التفاسير

< >
عرض

ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا
٢٧
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا
٢٨
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا
٢٩
وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا
٣٠
أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا
٣١
وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا
٣٢
مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ
٣٣
-النازعات

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً }، يريد: أهل "مكّة"، أي: أخلقكم بعد الموت أشدُّ في تقديركم أم السماءُ؟.
فمن قدر على خلقِ السَّماء على عظمها، وعظم أحوالها، قدر على الإعادة، وهذا كقوله:
{ { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } [غافر: 57].
والمقصود من الآية الاستدلال على منكري البعث، ونظيره قوله تعالى:
{ { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } [يس: 81].
ومعنى الكلام: التقريع والتوبيخ.
ثم وصف تعالى السماء، فقال: "أم السَّماءَ بَناهَا" عطف على "أنتم"، وقوله"بَنَاهَا" بيان لكيفية خلقه إياها، فالوقف على "السَّماءِ"، والابتداء بما بعدها، ونظيره قوله - تعالى - في "الزخرف":
{ { أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } [الزخرف: 58].
وقوله: "رَفَعَ سَمْكهَا" جملة مفسرة لكيفية البناء، "والسَّمْك": "الارتفاع".
قال الزمخشريُّ: "جعل مقدار ذهابها في سمتِ العلوِّ مديداً رفيعاً".
وسكمتُ الشيء: رفعته في الهواء، وسمك هو، أي: ارتفع سُمُوكاً، فهو قاصرٌ ومتعدٍّ، وبناء مسموك، وسنامٌ سَامِكٌ تَامِكٌ، أي: عالٍ مرتفعٌ، وسماك البيت ما سمكته به، والمسموكاتُ: السماوات ويقال: اسمك في الدّيم، أي: اصعد في الدرجة، والسماك: نجم معروف، وهما اثنان، رامح وأعزل؛ قال الشاعر: [الكامل]

5099- إنَّ الذي سَمكَ السَّماءَ بَنَى لَنَا بَيْتاً دَعَائِمُهُ اعَزُّ وأطْوَلُ

وقال البغويُّ: "رفَعَ سمْكهَا" أي: سقفها.
فصل في الكلام على هذه الآية
قال الكسائيُّ والفراء والزجاج: هذا الكلام تم عند قوله تعالى: { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا }، قال: لأنَّه من أصله السماء، والتقدير: "أم السماء التي بناها" فحذف "التي"، ومثل هذا الحذف جائز.
قال القفالُ: يقال: الرجل جاءك عاقل، أي: الرجل الذي جاءك عاقل، وإذا ثبت جواز ذلك في اللغة، فنقول: الدَّليل على أن قوله تعالى: "بَنَاهَا" صلةٌ لما قبله، أنَّه لو لم يكن صلة لكان صفة فقوله: "بَنَاهَا" صفة، ثم قوله: "رَفَعَ سَمْكهَا" صفة، فقد توالت صفتان، لا تعلُّق لإحداهما بالأخرى، فكان يجب إدخال العاطف بينهما، كما في قوله: "وأغطَشَ ليْلهَا"، ولمَّا لم يكن كذلك، علمنا أنَّ قوله: "بَناهَا" صلةٌ للسَّماءِ، فكان التقدير: أم السَّماء التي بناهَا"، وهذا يقتضي وجود سماءٍ ما بَنَاهَا اللهُ، وذلك باطل.
وقوله: { فَسَوَّاهَا } أي: خَلقهَا خَلْقاً مستوياً، لا تفاوت فيه، ولا فطور، ولا شقوق.
فصل فيمن استدل بالآية على أن السماء كرة
قال ابن الخطيب: واستدلُّوا بهذه الآية على كونِ السَّماء كُرةً، قالوا: لأنه لو لم تكن كرةً لكان بعضُ جوانبها سطحاً، والبعض زاويةً والبعضُ خطًّا، ولكان بعض أجزائه اقرب إلينا، والبعض الآخر أبعد، فلا تحصل التَّسويةُ الحقيقية، ثُمَّ قالوا: لما ثبت أنَّها محدثةٌ مُفتقِرةٌ إلى فاعل مختار، فأيُّ ضررٍ في الدِّين يُنافِي كونها كرة.
قوله تعالى: { وَأَغْطَشَ }. أي: أظلم بلغة أنمار، يقال: غطشَ الليلُ، وأغطشته أنا؛ قال: [المتقارب]

5100- عَقرْتُ لَهُمْ نَاقَتِي مَوهِناً فَليْلهُم مُدلَهِمٌّ غَطِشْ

وليل أغطش، وليلة غطشاء.
قال الراغب: وأصله من الأغطش، وهو الذي في عينه شبه عمش، ومنه فلاة غَطْشَى لا يهتدى فيها، والتَّغَاطشُ: التَّعامِي انتهى.
ويقال: أغْطشَ اللَّيْلُ قاصراً كـ "أظلم"، فـ "أفْعَلَ" فيه متعدٍّ ولازمٍ، فالغَطَشُ والغَتَشُ: الظُّلمة، ورجل أغطش، أي: أعْمَى، أو شبيهٌ به، وقد غطش، والمرأة: غطشاءُ، وفلاة غَطْشَى لا يهتدى لها؛ قال الأعشى: [المتقارب]

5101- وبَهْمَاءَ بالليْلِ غَطْشَى الفَلاَ ةِ يُؤنِسُنِي صَوْتُ قَيَّادِهَا

ومعنى قوله: { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا } أي: جعلهُ مُظلماً، وأضاف اللَّيل إلى السَّماء؛ لأنَّ الليل يكون بغروب الشمس، والشمس تضاف إلى السماء، ويقال: نجُومُ اللَّيْلِ؛ لأنَّ ظهورها بالليل.
قوله: { وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا }، فيه حذف، أي: ضحى شمسها، وأضاف الليل والضحى لها للملابسة التي بينها وبينهما، وإنَّما عبَّر عن النَّهارِ بالضحى؛ لأنَّ الضُّحى أكمل النَّهار بالنَّور والضَّوءِ.
قوله تعالى: { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } أي: بسطها، و "بَعْدَ" على بابها من التأخير، ولا معارضة بينها وبين آية فُصلت؛ لأنَّه - تعالى - خلق الأرض غير مدحوة، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض.
وقول أبي عبيدة: إنَّها بمعنى: "قَبْلَ" منكرٌ عند العلماء.
والعرب تقول: دحوتُ الشيء ادحوهُ دحْواً: إذا بسطه، ودحَى يَدحِي دَحْياً: إذا بسطه، فهو من ذوات الواو والياء، فيكتب بالألف، والياء.
وقيل لعشّ النَّعامة: أدحو، وأدحى لانبساطه في الأرض.
وقال أمية بن أبي الصلت: [الوافر]

5102- وبَثَّ الخَلْقَ فِيهَا إذْ دَحاهَا فَهُمْ قُطَّانُهَا حتَّى التَّنَادِي

وقيل: دَحَى بمعنى سوَّى.
قال زيدُ بنُ عمرو بن نفيلٍ: [المتقارب]

5103- وأسْلَمْتُ وجْهِي لِمَنْ أسْلمَتْ لَهُ الأرْضُ تَحْمِلُ صَخْراً ثِقَالاً

دَحَاهَا فلمَّا اسْتَوَتْ شَدَّهَا بأيدٍ وأرْسَى عَلَيْهَا الجِبَالا
والعامة: على نصب الأرض، والجبال على إضمار فعلٍ مفسَّر بما بعده، وهو المختار لتقدُّم جملة فعلية.
ورفعهما الحسن، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة وأبو السمال وعمرو بن عبيد، برفعهما علىالابتداء، وعيسى برفع "الأرض" فقط.
فصل
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: خلق الله تعالى الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان، وكان قبل أن يخلق الدُّنيا بألفي عام، ثم دُحيتِ الأرض من تحت البيت.
وحكى القرطبي عن بعض أهل العلم أنَّ "بَعْدَ" هنا في موضع: "مع"، كأنَّه قال: والأرض مع ذلك دحاها، كقوله تعالى:
{ { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } [القلم: 13]، ومنه قولهم: "أنت أحمق، وأنت بعد هذا سيِّئُ الخلقِ"؛ وقال الشاعر: [الطويل]

5104 - فَقُلت لَهَا: عَنِّي إليْك فإنَّنِي حَرامٌ, وإنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ

أي: مع ذلك.
وقيل: "بعد" بمعنى: "قبل", كقوله تعالى:
{ { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ } [الأنبياء: 105] أي: من قبلِ الفرقان؛ قال أبو كثير: [الطويل]

5105- حَمدْتُ إلَهِي بَعْدَ عُرْوةَ إذْ نَجَا خِراشٌ وبَعْضُ الشَّرِّ أهونُ مِنَ بعضِ

وزعموا أن خِراشاً نجا قبل عروة.
وقيل: "دَحاهَا" حرثها وشقَّها، قاله ابن زيد.
وقيل: "دَحاهَا" مهَّدها للأقوات، والمعنى متقارب.
قوله: { أَخْرَجَ }. فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون تفسيراً.
والثاني: أن يكون حالاً.
قال الزمخشري: فإن قلت هلاَّ أدخل حرف العطف على "أخرج"؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون "دَحَاهَا" بمعنى: بسطها، ومهَّدها للسُّكْنَى، ثم فسَّر التَّمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المأكلِ والمشربِ وإمكان القرار عليها.
والثاني: أن يكون "أخْرَج" حالاً، بإضمار "قد"، كقوله تعالى:
{ { أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } [النساء: 90].
واعلم أنَّ إضمار "قد" هو قول الجمهور، وخالف الكوفيون والأخفش.
قوله: { مِنْهَا مَآءَهَا }، أي: من الأرض عيونها المتفجِّرة بالماء.
و "مَرْعَاهَا" أي: النبات الذي يرعى، والمراد بمرعاها، ما يأكل النَّاسُ والأنعامُ، ونظيره قوله تعالى:
{ { أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً } [عبس: 25، 26]، إلى قوله تعالى: { { مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } [عبس: 32]، واستعير الرَّعي للإنسان، كما استعير الرَّتعُ في قوله: { { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } [يوسف: 12], وقد قُرئ "نرتع" ويرتع من الرَّعي، والرعي في الأصل مكان أو زمان، أو مصدر، وهو هنا مصدر بمعنى: "المفعول"، وهو في حق الآدميين استعارة.
قال ابن قتيبة: قال تعالى:
{ { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [الأنبياء: 30]، فانظر كيف دلَّ بقوله: "مَاءهَا ومَرْعاهَا" على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً، ومنها متاعاً للأنام من العشب، والشجر، والثمر، والحب والقضب، واللباس، والدواء، حتى النار والملح.
أمَّا النار؛ فلأنها من العيدانِ، قال جلا وعلا:
{ { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } [الواقعة: 71، 72].
وأمَّا الملحُ؛ فلأنَّه من الماءِ.
قوله تعالى: { وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا }.
قراءة العامة: بنصب "الجبال".
وأرْسَى: ثبَّت فيها الجبال.
وقرأ الحسنُ، وعمرو بنُ عبيدٍ، وعمرو بنُ ميمونٍ، ونصرُ بنُ عاصمٍ: بالرَّفعِ على الابتداءِ.
قوله تعالى: { مَتَاعاً لَّكُمْ }.
العامَّة: على النصب مفعولاً له، أو مصدراً لعاملٍ مقدرٍ، اي: متَّعكُمْ، أو مصدراً من غير اللفظ؛ لأن المعنى: أخرج منها ماءها ومرعاها أمتع بذلك.
وقيل: نُصِبَ بإسقاط حرف الصفة، تقديره: لتتمتعوا به متاعاً، والمعنى منفعة لكم ولأنعامكم.