التفاسير

< >
عرض

وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
٣٥
-الأنفال

اللباب في علوم الكتاب

لمَّا ذكر أنَّهم ليسُوا أولياء البيتِ الحرام بيَّن ههنا ما به خرجوا من أن يكونوا أولياء البيت، وهو أنَّ صلاتهم عند البيت إنَّما كان بالمكاء والتَّصديةِ.
أي: ما كان شيءٌ ممَّا يعُدَّونه صلاةً وعبادةً إلا هذين الفعلينِ، وهما المكاء والتصدية أي: إن كان لهم صلاةٌ فلا تكن إلاَّ هذين، كقول الشَّاعر: [الطويل]

2700 - ومَا كُنْتُ أخْشَى أن يكُونَ عَطَاؤُهُ أدَاهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرَا

فأقام القيود، والسِّياط مقام العطاء، والمُكَاء: مصدر مَكَا يَمْكُو، أي: صفر بين أصابعه أو بين كفَّيه.
قال الأصمعي: قلت لمنتجع بن نبهان: ما تَمْكُو فريصتُه؟.
فشبَّك بين أصابعه، وجعلها على فِيهِ، ونفخ فيها. يريد قول عنترة: [الكامل]

2701 - وحَلِيْلِ غَانِيَةٍ تَركْتُ مُجَدَّلاً تَمْكُو فَريصَتُهُ كَشِدْقِ الأعْلمِ

يقال: مكت الفريصة، أي: صَوَّتت بالدَّمِ، ومكت استُ الدَّابة، أي: نفخت بالرِّيحِ.
وقال مجاهدٌ: المُكاءُ: صفيرٌ على لحنِ طائرٍ أبيض يكون بالحجازِ؛ قال الشاعر: [الطويل]

2702 - إذَا غرَّدَ المُكَّاءُ في غَيْرِ روْضَةٍ فَوَيلٌ لأهْلِ الشَّاءِ والحُمُراتِ

المُكَّاء: فُعَّال، بناء مبالغةٍ؛ قال أبو عبيدة: "يقال: مَكَا يَمْكُو مُكُوًّا ومُكَّاءً: صَفَرَ، والمُكاء: بالضَّمِّ، كالبُكاءِ والصُّراخ".
قال الزمخشريُّ: "المُكاءُ: فُعال، بوزن: الثُّغَاء والرُّغَاء، من مَكَا يَمْكُو: إذا صَفَر والمُكاء: الصَّفيرُ" ومنه: المُكَّاء: وهو طائر يألف الرِّيف، وجمعهُ المَكَاكِيُّ.
قيل: ولم يشذَّ من أسماء الأصوات بالكسر إلاَّ الغِنَاء، والنِّداء. والتَّصدية فيها قولان:
أحدهما: أنها من الصَّدى، وهو ما يُسْمع من رجع الصَّوْتِ في الأمكنة الخالية الصُّلبةِ يقال منه: صَدَى يصدي تصديةً، والمراد بها هنا: ما يسمع من صوت التَّصفيق بإحدى اليدينِ على الأخرى.
وقيل: هي مأخوذةٌ من التَّصددة، وهي الضَّجيجُ، والصِّياحُ، والتصفيق، فأبدلت إحدى الدَّالين ياءً تخفيفاً، ويدلُّ عليه قوله تعالى:
{ إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } [الزخرف: 57] في قراءة من كسر الصَّاد، أي: يضجُّونَ ويلغطون، وهذا قول أبي عبيدة، وردَّه عليه أبو جعفر الرُّسْتمي، وقال: إنَّما هو مِن الصَّدْي، فكيف يُجعل من المضعَّف؟ وقد ردَّ أبو عليّ على أبي جعفر ردَّهُ وقال "قد ثبت أنَّ يصُدُّونَ من نحو الصَّوْتِ، فأخذهُ منه، وتصدية: تَفْعِلَة" ثم ذكر كلاماً كثيراً.
والثاني: أنَّها من الصَّدِّ، وهو المنعُ؛ والأصل: تَصْدِدَة، بدالين أيضاً، فأبدلت ثانيتهما ياء ويُؤيِّدُ هذا قراءةُ من قرأ "يَصُدُّونَ" بالضَّمِّ، أي: يمنعون. وقرأ العَامَّةُ: "صلاتُهُم" رفعاً، "مُكَاءً" نَصْباً.
وأبان بن تغلب والأعمش وعاصم بخلاف عنهما: { وما كان صلاتهم } نصباً، "مُكَاءٌ" رفعاً وخطَّأ الفارسيُّ هذه القراءة، وقال: لا يجوزُ أن يُخْبَر عن النَّكرةِ بالمعرفةِ إلاَّ في ضرورة؛ كقول حسَّانٍ: [الوافر]

2703 - كأنَّ سَبيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأسٍ يَكُونُ مزاجَهَا عسلٌ ومَاءُ

وخرَّجها أبو الفتحِ على أنَّ "المُكَاء" و "التصدية" اسما جنس، يعني: أنَّهُمَا مصدران.
قال: واسم الجنْسٍ تعريفُه وتنكيرُهُ متقاربانِ، فلمَ يقالُ بأيِّهمَا جعل اسماً، والآخر خبراً؟ وهذا يقرُب من المعرَّف بـ "أل" الجنسيَّة، حيث وُصِفَ بالجملة، كما يُوصَف به النكرة، كقوله تعالى:
{ وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ } [يس: 37]؛ وقول الآخر: [الكامل]

2704 - ولقد أمُرُّ على اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ: لا يَعْنِينِي

وقال بعضهم: وقد قرأ أبو عمرو: "إلاَّ مُكاً" بالقصرِ والتنوين، وهذا كما قالوه: بُكاءً، وبُكًى. بالمدِّ والقصر.
وقد جمع الشَّاعر بين اللغتين، فقال: [الوافر]

2705 - بَكَتْ عَيْنِي وحُقَّ لها بُكَاهَا ومَا يُغْنِي البُكَاءُ ولا العَوِيلُ

فصل
قال ابن عبَّاسٍ "كانت قريش يطوفون بالبيت عُراة، يُصفرون ويصفِّقُون".
وقال مجاهدٌ: "كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطّواف ويتسهزئون به ويصفِّرون، ويصفِّقُونَ، ويخلطون عليه طوافه وصلاته".
وقال مقاتلٌ: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذَا صلَّى في المسجد الحرام، قام رجلان عن يمينه، ورجلان عن يساره يصفقون ليخلطوا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم صلاته، وهم من بني عبد الدَّارِ".
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ: "التصديةُ: صدهم المؤمنين عن المسجد الحرامِ، وعلى هذا فـ "التَّصددةُ" بدالين، كما يقال: تظننت من الظن".
فعلى قول ابن عباسٍ كان المكاءُ والتصديةُ نوع عبادة لهم، وعلى قول مجاهد ومقاتل: كان إيذاءًا للنبي صلى الله عليه وسلم. والأول أقرب، لقوله تعالى: { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً }.
فإن قيل: "المُكَاءُ" و "التَّصديةُ" ليسا من جنس الصَّلاة، فكيف يجوزُ استثناؤهما من الصَّلاة؟ فالجوابُ: من وجوه، أحدها: أنهم كانوا يعتقدون أنَّ المكاء والتصدية من جنس الصَّلاة، فحسن الاستثناء على حسب معتقدهم.
قال ابنُ الأنباري: "إنَّما سمَّاه صلاة؛ لأنَّهُمْ أمروا بالصَّلاةِ في المسجدِ؛ فجعلوا ذلك صلاتهم".
وثانيها: أنَّ هذا كقولك: زرتُ الأمير؛ فجعل جفائي صلتي، أي: أقام الجفاء مقام الصلة، كذا ههنا.
وثالثها: الغرضُ منه أن من كان المكاء والتَّصدية صلاته فلا صلاة له، كقول العربِ: ما لفلان عيب إلاَّ السخاء، أي: مَنْ كان السخاء عيبه فلا عَيْبَ فيه.
ثم قال تعالى { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } أي: عذاب السيف يوم بدر، وقيل: يقال لهم في الآخرة { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ }.