التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ
٢٠
فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ
٢١
إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ
٢٢
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ
٢٣
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
٢٤
-المرسلات

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ }. أي: ضعيف حقير وهو النُّطفة، وهذا نوع آخر من تخويف الكفار، وهو من وجهين:
الأول: أنه - تعالى - ذكرهم عظيم إنعامه عليهم، وكلما كانت نعمه عليهم أكثر كانت جنايتهم في حقه أقبح وأفحش، فيكون العقاب أعظم، فلهذا قال جل ذكره عقيب هذه الأنعام: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }.
والثاني: أنه تعالى ذكرهم كونه تعالى قادراً على الابتداء، والظاهر في العقل أن القادر على الابتداء قادر على الإعادة، فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة، لا جرم قال في حقهم: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }، وهذه الآية نظير قوله تعالى:
{ { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [السجدة: 8].
{ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ }، أي: مكان حريز وهو الرَّحم.
{ إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ }، قال مجاهد: إلى أن نصوره، وقيل: إلى وقت الولادة، كقوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } [لقمان: 34] إلى قوله: { { وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلأَرْحَامِ } [لقمان: 34].
قوله تعالى: { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ }، قرأ نافع والكسائي: بالتشديد من التقدير، وهو موافق لقوله تعالى:
{ { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } [عبس: 19].
والباقون: بالتخفيف، من القدرة، ويدل عليه { فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ }.
ويجوزُ أن يكون المعنى على القراءة الأولى: فنعم القادرون على تقديره: وإن جعلت "القادرون" بمعنى "المقدرون" كان جمعاً بين اللَّفظين، ومعناهما واحد، ومنه قوله تعالى:
{ { فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [الطارق: 17]؛ وقول الأعشى: [البسيط]

5057- وأنْكرَتْنِي وقَدْ كَانَ الَّذِي نَكرَتْ مِنَ الحَوادثِ إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلْعَا

وقال الكسائي والفراء: هما لغتان بمعنى.
قال القتيبي: "قَدَرْنَا" بمعنى "قَدَّرْنَا" مشددة، كما تقول: قدرت كذا وقدرته ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الهلال:
"إذَا غُمَّ عَليْكُمْ فاقْدُرُوا لَهُ" أي: قدروا له المسير والمنازل.
وقال محمد بن الجهم عن الفرَّاء: أنه ذكر تشديدها عن علي - رضي الله عنه - وتخفيفها.
قال: ولا يبعُد أن يكون المعنى في التشديد والتخفيف واحداً، لأن العرب تقول: قدر عليه الموت وقدر، قال تعالى:
{ { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } [الواقعة: 60] قرئ بالتخفيف والتشديد، وقدر عليه رزقه وقدر، واحتج الذين خففوا فقالوا: لو كانت كذلك لكانت "فنِعْمَ المُقدِّرُونَ".
قال الفراء: والعرب تجمع بين اللُّغتين، واستدل بقوله:
{ { فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ } الآية، [الطارق: 17] وذكر بيت الأعشى المتقدم.
وقيل: المعنى قدَّرنا قصيراً وطويلاً، ونحوه عن ابن عبَّاس: قدرنا ملكنا.
قال المهدوي: وهذا التفسير أشبه بقراءة التخفيف.