التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
٤
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
٥
أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَٰداً
٦
وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً
٧
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً
٨
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً
٩
وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً
١٠
وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً
١١
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً
١٢
وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً
١٣
وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً
١٤
لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً
١٥
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً
١٦
-النبأ

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ }؛ التكرار للتوكيد.
وزعم ابن مالك: أنَّه من باب التوكيد اللفظي، ولا يضر توسّط حرف العطف، والنحويون يأبون هذا، ولا يسمونه إلا عطفاً وإن أفاد التأكيد، والعامة: على الغيبة في الفعلين.
والحسن ابن دينار وابن عامر بخلاف عنه بتاء الخطاب فيهما.
والضحاك: قرأ الأول كالحسن، والثاني كالعامة. والغيبة والخطاب واضحان.
فصل في لفظ كلا
قال القفالُ: "كلا" لفظة وضعت للردع، والمعنى: ليس الأمر كما يقوله هؤلاء في النبأ العظيم، إنه باطل، وإنه لا يكون.
وقيل: معناه: حقَّا، ثم إنه - تعالى- كرر الردع والتهديد، فقال سبحانه { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } وهو وعيدٌ بأنهم سوف يعلمون أنَّ ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا دافع له، وأما تكرير الردع، فقيل: للتأكيد، ومعنى "ثُمَّ" الإشعار بأن الوعيد الثاني أبلغ من الوعيد الأول وأشد.
وقيل: ليس بتكرير.
قال الضحاك: الأولى للكفار، والثانية للمؤمنين أي: سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم، وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم.
وقال القاضي: يحتمل أن يريد بالأول سيعلمون معنى العذاب إذا شاهدوه، وبالثاني: سيعلمون العذاب.
وقيل: { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } ما الله فاعل بهم يوم القيامة { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } أنَّ الأمر ليس كما كانوا يتوهَّمون من أن الله غير باعث لهم.
قوله: { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَاداً } لمَّا حكى الله - تعالى - عنهم إنكار البعث والحشر، وأراد إقامة الدلائل على صحة الحشر قدم لذلك مقدمة في بيان كونه - تعالى - قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات؛ لأنه إذا ثبت هذان الأصلان ثبت القول بصحة البعث، فأثبت هذين الأصلين بأن عدَّد أنواعاً من مخلوقاته المتقنةِ المحكمة؛ فإنَّ هذه الأشياء من جهة حدوثها تدل على القدرة، ومن جهة إحكامها وإتقانها تدل على العلم، وإذا ثبت هذان الأصلان، وثبت أن الأجسام متساوية في قبول الصفات والأعراض ثبت لا محالة كونه قادراً على تخريب الدنيا بسمواتها وكواكبها وأرضها، وعلى إيجاد عالم الآخرة، فهذا وجه النظم.
قوله: "مِهَاداً". مفعول ثان؛ لأنَّ الجعل بمعنى التصيير، ويجوز ان يكون بمعنى الخلق، فتكون "مِهَاداً" حالاً مقدرة.
وقرأ العامة: "مهاداً".
ومجاهد وعيسى وبعض الكوفيين "مهداً"، وتقدمت هاتان القراءتان في سورة "طه"، وأن الكوفيين قرأوا "مهداً" في "طه" و "الزخرف" فقط، وتقدم الفرق بينهما ثمَّة.
قوله تعالى: { وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً }، والكلام عليها كالكلام في "مِهَاداً" في المفعوليَّة والحاليَّة، ولا بُدَّ من تأويلها بمشتق أيضاً، أي مثبتات.
والمهاد: الوطاء، وهو الفراش، لقوله تعالى:
{ { جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } [البقرة: 22]، ومعنى "مَهْداً" أي: كمهدِ الصَّبي، وهو ما يمهد للصبي فينوّم عليه، و "أوتاداً" أي: لتسكن ولا تميل بأهلها.
قوله: { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً }. أي: أصنافاً، ذكراً وأنثى.
وقيل: ألواناً.
وقيل: يدخل كل زوجٍ بهيج، وقبيح، وحسن، وطويل وقصير، لتختلف الأحوال، فيقع الاعتبار.
قوله: { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } الظاهر أنَّه مفعول ثانٍ، ومعناه: راحةً لأبدانكم، ومنه السبتُ أي: يوم الراحة، أي: قيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، ولا تعملوا فيه شيئاً.
وأنكر ابن الأنباري هذا، وقال: لا يقال للراحة: سباتاً.
وقيل: أصله التمدُّد، يقال: سبتت المرأة شعرها: إذا حلَّته وأرسلته، فالسُّبات كالمد، ورجل مسبوتُ الخلق، أي ممدود، وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدد، فسميت الراحة سبتاً.
ةقيل: أصله القطع، يقال: سبت شعره سبتاً، أي: حلقه، وكأنه إذا نام انقطع عن الناس، وعن الاشتغالِ، فالسُّبات يشبه الموت، إلا أنه لم تفارقه الروح، ويقال: سيرٌ سبتٌ، أي سهلٌ ليِّن.
قوله: { وَجَعَلْنَا ٱللَّيْلَ لِبَاساً }. فيه استعارة حسنة؛ وعليه قول المتنبي: [الطويل]

5069- وكَمْ لِظَلامِ اللَّيْـلِ عِنـدكَ من يَـدٍ تُخَبِّــرُ أنَّ المانَويَّــة تَكــذِبُ

والمعنى: يُلبسُكُمْ ظُلْمتَهُ وتَغْشَاكُمْ. قاله الطبري, قال القفال: أصل اللباس هو الشيء الذي يلبسه الإنسان، ويتغطّى به، فيكون ذلك مُغَطِّياً، فلمَّا كان الليل يغشى الناس بظلمته جعل لباساً لهم، فلهذا سمي الليل لباساً على وجه المجاز، ووجه النعمة في ذلك هو أنَّ ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هرباً من عَدُو، أو إخفاء ما لا يجب اطِّلاع غيره عليه.
وقال ابن جبير والسدي: أي: أسْكنَّاكُمْ.
قوله: { وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً }. فيه إضمار، أي: وقت معاش، فيكون مفعولاً، وظرفاً للتبعيض، أي: منصرفاً لطلب المعاش، وهو كل ما يعاش به من المطعمِ، والمشربِ مصدراً بمعنى العيش على تقدير حذف مضاف، يقال: عاش عيشاً ومعاشاً ومعيشةً، ومعنى كون النهار معيشة أن الخلق إنما يمكنهم التقلب في حوائجهم ومكاسبهم في النهار.
قوله تعالى: { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً }. أي: سبع سماوات محكمات، أي: محكمة الخلق وثيقة البنيان.
وشداداً: جمع شديدة، أي: قوية لا يؤثِّر فيها مرور الأزمان لا فطور فيها ولا فروج، ونظيره قوله تعالى:
{ { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [الأنبياء: 32].
قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً }. أي: وقَّاداً، وهو الشمس، و "جَعَلَ" هنا بمعنى "خلق"؛ لأنها تعدت لمفعول واحد، والوهَّاج: المُضيء المتلألئ، من قولهم: وهج الجوهر أي: تلألأ.
وقيل: الوهَّاج: الذي له وهج، يقال: وَهَجَ يَوْهَجُ، كـ "وَحَلَ يَوحَلُ"، "ووهَجَ يَهِجُ" كـ "وَعَدَ يَعِدُ" وهجاً.
قال ابن عباس: وهَّاجاً: منيراً أي: مُتلألِئاً.
قوله: { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ }. يجوز في "من" أن تكون على بابها من ابتداءِ الغاية، وأن تكون للسببية، وتدل على قراءة عبد الله بن زيد وعكرمة وقتادة: "بالمعصرات" بالباء بدل "من"، وهذا على الخلاف في "المعصرات" ما المراد بها، فعن ابن عباس: أنها السَّحاب، وهو قول سفيان والربيع وأبي العالية والضحاك، أي: السحاب التي تنعصر بالماء، ولم تمطر بعد كالمرأة المُعْصِر التي قد دَنَا حيْضُهَا ولمْ تَحِضْ، يقال: أعْصرتِ السَّحابُ، أي: جاء وقت أن يعصرها الرياح فتمطر، كقولك: أجز الزرع، إذا جاز له أن يجز؛ وأنشد ابن قتيبة أبي النَّجْم: [الرجز]

5070- تَمْشِي الهُوَيْنَى مَائِلاً خِمارُهَا قَدْ أعْصَرتْ وقَدْ دَنَا إعْصَارُهَا

ولولا تأويل "أعْصرَتْ" بذلك لكان ينبغي أن تكون "المُعصَرات" - بفتح الصَّاد- اسم مفعول؛ لأن الرياح تعصرها.
وقال الزمخشري: وقرأ عكرمة: "بالمعصرات".
وفيه وجهان:
أحدهما: أن تراد الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب، وأن تراد السحائب؛ لأنه إذا كان الإنزال منها، فهو بها كما تقول: أعطى من يده درهماً، وأعطى بيده.
وعن ابن عباس ومجاهد: "المعصرات" الرياح ذوات الأعاصيرِ كأنها تعصر السحاب.
وعن الحسن وقتادة: هي السماوات وتأويله: أن الماء ينزل من السماء إلى السَّحاب، وكأنَّ السماوات يعصرن، أي: يحملن على العصر، ويمكن منه.
فإن قلت: فما وجه من قرأ "من المعصراتِ" وفسرها بالرياح ذوات الأعاصير، والمطرُ لا ينزل الرياح؟.
قلت: الرياح هي التي تُنشِئُ السَّحاب، وتدرُّ أخلافه، فصحَّ أن تجعل مبدأ للإنزال، وقد جاء: إنَّ الله تبارك وتعالى يَبعثُ الرِّياح فَتَحْمِلُ المَاءَ من السَّماءِ إلى السَّحابِ.
فإن صحَّ ذلك فالإنزال منها ظاهر.
فإن قلت: ذكر ابن كيسان أنه جعل "المعصرات" بمعنى المُغيثَات، والعاصر المغيث لا المعصر، يقال: عصره فاعتصر.
قلت: وجهه أن يريد اللاتي أعصرت، أي: حان لها أن تعصر، أي: تغيث.
يعني أن "عصر" بمعنى الإغاثة: ثلاثي، فكيف قال هنا: "معصرات" بهذا المعنى وهو من الرباعي؟.
فأجابه عنه بما تقدم: يعني: أن الهمزة بمعنى الدخول في الشيء.
قال القرطبي: "ويجوز أن تكون الأقوال واحدة، ويكون المعنى: وأنزلنا من ذوات الرياح المعصرات { مَآءً ثَجَّاجاً }، وأصح الأقوال أن المعصرات: السحاب، كذا المعروف أن الغيث منها، ولو كان "بالمعصرات" لكان الريح أولى".
وفي "الصِّحاح": والمعصرات: السحائب تعصر بالمطر، وأعصر القوم أي: مطروا، ومنه قراءة بعضهم: { وفيه تُعْصَرُون } [يوسف: 49]، والمعصر: الجارية التي قربتْ سنَّ البلوغ، والمعصر: السحابة التي حان لها أن تمطر، فقد أعصرت، ومنه "العَصَرُ" - بالتحريك - للملجأ الذي يلجأ إليه، والعصرُ - بالضم - أيضاً: الملجأ، وأنشد أبو زيد: [الخفيف]

5071- صَادِياً يَسْتَغيثُ غَيْرَ مُغاثٍ ولقَدْ كَانَ عُصْرَةَ المَنْجُودِ

قوله: { مَآءً ثَجَّاجاً }: الثَّجُّ: الانصبابُ بكثرةٍ وبشدةٍ.
وفي الحديث:
"أحَبُّ العملِ إلى اللهِ العَجُّ والثَّجُّ" .
فالعَجُّ: رفع الصوت بالتلبية.
والثَّجُّ: إراقة دماءِ حجج الهدي، يقال: ثجَّ الماء بنفسه، أي: انصبَّ، وثَجَجْتُه أنا: أي: صَبَبْتُه ثجَّا وثُجُوجاً، فيكون لازماً ومتعدياً؛ وقال الشاعر: [الطويل]

5072- إذَا رَجَفَتْ فِيهَا رَحا مُرْجَحِنَّةٌ تَبَعَّقَ ثَجَّاجاً غَزِيرَ الحَوافِلِ

وقرأ الأعمش: "ثَجَّاحاً" - بالحاء المهملة - أخيراً.
قال الزمخشري: "ومثاجح الماء: مصابُّه، والماء يثجح في الوادي".
وكان ابن عبَّاس مثجًّا، يعني يثج الكلام ثجًّا في خُطبته.
قوله تعالى: { لِّنُخْرِجَ بِهِ } أي: بذلك الماء "حَبَّا" كالحِنْطَةِ والشعير وغير ذلك.
"ونَبَاتاً" من الإنبات، وهو ما تأكله الدواب من الحشيش.
"وجَنَّاتٍ" أي: بساتين "ألْفَافاً" أي: مُلتفَّا بعضها ببعض كتشعيب أعضائها.
وفي الألفاف وجوه:
أحدها: أنه لا واحد له.
قال الزمخشري: "ألْفافاً": مُلتفَّة، ولا واحد له كـ "الأوزاع" والأخْيَاف.
والثاني: أنَّه جمعُ "لِفٍّ" - بكسر اللام - فيكون نحو: "سِرّ وأسرار"؛ وأنشد أبو عليٍّ الطوسِيُّ: [الرمل]

5073- جَنَّةٌ لِفٌ وعَيْشٌ مُغْدِقٌ ونَدامَى كُلُّهمْ بِيضٌ زُهُرْ

وهذا قول أكثر أهل اللغة، ذكره الكسائي.
الثالث: أنه جمع "لَفِيفٍ". قاله الكسائي، وأبو عبيدة كـ "شريف" و "أشراف"، و "شهيد" و "أشهاد"؛ قال الشاعر: [الطويل]

5074- أحَابيشُ ألْفَافٍ تَبايَنَ فَرْعهُمْ وحَزْمُهُمْ عَنْ نِسْبَةِ المُتعَرفِ

الرابع: أنَّه جمعُ الجميع، وذلك أنَّ الأصل: "لُفّ" في المذكر، و "لَفَّاء" في المؤنث كـ "أحْمَر وحَمْرَاء"، ثُمَّ جمع "لُف" على "ألفَاف" إذ صار "لف" زنة "فعل" جمع جمعه قاله ابن قتيبة.
إلا أنَّ الزمخشري قال: وما أظنه واجداً له نظيراً من نحو: "خضر وأخضار، وحمر وأحمار".
قال شهاب الدين: كأنه يستبعد هذا القول من حيث إنَّ نظائرهُ لا تجمع على "أفْعَال" إذ لا يقال: "خضر ولا حمر"، وإن كانا جمعين لـ "أحمر وحمراء، وأخضر وخضراء"، وهذا غير لازم؛ لأن جمع الجمع لا ينقاس، ويكفي أن يكون له نظير في المفردات، كما رأيت من أن "لفَّاء" صار يضارع "فَعْلاء"، ولهذا امتنعوا من تكسير "مفَاعِل ومفَاعِيْل" لعدم نظيره في المفردات يحملان عليه.
الخامس: قال الزمخشريُّ: "ولو قيل: هو جمع: "ملتفّة" بتقدير حذف الزوائد لكان قولاً وجيهاً".
وهذا تكلُّف لا حاجة إليه.
وأيضاً: فغالب عبارات النحاة في حذف الزوائد إنما هو في التصغير، يقولون: تصغير الترخيم بحذف الزوائد، وفي المصادر يقولون: هذا المصدر على حذف الزوائد.
قال القرطبي: ويقال: شجرة لفَّاء، وشجر لفٌّ، وامرأة لفَّاء، أي: غليظةُ السَّاقِ مجتمعة اللحم.
وقيل: التقدير: ونُخْرِجُ به جنَّاتٍ ألفافاً، ثم حذف لدلالة الكلام عليه.