فَٱلْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً }. هي الملائكة، أي: تلقي كتب الله إلى الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - قاله المهدوي.
وقيل: هو جبريل - عليه الصلاة والسلام - وسمي باسم الجمع تعظيماً لأنه كان ينزل بها وقيل: المراد الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل عليهم. قاله قطرب.
وقوله تعالى: { ذِكْراً } مفعول به, ناصبه "المُلْقِيَاتِ".
وقرأ العامة: "فالملقيات" - بسكون اللام وتخفيف القاف - اسم فاعل.
وقرأ ابن عباس: بفتح اللام وتشديد القاف، اسم مفعول من التلقية، وهي إيصال الكلام إلى المخاطب. وروى عنه المهدوي أيضاً: فتح القاف، أي: يلقيه من قِبَل الله تعالى، كقوله تعالى:
{ { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلْقُرْآنَ } [النمل: 6].
قوله: { عُذْراً أَوْ نُذْراً }. فيهما أوجه:
أحدها: أنهما بدلان من "ذِكْراً".
الثاني: أنهما منصوبان به على المفعولية، وإعمال المصدر المنون جائز، ومنه
{ { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [البلد: 14، 15].
الثالث: أنهما مفعولان من أجلهما، والعامل فيهما، إما "المُلقيَات"، وإما "ذِكراً"؛ لأن كُلاًّ منهما يصلح أن يكون معلولاً بأحدهما.
وحينئذ يجوز في "عُذْراً"، ونذراً" وجهان:
أحدهما: أن يكونا مصدرين - بسكون العين - كالشُّكْر والكُفْر.
والثاني: أن يكونا جمع عذير، ونذير، المراد بهما المصدر، بمعنى الإعذار والإنذار، كالنكير بمعنى الإنكار.
الثالث: أنهما منصوبان على الحال من "الملقيات" أو من الضمير فيها، وحينئذ يجوز أن يكونا مصدرين واقعين موقع الحال، بالتأويل المعروف في أمثاله، وأن يكونا جمع "عذير ونذير" مراداً بهما المصدر، أو مراداً بهما اسم الفاعل بمعنى المعذر والمنذر، أي: معذرين، أو منذرين.
وقرأ العامة: بسكون الذَّال من { عُذْراً أَوْ نُذْراً }.
وقرأ زيد بن ثابت، وابن خارجة، وطلح: بضمها.
والحرميَّان، وابن عامر، وأبو بكر، بسكونها في "عُذْراًَ" وضمها في "نُذْراً"، والسكون والضم - كما تقدم - في أنه يجوز أن يكون كل منهما أصلاً للآخر، وأن يكونا أصلين، ويجوز في كل من المثقّل والمخفّف أن يكون مصدراً، وأن يكون جمعاً سكنت عينه تخفيفاً.
وقرأ إبراهيم التيمي: "عُذْراً ونُذْراً" بواو العطف موضع "أو"، وهي تدل على أن "أو" بمعنى الواو.
فصل في معنى الآية
والمعنى: يلقي الوحي إعذاراً من الله تعالى وإنذاراً إلى خلقه من عذابه. قاله الفراء.
وروي عن أبي صالحٍ قال: يعني الرسل يعذرون وينذرون.
وروى سعيد عن قتادة: "عُذْراً" قال: عذراً لله - تعالى - إلى خلقه، ونذراً للمؤمنين ينتفعون به ويأخذون به، وروى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "عُذْراً" أي: ما يقبله الله - تعالى - من معاذير أوليائه، وهي التوبة "أو نُذْراً" ينذر أعداءه.
فصل في المراد بهذه الكلمات الخمس
قال ابن الخطيب: اعلم أن هذه الكلمات الخمس، إما أن يكون المراد منها جنساً واحداً، أو أجناساً مختلفة، فالأول فيه وجوه:
أحدها: أن المراد بها الملائكة والمرسلات هي الملائكة الذين أرسلهم الله - تعالى - إما لإيصال النِّعمة إلى قوم أو لإيصال النقمة إلى آخرين، وقوله تعالى: "عُرْفاً" إما أن يكون العُرْف هو الذي ضد النُّكر، فإن كانوا الملائكة المبعوثين للرحمة، فالمعنى فيهم ظاهر وإن بعثوا للعذاب فذلك العذاب وإن لم يكن معروفاً للكفَّار فإنه معروف للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - والمؤمنين، أو يكون العرف التَّتابع، وقوله تعالى: { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } فمعناه أن الملائكة عصفوا في طيرانهم كعصف الرياح، أو يعصفون بروح الكافرِ، يقال: عصف بالشيء إذا أباده، وقوله تعالى: { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } أي: أنهم نشروا أجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض، أو نشروا الرحمة والعذاب، أو المراد الملائكة الذي ينشرون الكتب التي فيها أعمال بني آدم يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً، وقوله تعالى: { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } أي: أنهم يفرقون بين الحق والباطل، وقوله: { فَٱلْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً } أي أنهم يلقون الذِّكرَ إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والمراد بالذكر إما العلم والحكمة أو القرآن، لقوله تعالى:
{ { أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } [القمر: 25]، وهذا المُلْقي وإن كان جبريل وحده إلا أنه سمِّي باسم الجمع تعظيماً له.
واعلم أن الملائكة أقسام: قسمٌ يرسل لإنزال الوحي على الأنبياء، وقسمٌ يرسل لكتابة اعمل بني آدم، وقسم يرسل لقبض الأرواح، وقسم يرسل بالوحي من سماءٍ إلى سماءٍ.
الوجه الثاني: أن المراد بهذه الكلمات الخمس: الرياح، أقسم الله - تعالى - بالرياح عند إرسالها عُرْفاً، أي: متتابعة، كشعر العرف، ثم إنها تشتدّ حتى تصير عواصف ورياح رحمة تنشر السحاب في الجو، قال الله تعالى:
{ { يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [الأعراف: 57]، وهو المراد بقوله تعالى: { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } أي: أنها تنشر السحاب، أو أنها تلقح الأشجار والنبات، فتكون ناشرة، وقوله تعالى: { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } أي: أنها تفرق بين أجزاء السحاب، أو أنها تخرب بعض القرى، وذلك يصير سبباً لظهور الفرق بين أولياء الله وأعدائه، أو أنها عند هبوبها تفرّق الخلق فمن مقرّ خاضع، ومن منكر جاحد.
وقوله تعالى: { فَٱلْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً } أي: أن العاقل إذا شاهد هبوب تلك الرياح التي تقلع القِلاَع وتهدم الصخور والجبال، وترفع أمواج البحار تمسَّك بذكر الله - تعالى - والتجأ إلى إعانة الله - تعالى - فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذِّكر والإيمان والعبودية في القلب.
الوجه الثالث: قال ابن الخطيب: من الناس من حمل بعض هذه الكلمات الخمس على القرآن، وعندي أنه يمكن حمل جميعها على القرآن، فقوله تعالى: { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } المراد منه الآيات المتتابعة المرسلة على لسان جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: { عُرْفاً } أي هذه الآيات نزلت بكل عرف وخير، كيف لا وهي الهادية إلى سبيل النجاة الموصلة إلى مجامع الخيرات، والمراد بـ "العاصفات عصفاً" أن دولة الإسلام والقرآن إن كانت ضعيفةً في أولها، ثم عظُمت وقهرت سائر الملل والأديان، فكأن دولة القرآن عصفت سائر الدُّول والملل والأديان وقهرتها، وجعلتها باطلة دائرة.
والمراد بـ "النَّاشِرات نَشْراً"، أن آيات القرآن نشرت الحِكَم والهداية في قلوب العالمين شرقاً وغرباً.
والمراد بـ "الفارقات فرقاً" أن آيات القرآن نشرت الحِكَم والهداية في قلوب العالمين شرقاً وغرباً.
والمراد بـ "الفارقات فرقاً" أن آيات القرآن فرَّقت بين الحقِّ والباطل، ولذلك سمِّي القرآن فرقاناً، والمراد بـ "الملقيات ذكراً" أن القرآن ذكر، قال تعالى:
{ { صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ } [ص: 1] { { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [الزخرف: 44] { { وَهَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [الأنبياء: 50] { { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } [الحاقة: 48].
الوجه الرابع: قاله ابن الخطيب: ويمكن حملها أيضاً على بعثة الرُّسل، فالمراد بـ "المرسلات عرفاً" هم المُرسَلُون بالوَحْي المشتمل على كُلِّ خير ومعروف، { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } أن كل أمر لكل رسول يكون في أول أمره حقيراً ضعيفاً، ثم يشتدّ ويعظم ويصير في القوة كعصف الرياح { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } انتشار دينهم، { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } أنهم يفرقون بين الحق والباطل، { فَٱلْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً } أنهم يأمرونهم بالذكر ويحثُّونهم عليه.
الاحتمال الثاني: وهو ألاَّ يكون المراد من هذه الكلمات الخمس شيئاً واحداً، وفيه وجوه:
أحدها: قال الزجاج، واختاره القاضي: أن الثلاثة الأول هي الرياح، فقوله تعالى: { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } هي الرياح التي تتصل على العرف المعتاد، والعاصفات: ما اشتدّ عنها، والنَّاشرات: ما ينشر السحاب، وقوله تعالى: { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } هم الملائكة الذي يُفرِّقُون بين الحقِّ والباطل والحلال والحرام بما يتحمَّلونه من القرآن والوحي، وكذا قوله: { فَٱلْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً } أنها الملائكة المتحمِّلون للذِّكر الذي يلقونه إلى الرسل.
فإن قيل: ما المجانسة بين الريح وبين الملائكة حتى جمع بينهما في القسمِ؟.
قلت: الملائكة روحانيّون فهم سبب طاقاتهم وسرعة حركاتهم كالرياح.
وثانيها: أن الآيتين الأوليين هما الرياح، والثلاثة الباقية منهم الملائكة؛ لأنها تنشر الوحي والدين، ثم لذلك الوحي أثران:
الأول: حصول الفرق بين المحق والمبطل.
والثاني: ظهر الله في القلوب والألسنة، ويؤكد هذا أنه قال: { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً }، ثم عطف الثاني على الأول بحرف الواو، فقال: "والنَّاشِرَاتِ" وعطف الاثنين الباقيين عليه بحرف الفاء، وهذا يقتضي أن يكون الأولان ممتازين عن الثلاثة الأخيرة.
قال ابن الخطيب: ويمكن أن يكون المراد بالأولين الملائمكة، فقوله تعالى: { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } ملائكة الرَّحمة، وقوله تعالى: { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } ملائكة العذاب، والثلاثة الباقية آيات القرآن؛ لأنها تنشر الحق في القلوب والأرواح، وتفرّق بين الحق والباطل، وتلقي الذكر في القلوب والألسنة.
فصل في وجه دخول الفاء والواو في جواب القسم
قال القفالُ: الوجه في دخول الفاء في بعض ما وقع به القسم، والواو في بعض مبنيّ على أصل، وهو أن عند أهل اللغة أن الفاء تقتضي الوصل والتعلُّق، فإذا قيل: قام زيد فذهب، فالمعنى: أنه قام ليذهب، فكان قيامه سبباً لذهابه ومتصلاً به، فإذا قيل: قام وذهب، فهما خبران، وكل واحد منهما قائم بنفسه، لا يتعلق بالآخر. ثم إن القفالرحمه الله لما مهد هذا الأصل، فرع عليه الكلام في هذه الآية بوجوه.
قال ابن الخطيب: وتلك الوجوه لا يميل القلب إليها، وأنا أنوع على هذا الأصل فأقول: أما من جعل الأولين صفة لشيءٍ، والثلاثة الأخيرة صفاتٍ لشيء واحدٍ، فنقول: إن حملناها على الملائكة فالملائكة إذا أرسلت طارت سريعاً، وذلك الطيران هو العصف، فالعصف مرتب على الإرسال، فإن الملائكة أول ما يلقون الوحي إلا الرُّسل لا يصير في الحال ذلك الدين مشهوراً منتشراً، بل الخلق يردون الأنبياء في أول الأمر فيكذبونهم وينسبونهم إلى السحر والجنون، فلا جرم أن يذكر الفاء التي تفيد التعقيب، بل ذكر الواو، وإذا حصل النشر ترتب عليه حصول الفرق بين الحق والباطل وظهور ذلك الحق على الألسنة فلا جرم ذكر هذين الأمرين بحرف الفاء، فكأنه - والله أعلم - قال: يا محمد، أنا أرسلت إليك الملك بالوحي الذي هو عنوان كل سعادة وخير، ولكن لا تطمع في أن ينتشر ذلك الأمر في الحال، ولكن لا بد من الصَّبر وتحمل المشقة، ثم إذا جاء وقت النصرة اجعل دينك ظاهراً منتشراً في شرق العالم وغربه، وعند ذلك الانتشار يظهر الفرق، فتصير الأديان باطلة، ضعيفة، ساقطة، ودينك الحق ظاهراً عالياً، وهنالك يظهر ذكر الله على الألسنة، وفي المحاريب وعلى المنابر، ومن عرف هذا الوجه أمكنه ذكر مناسبة سائر الوجوه.
قوله: { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ }. هذا جوابُ القسم، وقوله: "والمُرسَلاتِ" وما بعده معطوف عليه، وليس قسماً مستقلاً، لما تقدم في أول الكتاب، لوقوع الفاء هنا عاطفة؛ لأنها لا تكون للقسم، و "ما" موصولة بمعنى "الذي" هي اسم إن و "تُوعَدُون" صلتها، والعائد محذوف، أي إن الذي توعدونه، و "لواقع" خبرها، وكان من حق "إن" أن تكون منفصلة عن "ما" الموصولة، ولكنهم كتبوها متصلة بها.
فصل في الموعود به
إنما توعدون من أمر القيامة لواقع بكم ونازل عليكم ثم لذكره علامات القيامة بعده.
وقال الكلبي: المراد أن كل ما توعدون به من الخير والشَّر لواقع بكم.