التفاسير

< >
عرض

إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً
٢١
لِّلطَّاغِينَ مَآباً
٢٢
لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً
٢٣
لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً
٢٤
إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً
٢٥
جَزَآءً وِفَاقاً
٢٦
إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً
٢٧
وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً
٢٨
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً
٢٩
فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً
٣٠
-النبأ

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } "مِفْعَالاً" من الرصد، والرصد: كل شيء كان أمامك.
قرأ ابن يعمر وابن عمر والمنقري: "أنَّ جَهنَّمَ" بفتح "أن".
قال الزمخشريُّ: على تعليل قيام الساعة، بأن جهنم كانت مرصاداً للطَّاغين، كأنَّه قيل: كان ذلك لإقامة الجزاء، يعني: أنه علَّة لقوله تعالى: { يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ } إلى آخره.
قال القفال: في المرصاد قولان:
أحدهما: أنَّ المرصاد اسم للمكان الذي يرصد فيه، كالمضمارِ اسم للمكان الذي يضمر فيه الخيل، والمِنْهَاج: اسم للمكان الذي ينهج فيه، أي: جهنم معدَّة لهم فالمرصاد بمعنى المحل، وعلى هذا فيه احتمالان:
الأول: أنَّ خزنة جهنم يرصدون الكفَّار.
والثاني: أن مجاز المؤمنين، وممرهم على جهنم، لقوله تعالى:
{ { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [مريم: 71]، فخزنة الجنة يَسْتقبلُونَ المؤمنين عند جهنم، ويرصدونهم عندها.
القول الثاني: أنَّ "المِرصَاد"مِفْعَال" من الرصد، وهو "الترقب" بمعنى أنَّ ذلك يكثر منه، و "المِفْعَالُ" من أبنية المبالغة كـ "المِعطَاء، والمِعْمَار، والمِطْعَان".
قيل: إنَّها ترصد أعداءَ اللهِ، وتشتد عليهم لقوله تعالى: تكاد تميَّزُ من الغيظ.
وقيل: ترصدُ كُلَّ منافقٍ وكافرٍ.
فصل
دلت الآية على أنَّ جهنم كانت مخلوقة لقوله تعالى أن جهنم كانت مرصاداً وإذا كانت كذلك كانت الجنة لعدم الفارق.
قوله: { لِّلطَّاغِينَ } يجوز أن يكون صفة لـ "مِرْصَاداً"، وأن يكون حالاً من "مآباً" كان صفته فلما تقدَّم نصبَ على الحال، وعلى هذين الوجهين يتعلق بمحذوف، ويجوز أن يكون متعلقاً بنفس "مِرْصَاداً"، أو بنفس "مآباً"؛ لإنه بمعنى مرجع.
قال ابن الخطيب: إن قيل بأن: "مِرصَاداً" للكافرين فقط، كان قوله: "للطَّاغين" من تمام ما قبله، والتقدير: كانت مرصاداً للطَّاغين، ثم قوله: "مآباً" بدل قوله: "مرصاداً"، وإن قيل: إنَّ مرصاداً مطلقاً للكفَّار والمؤمنين كان قوله تعالى: { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } كلاماً تاماً وقوله تعالى: { لِّلطَّاغِينَ مَآباً } كلاماً مبتدأ، كأنه قيل: إنَّ جهنَّم كانت مرصاداً للكل، و "مآباً" للطَّاغين خاصَّة، فمن ذهب إلى القول الأول لم يقف على قوله: "مرصاداً" ومن ذهب إلى القول الثاني وقف عليه.
قال القرطبيُّ: "للطَّاغِينَ مآباً" بدلٌ من قوله: "مِرصَاداً"، والمَآبُ" المرجع، أي: مرجعاً يرجعون إليه، يقال: آب يثوب أوْبَة: إذا رجع.
وقال قتادة: مأوى ومنزلاً، والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر ودنياه بالظلم.
قوله: { لاَّبِثِينَ }. منصوب على الحال من الضمير المستتر في "للطاغين"، وفي حال مقدرة.
وقرأ حمزة: "لبثين" دون ألف.
والباقون: "لابثين" بألف.
وضعف مكي قراءة حمزة، قال: ومن قرأ: "لبثين" شبهه بما هو خلقة في الإنسان نحو حِذْر وفِرْق، وهو بعيد؛ لأن اللبث ليس مما يكون خلقة في الإنسان وباب فعل إنما يكون لما هو خلقة في الإنسان. وليس اللبس بخلقة.
ورجَّح الزمخشري قراءة حمزة، فقال: "قرأ: لابثين "ولبثين" واللبث أقوى؛ لأن اللاَّبث يقال لمن وجد منه اللبث، ولا يقال: لبث إلا لمن شأنه اللبث، كالذي يجثم بالمكان لا يكاد ينفكّ منه".
وما قاله الزمخشري أصوب.
وأمَّا قولُ مكيٍّ: اللبث ليس بخلقة، فمسلم لكنه بولغ في ذلك، فجعلَ بمنزلة الأشياء المختلفة.
و "لابثين" اسم فاعل من "لبث"، ويقويه أنَّ المصدر منه "اللّبث" - بالإسكان - كـ "الشرب". قوله: "أحْقَاباً" منصوب على الظرف، وناصبه "لاَبِثيْنَ"، هذا هو المشهور، وقيل: منصوب بقوله: "لا يذوقون"، وهذا عند من يرى تقدم معمول ما بعد "لا" عليها وهو أحد الأوجه، وقد مر هذا مستوفًى في أواخر الفاتحة وجوَّز الزمخشري أن ينتصب على الحال. قال: "وفيه وجه آخر: وهو أن يكون من: حَقِبَ عامنا إذا قلَّ مطرهُ وخيرهُ، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق، فهو حقبٌ وجمعه: "أحْقَاب"، فينتصب حالاً عنهم، بمعنى: لابثين فيها بحقبين جحدين". وتقدم الكلام على الحقب في سورة "الكهف".
قال القرطبي: و "الحِقْبَةُ" - بالكسر-: السَّنة، والجمع حِقَب؛ قال متممُ بنُ نويرةَ: [الطويل]

5075- وكُنَّا كَنَدْمَانَي جَذيمَةَ حِقْبَةً مِنَ الدَّهْرِ حتَّى قيلَ: لَنْ يتصدَّعا

والحُقْبُ - بالضم والسكون -: ثمانون سنة.
وقيل: أكثر من ذلك وأقل، والجمع: "أحْقَاب".
قال الفراءُ: أصل الحقبة من الترادُف والتتابُع، يقال: "أحْقَبَ": إذا أردف، ومنه الحقبة، ومنه كل من حمل وزراً فقد احتقب، فعلى هذا معناه: لابثين فيها أحقاباً، أي: دُهوْراً مُترادِفَةً يتبع بعضهم بعضاً.
فصل في تحرير معنى الآية
المعنى: ماكثين في النَّار ما دامت الأحقاب، وهي لا تنقطع، فكُلَّما مضى حُقبٌ جاء حُقبٌ، و "الحُقُبُ" -بضمتين-: الدَّهْرُ: والأحقابُ، الدهور، والمعنى: لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها، فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليها، إذ في الكلام ذكر الآخرة، كما يقال: أيَّامُ الآخرة، أي: أيام بعد أيام إلى غير نهاية، أي: لابثين فيها أزماناً ودهوراً، كُلَّما مضى زمنٌ يعقبهُ زمنٌ، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبداً من غير انقطاع، فكأنه قال: أبداً، وإنَّما كان يدل على التوقيت لو قال: خمسة أحقاب، أو عشرة ونحوه، وذكر الأحقاب؛ لأن الحقب كان أبعد شيء عندهم، فذكر ما يفهمونه، وهو كناية عن التأبيد، أي: يمكثون فيها أبداً.
وقيل: ذكر الأحقاب دون الأيام؛ لأن الأحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود، وهذا الخلود في حق المشركين، ويمكن حمله على العصاة الذين يخرجونَ من النار بعد العذاب.
وقيل: الأحقاب وقت شربهم الحميم والغسَّاق، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العذاب، ولهذا قال تعالى: { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } أي: في الأرض لتقدم ذكرها ويكون { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً } جهنم.
قوله: { لاَّ يَذُوقُونَ }. فيه أوجه:
أحدها: أنه مستأنف، أخبر عنهم بذلك.
الثاني: أنه حال من الضمير في "لابِثيْنَ" غير ذائقين، فهي حال متداخلة.
الثالث: أنه صفة لـ "أحْقَاب".
قال مكي: واحتمل الضمير؛ لأنه فعل فلم يجب إظهاره كأن قد جرى صفة على غير من هو له، وإنَّما جاز أن يكون نعتاً لـ "أحْقَاب" لأجل الضمير العائد على "الأحقاب" في "فيها"، ولو كان في موضع "يَذُوقُونَ" اسم فاعل لكان لا بُدَّ من إظهار الضمير إذا جعلته وصفاً لـ "أحقاب".
الرابع: أنه تفسير لقوله تعالى: { أَحْقَاباً } إذا جعلته منصوباً على الحال بالتأويل المتقدم عن الزمخشري، فإنه قال: "وقوله تعالى: { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً }. تفسير له".
الخامس: أنه حال أخرى من "للطاغين" كـ "لابثين".
فصل في معنى هذا البرد
قال أبو عبيدة: البَرْدُ: النومُ؛ قال الشاعر: [الطويل]

5076- فَلوْ شِئْتُ حَرَّمتُ النِّساءَ سِواكُمُ وإنْ شِئْتُ لَمْ أطْعَمْ نِعَاجاً ولا بَرْدَا

وهو قول مجاهد والسديِّ والكسائيِّ والفضل بن خالدٍ وأبي معاذٍ النحويِّ.
والعرب تقول: منع البَرْدُ البَرْدَ، يعني: أذهب النوم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: البرد برد الشراب.
وعنه - أيضاً - البرد: النَِّوم، والشراب: الماء.
قال الزجاج: لا يذوقُونَ فيها بَرْدَ ريحٍ، ولا بَرْدَ نومٍ, ولا بَرْدَ ظلٍّ. فجعل البرد كل شيء له رائحة.
وقال الحسن وعطاء وابن زيد: بَرداً: أي روحاً ورائحة.
قوله: { إِلاَّ حَمِيماً }. يجوز أن يكون استثناء متَّصلاً من قوله: "شراباً"، ويجوز أن يكون مُنْقَطِعاً.
قال الزمخشري: "يعني لا يَذُوقُون فيها برداً، ولا روحاً ينفس عنهم حر النَّار "ولا شراباً" يسكن من عطشهم، ولكن يذوقون فيها حميماً وغسَّاقاً".
قال شهاب الدين: "ومكي لمَّا جعله منقطعاً جعل البرد عبارة عن النوم، قال: فإن جعلته النوم كان "إلا حميماً" استثناء ليس من الأول".
وإنَّما الذي حمل الزمخشري على الانقطاع مع صدق الشراب على الحميم والغسَّاق، وصفة له بقوله: "ولا شراباً يسكن من عطشهم" فبهذا القيد صار الحميمُ ليس من جنس هذا الشراب؛ وإطلاق البردِ على النوم لغة هذيل، وأنشد البيت المتقدم.
وقول العرب: منع البرد، قيل: وسمي بذلك لأنه يقطع سورة العطش، والذوق على هذين القولين مجاز، أعني: كونه روحاً ينفس عنهم الحر، وكونه النوم مجاز، وأمَّا على قوله من جعله اسماً للشراب الباردِ المستلذّ كما تقدَّم عن ابن عباس رضي الله عنهما وأنشد قول حسان رضي الله عنه: [الكامل]

5077- يَسْقُون مَنْ ورَدَ البَريصَ عَليْهِمُ بَرَدى تُصفِّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ

قال ابنُ الأثيرِ: البريص: الماء القليل، والبرصُ: الشيء القليل؛ وقال الآخر: [الطويل]

5078- أمَانيَّ مِنْ سُعْدى حِسانٌ كأنَّما سَقتْكَ بِهَا سُعْدَى عَلى ظَمَإٍ بَرْدَا

والذوق حقيقة، إلا أنه يصير فيه تكرار بقوله بعد ذلك "ولا شراباً".
الثالث: أنَّه بدلٌ من قوله: "وَلا شَراباً" وهو الأحسنُ؛ لأن الكلام غير موجب.
قال أبو عبيدة: الحَمِيمُ: الماءُ الحارّ.
وقال ابن زيد: دموع أعينهم تجمع في حياض، ثم يسقونه.
وقال النحاس: أصل الحميمِ الماءُ الحار، ومنه اشتقَّ الحمَّام، ومنه الحُمَّى ومنه ظل من يحموم، إنَّما يراد به النهاية في الحر، والغسَّاق: صديد أهل النار وقيحهم.
وقيل: الزَّمهرير، وتقدم خلاف القرَّاء في "غسَّاقاً" والكلام عليه وعلى "حَمِيم".
قال أبو معاذ: كنت أسمع مشايخنا يقولون: الغسَّاقُ: فارسية معربةٌ، يقولون للشيء الذي يتقذرونه: خاشاك.
قوله: { جَزَآءً } منصوبٌ على المصدر، وعامله إما قوله: "لا يذوقون" إلى آخره؛ لأنه من قوة جوزوا بذلك، وإمَّا محذوف، و "وَفَاقاً" نعت له على المبالغةِ، أو على حذف مضاف، أي: ذا مبالغة.
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: معناه: موافقاً لأعمالهم، فالوفاقُ بمعنى: "الموافقة" كالقتال من المقاتلة.
قال الفراء والأخفش: أي: جازيناهم جزاء وافق أعمالهم.
وقال الفراء أيضاً: هو جمع الوفقِ واللَّفقِ واحد.
وقال مقاتل: وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار.
وقال الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة فأتاهم الله بما يسوؤهم.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة: بتشديد الفاء من "وفقه كذا".
قوله تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً }. أي: لا يخافون حساباً، أي: محاسبة على أعمالهم، وقيل: لا يرجون ثواب حساب.
وقال الزجاج: إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، فيرجون حسابهم، فهو إشارة إلى أنَّهم لم يكونوا مؤمنين.
قوله تعالى: { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } قرأ العامة: "كِذَّاباً" بتشديد الذال، وكسر الكاف.
وكان من حق مصدر "فعَّل" أن يأتي على "التَّفعيل" نحو صرَّف تصريفاً.
قال الزمخشري: و "فعَّال" في باب "فعَّل" كله فاشٍ في كلام فصحاءٍ من العرب لا يقولون غيره، وسمعني بعضهم أفسر آية، فقال: لقد فسرتها فسَّاراً ما سمع بمثله.
قال غيره: وهي لغة بعض العرب يمانية؛ وأنشد: [الطويل]

5079- لَقدْ طَالَ ما ثَبَّطتَنِي عَنْ صَحابَتِي وعَنْ حَاجَةٍ قِضَّاؤها من شِفَائِيَا

يريد: تَقْضِيَتُهَا، والأصل على "التفعيل"، وإنَّما هو مثل "زكَّى تَزْكِيَةً".
وسمع بعضهم يستفتي في حجه، فقال: آلحلق أحبُّ إليك أم القصَّار؟ يريد التقصير.
قال الفراء: "هي لغة يمانية فصيحة، يقولون: كذبت كذّاباً، وخرَّقتُ القميص خِرَّاقاً، وكل فعل وزن "فعَّل" فمصدره "فِعَّال" في لغتهم مشددة".
وقرأ علي والأعمش وأبو رجاء وعيسى البصري: بالتخفيف.
وهو مصدر أيضاً، إمَّا لهذا الفعل الظاهر على حذف الزوائد، وإمَّا لفعل مقدر كـ "أنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتاً".
قال الزمخشري: "وهو مثل قوله تعالى:
{ { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [نوح: 17] يعني وكذبوا بآياتنا، فكذبوا كذاباً، أو تنصبه بـ "كذبوا"؛ لأنه يتضمن معنى "كذّبوا"، لأن كل مكذب بالحق كاذب، وإن جعلته بمعنى المكاذبة، فمعناه: وكذبوا بآياتنا، فكاذبوا مكاذبة، أو كذبوا بها مكاذبين؛ لأنَّهم كانوا عند المسلمين مكاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة، أو لأنَّهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب، فعل من يغالب فيبلغ فيه أقصى جهده".
وقال أبو الفضل: وذلك لغة "اليمن"، وذلك بأن يجعل مصدر "كذب" مخففاً "كِذَباً" بالتخفيف مثل "كَتَبَ كِتَاباً" فصار المصدر هنا من معنى الفعل دون لفظه, مثل: "أعطيته عطاءً".
قال شهابُ الدِّينِ: أمَّا "كذب كذاباً" بالتخفيف، فهو مشهور، ومنه قول الأعشى [مجزوء الكامل]

5080- فَصدَقْتُهَـــا وكَذبْتُهَـــا والمَـرْءُ يَنْفعــهُ كِذَابُــهْ

وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون: "كُذاباً" بضم الكاف وتشديد الذال، وفيها وجهان:
أحدهما: أنه جمع كاذبِ، نحو: ضراب "في" ضارب, وعلى هذا، فانتصابه على الحال المؤكدة، أي: وكذبوا في حال كونهم كاذبين. قاله أبو البقاء.
والثاني: أنَّ "الكُذَّاب" بمعنى الواحد البليغ في الكذب، يقال: رجل كذاب، كقولك: حسان، فيجعل وصفاً لمصدر كذبوا: أي تكذيباً كذباً مفرطاً كذبه. قاله الزمخشري.
قال القرطبي: وفي "الصِّحاح": وقوله تعالى: { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } وهو أحد مصار المشدد؛ لأن مصدره قد يجيء على "تَفْعِلَة" مثل "تَوصِيَة"، وعلى "مُفَعَّل" مثل:
{ { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [سبأ: 19].
قوله تعالى: { وَكُلَّ شَيْءٍ } العامة على النصب على الاشتغال، وهو الراجح، لتقدم جملة فعلية.
وقرأ أبو السمال: برفع "كُل" على الابتداء، وما بعده الخبر وهذه الجملة معترض بها بين السبب والمسبب، لأنَّ الأصل: "وكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابَا" فـ "ذوقوا" مُسَبَّبٌ عن تَكْذيبهم.
قوله: "أحْصَيْنَاهُ". فيه أوجه:
أحدها: أنه مصدر من معنى أحصينا، أي: إحصاءً، فالتجوُّز في نفس المصدر.
الثاني: أنه مصدر لـ "أحْصَيْنَا" لأنَّه في معنى: "كَتَبْنَا" فالتجوُّز في نفس الفعل.
قال الزمخشري: "لانتفاءِ الإحْصاءِ"، والكتبة في معنى الضبط، والتحصيل.
قال ابن الخطيب: وإنَّما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة؛ لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
"قَيِّدُوا العِلْمَ بالكِتَابَةِ" فكأنَّهُ تعالى قال: { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً } إحصاءً في القوة والثبات والتأكُّد، كالمكتوب، والمراد من قوله: "كِتَاباً" تأكيد ذلك الإحصاء والعلم، وهذا التأكيد إنَّما ورد على حسب ما يليق بأفهام أهل الظاهر، فإن المكتوب يقبل الزوال، وعلمُ الله - تعالى - بالأشياءِ لا يقبل الزوال؛ لأنَّه واجبٌ لذاته.
الثالث: أن يكُون منصوباً على الحال، بمعنى مكتوباً في اللوح المحفوظ، لقوله تعالى:
{ { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ } [يس: 12].
وقيل: أراد ما كتبته الملائكة الموكلون بالعباد، بأمر الله - تعالى - إياهم بالكتابة، لقوله تعالى:
{ { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ } [الانفطار: 10، 11].
فصل في المراد بالإحصاء
معنى { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ } أي: علمنا كُلَّ شيء علماً كما هو لا يزول، ولا يتبدل ونظيره قوله تعالى:
{ { أَحْصَاهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُ } [المجادلة: 6].
قال ابن الخطيب: وهذه الآية لا تقبل التأويل، لأن الله - تبارك وتعالى - ذكر هذا تقديراً لما ادعاه من قوله تعالى: "جَزَاءً وفاقاً"، كأنه تعالى قال: أنا عالم بجميع ما فعلوه، وعالم بجهات تلك الأفعال، وأحوالها؛ واعتباراتها التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب، فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلاَّ قدر ما يكون وفاقاً لأعمالهم، وهذا القدر إنما يتمُّ بثبوت كونه عالماً بالجُزئيَّاتِ، وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كافر قطعاً.
قوله تعالى: { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً }
قال ابن الخطيب: هذه "الفاء" للجزاء، فنبَّه على أنَّ الأمر بالذوق معلَّل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم، فهذه "الفاء" أفادت عين فائدة قوله: "جزاء وفاقاً".
فإن قيل: أليْسَ أنه - تعالى - قال في صفة الكفار:
{ { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ } [البقرة: 174].
فها هنا لمَّا قال تعالى لهم: "فذوقوا"، فقد كلَّمهُمْ؟.
فالجواب: قال أكثر المفسرين: ويقال لهم: "فَذُوقُوا".
ولقائلٍ أن يقول: قوله: { فَلَن نَّزِيدَكُمْ } لا يليق إلا بالله، والأقرب في الجواب أن يقال: قوله:
{ { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ } [آل عمران: 77] معناه: ولا يكلمهم بالكلام الطيب النافع، فإن تخصيص العموم سائغ عند حصول القرينة، فإن قوله: { { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ } [آل عمران: 77] إنما ذكره لبيان أنَّه - تعالى - لا يقيم لهم وزناً، وذلك لا يحصل إلال من الكلام الطيب.
فإن قيل: إن كانت هذه الزيادة غير مستحقة كانت ظلماً، وإن كانت مستحقة كان تركها في أول الأمر إحساناً، والكريم لا يليق به الرجوع في إحسانه.
والجواب: أنَّها مستحقةٌ، ودوامها زيادة لفعله بحسب الدوام، وأيضاً: فترك المستحق في بعض الأوقات لا يوجب الإبراء والإسقاط.
فصل في الالتفات في هذه الآية
قال ابنُ الخطيبِ: قوله تعالى: { فَذُوقُواْ } يفيد معنى التعليل، وهو التفات من الغيبةِ للخطابِ، فهو دالٌّ على الغضبِ، وفيه مبالغاتٌ: منها أنَّ "لن" للتأكيد، ومنها الالتفات، ومنها إعادة قوله: "فذوقوا" بعد ذكر العذاب، قال أبو بزرة رضي الله عنه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في القرآن، قال عليه الصلاة والسلام: قوله: { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } [النبأ: 30] أي:
{ { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } [النساء: 56]، و { { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [الإسراء: 97].