التفاسير

< >
عرض

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٦٧
لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٦٨
فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٦٩
-الأنفال

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ } الآية.
قرأ أبو عمرو "تكون" بالتأنيث، مراعاةً لمعنى الجماعة، والباقون بالتَّذكير، مراعاةً للفظ الجمع، والجمهورُ هنا على "أسْرَى" وهو قياس "فعيل" بمعنى "مفعول" دالاًّ على أنه كـ: جَريح وجَرْحَى.
وقرأ ابنُ القعقاع والمفضَّل عن عاصم "أسَارَى" شبَّهُوا "أسير" بـ: "كَسْلان" فجمعوهُ على "فُعَالَى" كَـ: "كُسَالَى"، كما شَبَّهُوا به "كسلان" فجمعوه على "كَسْلَى"، وقد تقدَّم القولُ فيهما في البقرة.
قال الزمخشري: "وقرىء "ما كان للنَّبي" على التعريف"
فإن قيل: كيف حسن إدخال لفظة "كان" على لفظة "يكون" في هذه الآية؟ فالجوابُ: قوله "مَا كانَ" معناه النفي والتنزيه، أي: ما يجب وما ينبغي أن يكون المعنى المذكور، كقوله:
{ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [مريم: 35].
قال أبو عبيدة "يقول: لم يكن لنبي ذلك، فلا يكن لك، ومن قرأ { مَا كَان للنَّبي } فمعناه: أنَّ هذا الحكم ما كان ينبغي حصوله لهذا النبي، وهو محمد عليه الصلاة والسلام".
قوله: "حتَّى يُثخِنَ" قرأ العامَّةُ "يُثْخنَ" مخففاً، عدوهُ بالهمزة.
وقرأ أبُو جعفر ويحيى بن وثاب ويحيى بن يعمر "يُثَخِّنَ" بالتشديد، عدوهُ بالتضعيف، وهو مشتقٌّ من الثَّخانة، وهي الغِلَظ والكثافة في الأجسام، ثمَّ يُسْتَعار ذلك في كثرة القتل، والجراحات، فيقال: أثْخَنَتْه الجراح، أي: أثقلته حتى أثْبَتَتْه، ومنه "حتَّى إذا أثخنتموهم".
وقيل: حتى يقهر، والإثخان: القهرُ.
وأنشد المفضلُ: [الطويل]

2738 - تُصَلِّي الضُّحَى ما دَهْرُهَا بتَعَبُّدٍ وقَدْ أثْخَنَتْ فرعَونَ في كُفُرِهِ كُفْرَا

كذا أنشده الهروي شاهداً على القهر، وليس فيه معنى، إذا المعنى على الزِّيادة والمبالغةِ المناسبةِ لأصل معناه، وهي الثَّخانة.
ويقال منه: ثَخُنَ يَثْخُنُ ثَخَانَة فهو ثَخِين، كـ: ظَرُفَ يَظْرُف ظَرَافَةً، فهو ظريفٌ.
قوله { تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ }. الجمهورعلى نصب "الآخرة".
وقرأ سليمانُ بن جماز المدني بجرِّها، وخُرِّجتْ على حذفِ المضاف وإبقاء المضاف إليه على جرِّه. وقدَّره بعضهم عرض الآخرة، فعيب عليه؛ إذْ لا يحسن أن يقال: والله يريد عرض الآخرة فأصلحه الزمخشريُّ بأنْ جعلهُ كذلك؛ لأجل المقابلة، قال: "يعني ثوابها" وقدَّره بعضهم بـ "أعمال"، أو "ثواب"، وجعله أبُو البقاءِ كقول الآخر: [المتقارب]

2739 -..................... ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا

وقدَّر المضاف: "عَرَضَ الآخِرَةِ".
قال أبُو حيان: "ليست الأيةُ مثل البيت، فإنهُ يجوزُ ذلك، إذَا لمْ يُفْصل بين حرف العطف وبين المجرور بشيء كالبيت، أو يفصل بـ "لا" نحو: "ما مثل زيد ولا أخيه يقولان ذلك" أمَّا إذَا فُصِل بغيرها كهذه القراءةِ فهو شاذٌّ قليل".
فصل
اعلم أنَّهُ تعالى علَّم في هذه الآية حكماً آخر من أحكام الجهادِ في حقّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
قال الزجاج: "أسْرَى" جمع، و"أسَارَى" جمع الجمع. والإثخان: قال الواحديُّ: "الإثخان" في كُلِّ شيء: عبارة عن قوَّته وشدَّته.
يقال: قد أثخنه المرض: إذا اشتد قوة المرض عليه وكذلك أثخنته الجراح.
فقوله: { حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ } أي: حتى يقوى ويشتد ويغلب ويقهر.
قال أكثر المفسرين: المرادُ منه: أين يبالغ في قتل أعدائه، قالوا: وإنَّما جعلنا اللَّفظ يدل عليه؛ لأنَّ الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتل؛ قال الشَّاعرُ:

2740 - لا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفيعُ من الأذَى حتَّى يُراقَ على جوانبِهِ الدَّمُ

وكثرة القتل توجب قوة الرهب وشدة المهابة، وكلمة "حتّى" لانتهاء الغايةِ، فقوله { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ } يدُلُّ على أنَّ بعد حصول الإثخان في الأرض فله أن يقدم على الأسارى.
وقوله: { تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا } المرادُ منه: الفداء، وإنَّما سمى منافع الدنيا عرضاً؛ لأنَّهُ لا ثبات له ولا دوام، فكأنه يعرض ثم يزول، ولذلك سمَّى المتكلمون الأعراض أعراضاً، لأنها لا ثبات لها كثبات الأجسام؛ لأنها تطرأ على الأجسام، وتزول عنها والأجسام باقية.
وقوله: { وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ } أي: أنه تعالى لا يريدُ ما يفضي إلى السعادات الدنيوية التي تعرض وتزول، وإنَّما يريد ما يفضي إلى السعادات الأخروية الدائمة الباقية المصونة عن التبدل والزوال.
ثم قال: { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي: إن طلبتم الآخرة لم يغلبكم عدوكم؛ لأنَّ الله عزيز لا يقهر ولا يغلب، حكيم في تدبير مصالح العالم.
قال ابنُ عبَّاسٍ: "هذا الحكم إنَّما كان يوم بدر؛ لأنَّ المسلمين كانوا قليلين، فلما كثروا وقوي سلطانهم أنزل اللَّهُ بعد ذلك في الأسارى:
{ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } " [محمد: 4].
قال ابنُ الخطيبِ: "هذا الكلامُ يوهم أنَّ قوله: { فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } يزيدُ على حكم الآية التي نحن في تفسيرها، وليس الأمر كذلك؛ لأنَّ كلتا الآيتين متوافقتان، فإنهما يدلان على أنه لا بد من تقديم الإثخان، ثم بعده أخذ الفداء".
فصل
احتج الجبائيُّ والقاضي بهذه الآية على فساد قول من يقول: كلُّ ما يكون من العبد فاللَّهُ يريدُه؛ لأنَّ هذا الأسر وقع منهم على هذا الوجه، ونصَّ اللَّهُ على أنَّهُ لا يريده، بل يريد منهم ما يؤدي إلى ثواب الآخرة وهو الطاعة.
وأجيبوا: بأنه تعالى ما أراد أن يكون هذا الأمر منهم طاعة وعملاً جائزاً مأذوناً فيه، فلا يلزم من نفي الإرادة كون هذا الأمر طاعة، نفي كونه مراد الوجود.
فصل
روي عن عبد الله بن مسعود قال:
"لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما تقُولُون في هؤلاءِ الأسْرَى فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك اسْتَبْقِهِمْ، واستأن بهم لعلَّ الله أن يتوب عليهم، وخُذْ منهم فدية تكون لنا قوة على الكُفَّارِ.
وقال عمرُ: يا رسول الله: كذبوك وأخرجوك، فَدَعْنَا نضرب أعناقهم، مكِّن عليًّا مِنْ عقيلٍ فيَضْرب عُنقَهُ، ومكِّنِي من فلانٍ: نَسيباً لِعمَرَ فأضْرِبَ عُنُقَهُ، فإن هؤلاء أئِمَّةُ الكفرِ.
وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب؛ فأدخلهم فيه، ثم أضرم عليهم ناراً، فقال له العباس: قطعت رحمك. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم، ثم دخل فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول ابن رواحة، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنَّ اللَّهَ ليليِّن قلوب رجال حتَّى تكون ألين من اللبن، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، قال: { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [إبراهيم: 36] ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى، قال: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [المائدة: 118] ومثلك يا عمر، كمثل نوح، قال: { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [نوح: 26] ومثلك كمثل موسى، قال: { رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } [يونس: 88] الآية. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم اليوم عالة فلا ينقلبن أحد منهم إلاَّ بفداء أو ضرب عنق.
قال عبد الله بن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع عليَّ الحجارة من السماء من ذلك اليوم، حتَّى قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إلا سهيل بن بيضاء.
قال ابن عباس: قال عمر بن الخطاب: فَهَوِيَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكرٍ ولمْ يَهْوَ ما قلت، فلمَّا كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعديْن يبكيانِ، قلتُ: يا رسُول الله، أخبِرْنِي مِنْ أيِّ شيءٍ تَبْكِي أنتَ وصاحبُكَ، فإنْ وجَدْتُ بكاءً بكَيْتُ، وإنْ لَمْ أجِدْ بكاءً تَباكَيْتُ لبكائِكُما.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي للَّذي عَرَض عليَّ أصحابُكَ مِنْ أخذهم الفداءَ، لقد عُرِضَ عليَّ عذابُهُم أدْنَى مِنْ هذه الشجَّرةِ"
. شجرةٍ قريبةٍ مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ } إلى قوله: { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً } وأحَلَّ الله الغنيمةَ لهُمْ.
وكان الفداء لكل أسيرٍ أربعين أوقية، والأوقيةُ: أربعون درهماً.
قوله: { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.
قال ابنُ عباسٍ: كانت الغنائمُ حراماً على الأنبياء؛ فكانُوا إذَا أصابوا مَغْنَماً جعلوه للقربان فكانت تنزل نار من السَّماءِ فتأكله، فلمَّا كان يوم بدر أسرع المؤمنون في الغنائم، وأخذ الفداء، فأنزل اللَّهُ تعالى: { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ }.
يعني: لولا قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ بأنَّهُ تحلُّ لكم الغنائم لمَسَّكُم العذاب.
وهذا مشكل؛ لأنَّ تحليل الغنائم والفداء، هل كان حاصلاً في ذلك الوقت، أو ما كان حاصلاً فيه؟ فإن كان ذلك التَّحليل والإذن حاصلاً في ذلك الوقت امتنع إنزال العذاب عليهم؛ لأنَّ ما كان مأذوناً فيه من قبل الشرع لم يحصل العقابُ على فعله.
وإن قلنا: إنَّ الإذن ما كان حاصلاً في ذلك الوقت كان ذلك الفعل حراماً في ذلك الوقت، أقصى ما في الباب أنَّهُ سيحكم بحله بعد ذلك، إلاَّ أنَّ هذا لا يقدح في كونه حراماً في ذلك الوقت.
فإن قالوا: إنَّ كونه بحيثُ يصير بعد ذلك حلالاً، يوجبُ تخفيف العقابِ.
قلنا: فإذا كان الأمر كذلك امتنع إنزال العقاب بسببه، وذلك يمنع من التخويف بسبب ذلك العقاب.
قال ابنُ العربيِّ: "في هذه الآية دليلٌ على أنَّ العبد إذا اقتحم ما يعتقده حراماً ممَّا هو في علم اللَّه حلال له لا عقوبة عليه، كالصَّائم إذا قال: هذا يوم نَوْبي فأفطر الآن، وتقولُ المرأة: هذا يوم حيضتي فأفطر، ففعلا ذلك، وكان النوب والحيضُ الموجبان للفطر، فمشهور المذهب أن فيه الكفارة، وهو قول الشافعيِّ.
وقال أبُو حنيفة: لا كفارة عليه. وجه الأوَّل أنَّ طريق الإباحة لا يثبت عذراً غير عقوبة التَّحْريمِ عند الهتكِ، كما لَوْ وَطىء امرأة ثمَّ نكحها.
ووجه قول أبي حنيفةَ: أنَّ حرمة اليوم ساقطة عند الله - عزَّ وجلَّ -، فصادف الهَتْكَ محلاًّ لا حرمةَ له في عِلْمِ اللَّه تعالى، كما لو قصد وطء امرأة زُفَّت إليه، وهو يعتقدُ أنَّها ليست بزوجةٍ له فإذا هي زوجته".
قال القرطبيُّ: "وهذا أصحُّ".
وقال ابن جريح: { لولا كتابٌ من اللَّهِ سبقَ } أنَّهُ لا يضلُّ قوماً بعد إذْ هداهم حتَّى يبين لهم ما يتقون، وأنَّهُ لا يأخذ قوماً فعلوا شيئاً بجهالة، وأنَّهُ لا يعذب إلا بعد النهي، لعذبكم فيما صنعتم، وأنَّهُ تعالى ما نهاهم عن أخْذِ الفداءِ. وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لانَّا نقول حاصل هذا القول أنه ما وجد دليل شرعي يوجب حرمة ذلك الفداء. فهل حصل دليل عقليّ يقتضي حرمته أم لا؟
فإن قلنا: حصل، فيكون اللَّهُ تعالى قد بيَّن تحريمه بواسطة ذلك الدَّليل العقلي، فلا يمكن أن يقال: إنَّهُ تعالى لم يُبيَِّن تلك الحرمة، وإن قلنا: إنه ليس في العقل ولا في الشَّرع ما يقتضي المنع؛ فحينئذ امتنع أن يكون المنع حاصلاً وإذا كان الإذن حاصلاً فكيف يمكن ترتيب العقاب على فعله؟
وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير: { لوْلاَ كتابٌ مِن الله سبقَ } أنَّهُ لا يعذِّب أحداً شهد بدراً مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا أيضاً مشكلٌ؛ لأنَّهُ يقتضي أن يقال: إنهم ما منعُوا عن الكُفْرِ والمعاصي والزِّنا والخمر، وما هددوا بترتيب العذابِ على هذه القبائح، وذلك يوجبُ سقوط التَّكاليف عنهم، ولا يقوله عاقل، وأيضاً فلو كان كذلك، فكيف أخذهم اللَّهُ في ذلك الموضع بِعَيْنه في تلك الواقعةِ بعينها؟
قال ابنُ الخطيب: "واعلمْ أنَّ النَّاس أكثروا فيه، والمعتمد في هذا الباب أن نقول:
أمَّا على قول أهل السنة: فيجوز أن يعفُو اللَّهُ عن الكبائر. فقوله { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ } لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لمَسَّهُم عذاب عظيم، وهذا هو المراد من قوله
{ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } [الأنعام: 54] وقوله "سبقت رحمتي غضبي".
وأمَّا على قول المعتزلة: فهم لا يجوزون العفو عن الكبائر، فكان معناه { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ } في أنَّ من احترزَ عن الكبائر صارت صغائره مغفورة، وإلاَّ لمسَّهُم عذابٌ عظيمٌ، وهذا الحكمُ وإن كان ثابتاً في حقِّ جميع المسلمين، إلاَّ أنَّ طاعات أهل بدر كانت عظيمة، وهو قبولهم الإسلام، وانقيادهم لمحمَّدٍ، وإقدامهم على مقاتلة الكفار من غير سلاح وأهبة فلا يبعد أن يقال: إنَّ الثَّوابَ الذي استحقُّوهُ على هذه الطاعات كان أزيدَ من العقاب الذي استحقوه على هذا الذنب، لا جرم صار هذا الذنب مغفوراً، ولو قدّرْنا صدور هذا الذنب من المسلمين، لما صار مغفوراً، فبسبب هذا القدر من التفاوت، حصل لأهْلِ بدر هذا الاختصاص".
قال ابن إسحاق: لم يكن من المؤمنين أحدٌ ممَّن حضر إلاَّ أحبَّ الفداء، إلاَّ عمر بن الخطاب فإنه أشار على رسُول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الأسرى، وسعد بن معاذ قال: يا نَبِيَّ الله الإثْخَان في القَتْلِ أحب إليَّ من استبقاءِ الرِّحالِ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
"لو نزل من السَّماءِ عذابٌ لما نَجَا منه غير عمر بن الخطاب، وسعد بن معاذ" .
قوله تعالى: { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً } الآية.
روي أنهم أمسكوا أيديهم عمَّا أخذُوا من الفداء، فنزلت هذه الآية.
فإن قيل: ما معنى "الفاء" في قوله: "فَكُلُوا"؟ فالجوابُ: التقدير قد أبحت لكم الغنائم فكلوا.
و "مَا" يجُوزُ أن تكون مصدرية، والمصدرُ واقعٌ موقع المفعول، ويجوزُ أن تكون بمعنى "الَّذي" وهو في المعنى كالذي قبله، والعائد على هذا محذوف.
وقوله: "حَلاَلاً" نصبٌ على الحَالِ، إمَّا من ما الموصولةِ، أو من عائدها إذَا جعلناها اسمية.
وقيل: هو نعتُ مصدرٍ محذوف، أي: أكْلاً حلالاً.
وقوله: "واتَّقُوا" قال ابنُ عطية: "وجاء قوله: "واتَّقُوا اللَّهَ" اعتراضاً فصيحاً في أثناء القولِ؛ لأنَّ قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } متصلٌ بقوله: { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُم } يعني: أنه متصلٌ به من حيث إنه كالعلة له. والمعنى: واتقوا اللَّهَ ولا تُقْدِمُوا بعد ذلك على المعاصي واعلموا أنَّ اللَّه غفور لما أقدمتم عليه من الزلة".