التفاسير

< >
عرض

وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً
١
وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً
٢
وَٱلسَّابِحَاتِ سَبْحاً
٣
فَٱلسَّابِقَاتِ سَبْقاً
٤
فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً
٥
-النازعات

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً } يجوز في "غرقاً" أن يكون مصدراً على حذفِ الزوائد، بمعنى "إغْرَاقاً"، وانتصابه بما قبله لملاقاته في المعنى.
وإمَّا على الحال، أي: ذواتُ إغراقٍ، يقال: أغرق في الشيء يغرق فيه إذا أوغل، وبلغ أقصى غايته، ومنه أغرق النازع في القوس أي: بلغ غاية المد والاستغراق والاستيعاب.
فصل في المراد بالنازعات
أقسم الله تعالى بهذه الأسماء الخمسة على أن القيامة حق.
و "النَّازعات" قيل: هي الملائكة التي تنزع أرواح الكُفَّار، قاله علي، وابن مسعود، ومسروق، ومجاهد.
قال ابن مسعود: يريد أنفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم، من تحت كل شعرة، ومن تحت الأظافير، وأصول القدمينِ نزعاً، كالسَّفُّود ينزع من الصوف الرَّطب، ثم يغرقُها، يرجعها إلى أجسادهم، ثم ينزعها، فهذا عمله في الكفَّار.
وقال سعيد بن جبر: نُزعَتْ أرْواحُهم، ثم غرقت، ثم حرقت، ثم قذف بها في النار.
وقيل: يرى الكافر نفسه في وقت النَّزع كأنها تغرق.
وقال السدي: "والنَّازِعَات" هي النفوس حين تغرقُ في الصُّدور.
وقال مجاهد: هي الموت ينزع النفوس.
وقال الحسن وقتادة: هي النَّجوم تنزع من أفق إلى أفق، أي: تذهب، من قولهم: نزع إليها أي ذهب، أو من قولهم: نزعت الخيل، أي: "جرت"، "غرقاً" أي أنها تغرق وتغيب وتطلع من أفق إلى أفق آخر، وهو قول أبي عبيدة وابن كيسان والأخفش.
وقال عطاء وعكرمة: "والنَّازعَاتِ" القسيُّ تنزع بالسهام.
"غرقاً" بمعنى: إغراق، وإغراق النازع في القوس إذا بلغ غاية المدِّ حتى ينتهي إلى النَّصلِ، ويقال لقشرة البيضة الدَّاخلة "غِرقئ".
وقيل: هم الغُزَاةُ الرُّماة، وهو الذي قبله سواء؛ لأنه إذا أقسم بالقسي فالمراد: النازعون بها تعظيماً لها، كقوله تعالى:
{ { وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً } [العاديات: 1].
وقال يحيى بنُ سلام: هي الوحش تنوزع من الكلأ وتنفر.
ومعنى"غرقاً" أي: إبعاداً في النزع.
قوله تعالى: { وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً }.
اعلم أن "نَشْطاً، وسَبْحاً، وسَبْقاً" كلها مصادر.
والنَّشْطُ: الرَّبْطُ، والإنشاطُ: الحل، يقال: نَشَطَ البعير: رَبطهُ، وأنشطهُ: حله.
ومنه: "كأنَّما أنشط من عقال"، فالهمزة للسَّلب، ونشط: ذهب بسرعةٍ، ومنه قيل لبقر الوحش: النواشط؛ وقال هميانُ بنُ قحافةَ: [الرجز]

5086- أمْسَتْ هُمومِي تَنْشِطُ المنَاشِطَا الشَّام بِي طَوْراً وطَوْراً واسِطَا

ونشط الحبل أنشطه أنشوطة: عقدته، وأنْشَطْتُه: مددته، ونشط كـ "أنشط".
قال الأصمعي: بئرٌ أنشاط: أي: قريبةُ القعرِ، يخرج الدَّلوُ منها بجذبةٍ واحدةٍ، وبئر نشُوط، قال: وهي التي لا تخرج الدلو منها حتى تنشط كثيراً.
فصل في المراد بالناشطات
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يعني الملائكة تنشط نفس المؤمن، فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير إذا حلَّ عنه.
وقيل: يعني أنفس الكفار والمنافقين تنشط كما ينشط العقب الذي يعقب به السَّرج.
والنَّشْطُ: الجذبُ بسرعة.
ومنه الأُنشوطةُ: عقدة يسهل انحلالُها إذا جذبتْ مثل عقدة التكّة.
قال الليث: أنشطه بأنشوطة وأنشوطتين أي: أوثقته، وأنشطت العقال، أي: مددت أنشوطته فانحلّت.
ويقال: نشط بمعنى أنشط، لغتان بمعنى.
وعن ابن عباس أيضاً: أن الناشطات الملائكة، لنشاطها تذهب وتجيء بأمر ربها حيثما كان.
وقال مجاهدٌ: هو الموت ينشط نفس الإنسان.
وقال السدي: هي النفوس حين تَنْشَطُ من القدَميْنِ.
وقال قتادةُ، والحسنُ والأخفشُ: هي النجوم تنشط من أفقٍ إلى أفقٍ، أي: تذهب.
قال الجوهريُّ: يعني النجوم تنشطُ من بُرجٍ إلى برجٍ، كالثَّور الناشط من بلدٍ إلى بلدٍ.
وقيل: "النازعات" للكافرين: و "النَّاشطاتِ" للمؤمنين، فالملائكةُ يجْذِبُونَ أرواح المؤمنين برفقٍ.
والنَّزْعُ: جذبٌ بشدَّةٍ.
وقيل: هما جميعاً للكفَّار، والاثنان بعدهما للمؤمنين.
قوله: { وَٱلسَّابِحَاتِ سَبْحاً }. قال عليٌّ رضي الله عنه: هي الملائكة تُسبح أرواح المؤمنين.
قال الكلبيُّ: كالذي يسبح في الماء، فأحياناً يَنْغَمِسُ، وأحياناً يرتفع يسلُّونها سلاًّ رفيقاً بسهولة، ثم يدعُونهَا حتى تستريح.
وقال مجاهدٌ وأبو صالحٍ: هي الملائكة ينزِلُونَ من السماء مُسْرِعينَ لأمر الله تعالى، كما يقال للفرس الجواد: سابحٌ إذا أسرع في جريه، وعن مجاهد: السابحات: الموت يسبح في نفوس بني آدم. وقيل: هي الخيل الغزاة.
قال عنترةُ: [مجزوء الكامل]

5087- والخَيْلُ تَعْلمُ حِينَ تَسْـ ـبَحُ في حِيَاضِ المَوْتِ سَبْحاً

وقال قتادة والحسنُ: هي النجوم تسبحُ في أفلاكها، وكذا الشمس والقمر.
قال تعالى:
{ { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [الأنبياء: 33].
وقال عطاءُ: هي السُّفن تسبحُ في الماءِ.
وقال ابن عباسٍ: أرواح المؤمنين تسبحُ شوقاً إلى لقاء الله تعالى ورحمته حين تخرج.
قوله تعالى: { فَٱلسَّابِقَاتِ سَبْقاً }.
قال عليٌّ رضي الله عنه: هي الملائكة، تسبقُ الشياطينَ بالوَحْيِ إلى الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وهو قول مسروق ومجاهد.
وعن مجاهد - أيضاً - وأبي روق: هي الملائكة سبقت بني آدم إلى العملِ الصَّالحِ، فتكتبه.
وعن مجاهد - أيضاً - الموت يسبقُ الإنسان.
وقال مقاتلٌ: هي الملائكة تسبقُ بأرواح المؤمنين إلى الجنَّةِ.
وقال ابنُ مسعودٍ: هي أنفس المؤمنين، تسبقُ إلى الملائكة الذين يقبضونها، وقد عاينت السرور شوقاً إلى لقاءِ الله تعالى.
وقال قتادةُ والحسن ومعمر: هي النجوم تسبق بعضها.
وقال عطاءٌ: هي الخيلُ التي تسبقُ إلى الجهاد.
وقيل: يحتملُ أن تكون "السَّابقات" ما تسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة، أو نار؛ حكاه الماورديُّ.
قال الجرجانيُّ: وذكر "فالسَّابقَاتِ" بالفاء؛ لأنها مشتقة من التي قبلها، أي: واللاتي يَسْبَحْنَ فيسبقن، قام فذهب، فهذا يوجبُ أن يكون القام سبباً للذهابِ.
قال الواحديُّ: قول صاحب النَّظم غير مطرد في قوله: "فالمُدبِّراتِ أمْراً"؛ لأنه يبعد ان يجعل السَّبقُ سبباً للتَّدبير.
قال ابن الخطيب ويمكن الجواب عن اعتراض الواحديِّ: بأنها لمَّا أمرتْ سبَحتْ، فسَبقَتْ، فدَبَّرتْ ما أمِرَتْ بتَدْبِيرِهِ، فتكون هذه أفعالاً يتَّصِلُ بعضها ببعض، كقولك: قام زيد، فذهب، فضرب عمراً، أو لمَّا سبقُوا في الطَّاعاتِ يُسَارِعُونَ إليها، ظهرت أمانَتهُمْ، ففوَّض إليهم التَّدبيرَ.
قوله: { فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً }.
قيل: "أمْراً" مفعول بالمُدبِّراتِ.
وقيل: حال، تُدبِّرهُ مأمورات، وهو بعيد.
قال القشيريُّ: أجمعوا على أن المراد: الملائكة.
وقال الماورديُّ: فيه قولان:
أحدهما: الملائكةُ، قاله الجمهور.
والقول الثاني: هي الكواكب السبع، حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل.
وفي تدبيرها الأمور وجهان:
أحدهما: تدبيرُ طُلوعِهَا وأفُولِهَا.
والثاني: في تدبير ما قَضى الله - تعالى - فيها من تقليب الأحوال.
وحكى هذا القول - أيضاً - القشيري في تفسيره، وأن الله - تعالى - علَّق كثيراً من تدبير العالم بحركاتِ النُّجُومِ، فأضيف التدبير إليها، وإن كان من الله - تعالى - كما يُسمَّى الشيء باسم ما يجاوره.
وقال شهاب الدِّين: والمراد بهؤلاء إمَّا طوائفُ الملائكة، وإمَّا طوائفُ خيل الغزاة، وإما النجوم، وإمَّا المنَايَا، وإمَّا بقرُ الوحشِ وما جرى مجراها لسرعتها، وإما أرواح المؤمنين يعني المذكورين في جميع القسم.
فصل في تدبير الملائكة
"تَدْبِيْرُ المَلائِكَة": نزولها بالحلالِ، والحرام، وتفصيله, قال ابن عباس: وقتادة، وغيرهما إلى الله تعالى، ولكن لمَّا أنزلت الملائكةُ سُمِّيت بذلك، كما قال تعالى:
{ { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ } [الشعراء: 193، 194]، وقوله تعالى: { { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ } [النحل: 102] يعني: جبريل نزَّلهُ على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم والله سبحانه وتعالى هو الذي أنزلهُ.
وروى عطاء عن ابن عباس: "فالمُدبِّراتِ أمْراً"، هي الملائكة وكلَّت بِتدْبِيْرِ أحوال أهلِ الأرض في الرياح والأمطار، وغير ذلك.
قال عبدُ الرَّحمنِ بنُ ساباط: تدبير أمر الدنيا إلى أربعة:
جِبْرِيلِ، ومِيْكَائِيلِ، وملكِ الموتِ واسمه عِزْرَائِيلُ، وإسْرَافِيْل، فأمَّا جِبْرِيْل، فمُوكَّلٌ بالرياح، والجنود، وأمَّا مِيْكَائِيْل، فموكَّلُ بالقَطْرِ والنِّباتِ، وأمَّا ملكُ الموتِ فمُوكَّلٌ بقبض الأرْواحِ في البرِّ والبَحْرِ، وأما إسْرَافِيلُ، فهو ينزلُ بالأمر عليهم، وليس في الملائكة أقربُ من إسرافيل وبينه وبين العرش خَمْسمائةِ عامٍ.
وقيل: وُكِّلُوا بأمُورٍ عَرَّفهمُ اللهُ بِهَا.
فإن قيل: لِمَ قَالَ: "أمْراً"، ولم يَقُلْ: أمُوراً، فإنهم يدبرون أمُوراً كثيرة؟.
فالجوابُ: أن المرادَ به الجنسُ، فهو قائم مقام الجمعِ.
واعلم أنَّ هذه الكلمات أقسم الله - تعالى - بها، ولله - تعالى - أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس لنا ذلك.