التفاسير

< >
عرض

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً
٣١
حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً
٣٢
وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً
٣٣
وَكَأْساً دِهَاقاً
٣٤
لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً
٣٥
جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً
٣٦
رَّبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمَـٰنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً
٣٧
-النبأ

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً }. تقدم تفسير المتقين، و "المفازُ": يحتمل أن يكون مصدراً، بمعنى: فَوْزاً وظفراً بالنعمة، ويحتمل أن يكون المراد فوزاً بالنجاة من العذاب، ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها: مفازة، تفاؤلاً بالخلاص منها، وأن يكون مجموع الأمرين.
وقال الضحاك: منتزهاً.
قوله: { حَدَآئِقَ } يجوز أن يكون بدلاً من "مفازاً" بدل اشتمالٍ أو بدل كُلٍّ من كل مبالغةً في أن جعل نفس هذه الأشياء مفازاً.
ويجوز أن يكون منصوباً بإضمارِ "أعْنِي"، وإذا كان مفازاً بمعنى الفوز، فيُقدَّر مضاف، أي فوز حدائق، وهي جمع حديقة، وهي البستان المحوط عليه، ويقال: أحْدقَ بِهِ أي أحَاطَ.
والأعْنَابُ: جمعُ عنب، أي: كروم أعناب، فحذف، والتنكير في قوله تعالى: { وَأَعْنَاباً } يدل على تعظيم تلك الأعناب.
قوله تعالى: { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً }. الكواعب: جمع كاعب، وهي من كعب ثديها وتفلك، أي يكون الثدي في النتوء كالكعب والفلكة، وهي النَّاهد، يقال: كَعَبَتِ الجارية تكعب كُعوباً، وكعَّبَتْ تَكْعِيباً، ونهَدتْ تَنْهَدُ نُهُوداً؛ قال: [الطويل]

5081- وكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أتَّقِي ثلاثُ شُخوصٍ: كاعِبانِ ومُعْصِرُ

وقال قيس بن عاصم المسعريُّ: [الطويل]

5082- وَكَمْ مِنْ حَصَانٍ قَدْ حَوَيْنَا كَرِيمَةٍ وَمِنْ كَاعِبٍ لَمْ تَدْرِ مَا البُؤْسُ مُعْصِرِ

وقال الضحاك: الكواعب: العَذَارى، والأتراب الأقران في السن، وقد تقدم ذكرهن في "الواقعة".
قوله تعالى: { وَكَأْساً دِهَاقاً }.
الدِّهَاقُ: الملأى المُترعَةُ.
قيل: هو مأخوذ من دهقهُ، أي: ضغطه، وشده بيده، كأنه ملأ اليد فانضغط، قال: [الوافر]

5083- لأنْتِ إلى الفُؤادِ أحَبُّ قُرْباً مِنَ الصَّادي إلى كَأسِ الدِّهاقِ

وهذا قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، وأبي عبيدة، والزجاج، والكسائي.
وقال عكرمة: ورُبَّما سمعت ابن عبًّاسٍ يقول: اسقنا وادهق لنا، ودعا ابن عباس غلاماً له فقال له: اسقنا دهاقاً، فجاء الغلام بها ملأى، فقال ابن عباس: هذا الدِّهاق.
وقيل: الدِّهاق: المتتابعة؛ قالرحمه الله : [الوافر]

5084- أتَانَا عَامِرٌ يَبْغِي قِرَانَا فأتْرعْنَا لَهُ كَأساً دِهاقَا

وهذا قول أبي هريرة، وسعيد بن جبير، ومجاهد.
قال الواحدي: وأصل هذا القول من قول العرب: أدهقت الحجارة إدهاقاً، وهي شدة ترادفها، ودخول بعضها في بعض. ذكره الليث.
والتَّتابعُ كالتَّداخُل.
وعن عكرمة وزيد بن أسلمَ: أنَّها الصَّافيةُ، وهو جمع "دهق"، وهو خشبتان يعصر بهما.
والمراد بالكأسِ: الخَمْرُ.
قال الضحاك: كل كأس في القرآن فهو خمر، والتقدير: وخمر ذات دهاق، أي عصرت وصفيت بالدهاق، قاله القشيري.
وفي "الصحاح" وأدْهَقْتُ الماءَ، أي: أفرغتُه إفراغاً شديداً، قال أبو عمرو: والدَّهْقُ - بالتحريك - ضرب من العذاب، وهو بالفارسية: "أشكَنْجَه".
قال المبرد: والمَدهوقُ: المُعذَّبُ بجميع العذاب الذي لا فرجة فيه.
وقال ابن الأعرابي: دهقت الشيء: أي: كسرته وقطعته، وكذلك: "دَهْدَقْتُهُ" و "دَهْمَقْتُهُ" بزيادة الميم المثلثة.
وقال الأصمعي: "الدَّهْمَقَة": لين الطعام وطيبه ورقته، وكذلك كل شيء لين، ومنه حديث عمر - رضي الله عنه -: لو شئت أن يدهمق لي لفعلت، ولكن الله عاب قوماً فقال تعالى:
{ { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } [الأحقاف: 20].
قوله تعالى: { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } أي: في الجنة، وقيل: في الكأس. { لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً }.
اللَّغو: الباطلُ، وهو ما يلغى من الكلام ويطرح، ومنه الحديث:
"إذا قُلتَ لِصاحبِكَ: أنْصِتْ، فَقَدْ لغَوْتَ" . وذلك أنَّ أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم، ولم يتكلموا بلغو بخلاف الدنيا، و "لا كِذَّاباً" أي: لا يتكاذبُون في الجنَّةِ.
وقيل: هما مصدران للتكذيب، وإنَّما خففها؛ لأنَّها ليست مقيَّدة بفعل يصير مصدراً له، وشدَّد قوله: { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا }؛ لأنَّ "كذَّبُوا" يفيد المصدر بالكذاب.
قال شهابُ الدين: "وإنَّما وافقَ الكسائيُّ الجماعة في الأول للتصريح بفعله المشدد المقتضي لعدم التخفيف في "كذَّبوا"، وهذا كما تقدم في قوله:
{ { فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ } [الإسراء: 91]، حيثُ لم يختلف فيه للتصريح معه بفعله بخلاف الأول".
وفقال مكيٌّ: مَنْ شدد جعله مصدر "كَذَّب"، زيدت فيه الألف، كما زيدت في "إكْرَاماً" وقولهم: تَكْذِيباً، جعلوا التاء عوضاً من تشديد العين، والياء بدلاً منَ الألف غيَّروا أوَّله كما غيَّروا آخره، وأصل مصدر الرباعي أن يأتي على عدد حروف الماضي بزيادة ألف مع تغيير الحركات، وقالوا: "تَكَلُّماً"، فأتي المصدر على عدد حروف الماضي بغير زيادة ألف، وذلك لكثرة حروفه، وضمت "اللام" ولم تكسر؛ لأنَّه ليس في الكلام اسم على "تفعَّل" ولم تفتح لئلا تشتبه بالماضي، وقراءة الكسائي: "كِذَّاباً" - بالتخفيف - جعله مصدر كذب كذاباً.
وقيل: هو مصدر "كذب" كقولك: كتبتُ كِتَاباً.
قوله: { جَزَآءً }. مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله: { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } كأنَّه قيل: جازى المتقين بمفاز.
قوله: { عَطَآءً } بدلٌ من "جَزاءً" وهو اسم مصدر؛ قال: [الوافر]

5085-........................... وبَعُدَ عَطائِكَ المِائةَ الرِّتاعَا

قال: وجعله الزمخشري: منصوباً بـ "جزاءً" نصب المفعول به.
ورده أبو حيان بأنه جعل "جزاء" مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة، التي هي "إنَّ للمُتَّقِينَ"، قال: "والمصدر المؤكد لا يعمل؛ لأنه لا ينحلُّ لحرف مصدري والفعل، ولا نعلمُ في ذلك خلافاً".
قوله: "حساباً". صفة لـ "عطاءً"، والمعنى: كافياً، فهو مصدر أقيم مقام الوصف أو بولغ فيه، أو على حذف مضاف، من قولهم: أحْسبَنِي الشيء أي: كفاني.
وقال قتادةٌ: "عَطاءً حِسَاباً" أي: كثيراً، يقال: أحسبتُ فلاناً أي: أكثرت له العطايا حتى قال: حسبي.
وقال الكلبي: حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشر أمثالها، وقد وعد قوماً جزاء لا نهاية له، ولا مقدار، كما قال تعالى:
{ { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10] وقرأ أبو البرهسم، وشريحُ بنُ يزيد الحمصي: بتشديد السين مع بقاء الحاء على كسرها.
وتخريجها: أنَّه مصدر: مثل: "كذّاب" أقيم مقام الوصف، أي: عطاء محسباً، أي: كافياً.
وابن قطيب: كذلك، إلاَّ أنَّه فتح الحاءَ.
قال أبو الفتح: بناء "فعَّال" من "أفْعَل" كـ "دَرَّاك" من "أدْرك" بمعنى أنه صفة مبالغة من "حَسَب" بمعنى: كافي كذا.
وابن عباس: "حَسَناً" بالنون من الحسن.
وسريج: "حَسْباً" بفتح الحاء وسكون السين والباء الموحدة، أي: عطاء كافياً، من قولك: حَسْبُك كذا، أي: "كافيك".
قوله تعالى: { رَّبِّ ٱلسَّمَاوَاتِ }.
قرأ نافعٌ، وابن كثير، وأبو عمرو: برفع "رب" و "الرحمن".
وابن عامر، وعاصم: بخفضهما.
والأخوان: يخفض الأول، ورفع الثاني.
فأما رفعهما، فيجوز من أوجه:
أحدها: أن يكون "ربُّ" خبر مبتدأ محذوف مضمر، أي: "هو رب"، و "الرحمن" كذلك، أو مبتدأ، خبره "لا يَمْلِكُون".
الثاني: أن يجعل "ربُّ" مبتدأ، و "الرحمن" خبره، و "لا يملكون" خبر ثان، أو مستأنف.
الثالث: أن يكون "ربُّ" مبتدأ، و "الرحمن" مبتدأ ثان، و "لا يملكون" خبره، والجملة خبر الأول، وحصل الرَّبطُ بتكرير المبتدأ بمعناه, وهو رأي الأخفشِ، ويجوز أن يكون "لا يَمْلِكُون" حالاً وتكون لازمة.
وأما جرهما: فعلى البدل، أو البيان، أوالنعت، كلاهما للأول، إلاَّ أنَّ تكرير البدل فيه نظر وتقدم التنبيه عليه في آخر الفاتحة.
وتجعل { رَّبِّ ٱلسَّمَاوَاتِ } تابعاً للأول، و "الرَّحْمن" تابعاً للثاني على ما تقدم.
وأمَّا الأول، فعلى التبعية للأول.
وأما رفع الثاني، فعلى الابتداء، والخبر: الجملة الفعلية، أو على أنَّه خبر مبتدأ مضمر، و "لا يَمْلِكُونَ" على ما تقدم من الاستئناف، أو الخبر الثاني، أو الحال اللازمة.
قوله: { لاَ يَمْلِكُونَ }.
نقل عطاء عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أن الضمير في "لا يملكون" راجع إلى المشركينَ، أي: لا يخاطبهم الله.
وأما المؤمنون فيشفعون، ويقبل الله - تعالى - منهم بعد إذنه لهم.
وقال القاضي: إنَّه راجع للمؤمنين، والمعنى: أنَّ المؤمنين لا يملكون أن يخاطبُوا الله - تعالى - في أمرٍ من الأمورِ.
فصل في أنَّ الله عدل في عقابه
لما ثبت أنه - تعالى - عدل لا يجور، وثبت أن العقاب الذي أوصله إلى الكفَّار عدل، وثبت أنَّ الثَّواب الذي أوصله إلى المؤمنين عدل، وأنَّه ما بخسهم حقَّهم، فبأيِّ سبب يُخاطبونه.
وقيل: الضمير يعود لأهل السماواتِ والأرضِ، وإنَّ أحداً من المخْلُوقِيْنَ لا يملك مخاطبة الله - تعالى - ومكالمته.
قال ابن الخطيب: وهذا هو الصواب.