التفاسير

< >
عرض

فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ
١٥
ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ
١٦
وَٱللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ
١٧
وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ
١٨
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
١٩
ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ
٢٠
مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ
٢١
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ
٢٢
وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ
٢٣
وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ
٢٤
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ
٢٥
-التكوير

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ }، أي: "أقسم"، و "لا" زائدة كما تقدم.
"والخُنَّسُ": جمع خانسٍ، والخُنوسُ: الانقباضُ، يقال: خنس بين القوم، وانْخنسَ.
وفي الحديث: "فانْخَنَسْتُ"، أي: استخفيت. يقال: خَنَسَ عنه يَخْنسُ - بالضم - خُنُوساً.
والخنسُ: تأخر الأنف عن الشَّفة مع ارتفاع الأرنبة قليلاً.
ويقال: رجلٌ أخنسُ، وامرأةٌ خنساءُ، ومنه: الخنساءُ الشاعرةُ.
والخُنَّسُ في القرآن، قيل: الكواكب السبعة السَّيارة القمران، وزحل، والمشتري والمريخ، والزهرة، وعطارد؛ لأنها تخنس في المغيب أو لأنها تختفي نهاراً.
وعن علي رضي الله عنه: هي زُحَل، والمشتري، والمريخ، والزهرة وعطارد.
وفي تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم وجهان:
أحدهما: لأنَّها تستقبل الشمس، قاله بكر بن عبد الله المزني.
الثاني: تقطع المجرة، قاله ابن عباس.
وقيل: خُنُوسُهَا: رجوعها، وكُنُوسها: اختفاؤها تحت ضوء الشمس.
قال ابن الخطيب: الأظهرُ أنَّ ذلك إشارة إلى رجوعها واستقامتها.
وقال الحسن وقتادة: هي النجوم كلها؛ لأنها تخنس بالنهار إذا غربت، وتظهر بالليل، وتكنس في وقت غروبها، أي: تتأخر عن البصر لخفائها، وتكنس أي: تستتر، كما تكنس الظِّباء في المغارة، وهي الكناس، والكنس: الداخلة في الكناس، وهي بيت الوحش، والجواري: جمع جارية.
وعن ابن مسعود: هي بقر الوحش؛ لأن هذه صفتها.
وروي عن عكرمة قال: الخُنَّسُ: البقر، والكُنسُ: هي الظباء، فهي خنسٌ إذا رأين الإنسان خَنَسْنَ، وانقبضن وتأخرن ودخلن كناسهنّ.
قال القرطبيُّ: "والخُنَّسُ" على هذا: من الخنس في الأنف، وهو تأخير الأرنبة، وقصر القصبة، وأنوف البقر والظِّباء خنس، والقول الأول أظهر لذكر الليل والصبح بعده.
وحكي الماورديُّ: أنها الملائكة، والكُنَّسُ: الغيبُ، مأخوذة من الكناس، وهو كناس الوحش الذي يختفي فيه، والكُنَّسُ: جمع كانس وكانسة.
قوله تعالى: { وَٱللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ }. يقال: عَسْعَسَ وسَعْسَع، أي: أقبل.
قال العجاج: [الرجز]

5123- حَتَّى إذَا الصُّبْحُ لهَا تَنفَّسَا وانْجَابَ عَنْهَا ليْلُهَا وعِسْعَسَا

أي: أدبر.
قال الفراء: أجمع المفسرون على أن معنى "عسعس": أدبر حكاه الجوهري.
وقيل: دَنَا من أوله وأظلم، وكذلك السحاب إذا دنا من الأرض.
وقيل: "أدْبَر" من لغة قريش خاصَّة.
وقيل: أقبل ظلامُه، ورجحه مقابلته بقوله تعالى { وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ }، وهذا قريبٌ من إدباره.
وقيل: هو لهما على طريق الاشتراك.
قال الخليل وغيره: عسعس الليل: إذا أقبل، أو أدبر.
قال المبرد: هو من الأضداد، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحدٍ، وهو ابتداء الظلام في وله، وإدباره في آخره.
قال الماورديُّ: وأصل العسِّ: الامتلاء.
ومنه قيل للقدح الكبير: عُسٌّ، لامتلائه بما فيه، فأطلق على إقبال الليل لابتداء امتلائه، وأطلق على إدباره لانتهاء امتلائه، فعلى هذا يكون القسم بإقبال الليل وبإدباره، وهو قوله تعالى: { وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } لا يكون فيه تكرار.
وعَسْعَس: اسم موضع البادية، وأيضاً: هو اسم رجل.
ويقال للذئب: العَسْعَسُ والعَسْعَاس؛ لأنه يعسُّ في الليل ويطلب.
ويقال للقنافذ: العَساعِس، لكثرة ترددها بالليل، والتَّعَسْعُس: الشم, والتَّعَسْعُس - أيضاً -: طلب الصيد.
قوله تعالى: { وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ }، أي امتد حتى يصير نهاراً واضحاً.
يقال للنهار إذا زاد: تنفس، ومعنى التنفس: خروج النسيم من الجوف.
وفي كيفية المجاز قولان:
الأول: أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفساً له على المجاز، فقيل: تنفس الصبح.
الثاني: أنه شبَّه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي خنس بحيث لا يتحرك، فإذا تنفس وجد راحة، فهاهنا لما طلع الصبح، فكأنه تخلص من ذلك الحزن فعبر عنه بالتنفس.
وقيل: { إِذَا تَنَفَّسَ } أي إذا انشق وانفلق، ومنه تنَفَّسَتِ القوسُ: أي: تصدعت. [وهذا آخر القسم].
قوله تعالى: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ }. قال الحسنُ وقتادةُ والضحاكُ: الرسول الكريم: جبريل.
والمعنى: إنَّه لقولُ رسولٍ كريمٍ من الله كريمٍ على الله، وأضاف الكلام إلى جبريل، ثم عزاه عنه فقال:
{ { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الواقعة: 80] ليعلم أهل التحقيق في التصديق أن الكلام لله تعالى.
وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم، فمن جعله جبريل، فقوته ظاهرة؛ لما روى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: من قوته قلعه مدائن قوم لوط بقوادمِ جناحه.
وقوله تعالى: { عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ } أي: عند الله سبحانه وتعالى.
"مكين" أي: ذي منزلةٍ ومكانةٍ.
وروى أبو صالح قال: يدخل سبعين سرادقاً بغير إذن.
وقيل: المراد: القوة في أداء طاعة الله تعالى، وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف.
وقوله تعالى: { عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ } هذه العندية ليست عندية الجهة، بل عندية الإشراف، والتكريم، والتعظيم.
وقوله تعالى: "أنا عند المنكسرة قلوبهم"، وقوله سبحانه: { مَكِينٍ }: قال الكسائي: يقال: مكنَ فلانٌ عند فلانٍ - بضم الكاف - تمكُّناً ومكانة، فعلى هذا هو ذو الجاه الذي يعطي ما يسأل.
قوله تعالى: { مُّطَاعٍ ثَمَّ }؛ أي: في السموات.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: من طاعة الملائكة جبريل - عليه السلام - أنَّه لمَّا أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قال جبريلُ لرضوان خازن الجنانِ: افتحْ له ففتحَ، فدخلها، فرأى ما فيها وقال لمالك خازن النار: افتح له ففتح، فدخلها، ورأى ما فيها.
وقوله تعالى: { أَمِينٍ }، أي: مؤتمن على الوحي الذي يجيء به.
ومن قال: إن المراد محمد صلى الله عليه وسلم فقال: "ذِ قوةٍ" على تبليغ الوحي "مطاع" أي: يطيعه من أطاع الله عز وجل.
{ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } حتى يتَّهم في قوله، وهو من جواب القسم والضمير في قوله: "إنَّهُ" يعود إلى القرآن الذي نزل به جبريل - عليه السلام - على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: يعود إلى الذي أخبركم به محمد صلى الله عليه وسلم من أنّ أمر الساعة في هذه السورة ليس بكهانة، ولا ظنَّ، ولا افتعال، إنما هو قول جبريل أتاه به وحياً من الله تعالى.
فصل فيمن استدل بالآية على تفضيل جبريل على سيدنا محمد
قال ابنُ الخطيب: احتج بهذه الآية من فضل جبريل - عليه الصلاة والسلام - على محمد صلى الله عليه وسلم فقال: إذا وازنت بين قوله سبحانه: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ }، وبين قوله تعالى: { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } ظهر التفاوت العظيم.
قوله: "عند ذي": يجوز أن يكون نعتاً لـ "رسولٍ"، وأن يكون حالاً من "مكينٍ"، وأصله الوصف، فلما قدم نصب حالاً.
قوله: { ثَمَّ أَمِينٍ }. العامة: على فتح الثَّاء؛ لأنه ظرف مكان للبعد، والعامل فيه "مطاعٍ".
وأبو البرهسم، وأبو جعفر وأبو حيوة: بضمها، جعلوها عاطفة، والتراخي هنا في الرتبة؛ لأن الثانية أعظم من الأولى.
قوله تعالى: { وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ }، أي: لقد رأى جبريل في صورته في ستمائة جناح { بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } أي: حيث تطلع الشمس من قبل المشرق.
وقيل: "بالأفق المبين"؛ أقطار السماء ونواحيها.
قال الماورديُّ: فعلى هذا ففيه ثلاثة أقوال:
الأول: أنه رآه في الأفق الشرقيِّ. قاله سفيان.
الثاني: في أفق السماء الغربي، حكاه ابن شجرة.
الثالث: أنه رآه نحو "أجياد"، وهو مشرق "مكة"، قاله مجاهد.
وقيل: إنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه - عز وجل - بالأفق المبينِ، وهو قول ابن مسعود وقد تقدم ذلك في سورة "والنجم".
وفي "المُبينِ" قولان:
أحدهما: أنه صفة للأفق، قاله الربيع.
الثاني: أنَّه صفة لمن رآه، قاله مجاهد.
قوله تعالى: { وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ }.
قرأ ابن كثير، وأبو عمر، والكسائي: بالظاء، بمعنى متهم, من ظن بمعنى: اتهم، فيتعدى لواحدٍ.
وقيل: معناه بضعيف القوة عن التبليغ من قولهم: "بئر ظنُون" أي: قليلة الماء، والظِّنَّة التهمة، واختاره أبو عبيدة وفي مصحف عبد الله كذلك.
والباقون: بالضاد، بمعنى: بخيل بما يأتيه من قبل ربِّه، من ضننت بالشيء أضنُّ ضنًّا، يعني: لا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك، ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً، إلا أنَّ الطبري قال: بالضاد خطوط المصاحف كلها.
وليس كذلك لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، وهذا دليل على التمييز بين الحرفين خلافاً لمن يقول: إنه لو وقع أحدهما موقع الآخر بحال لجاز لعسر معرفته، وقد شنَّع الزمخشريُّ على من يقول ذلك، وذكر بعض المخارج، وبعض الصفات بما يطول ذكره.
و { عَلَى ٱلْغَيْبِ } متعلق بـ "ظنين"، أو "ضَنِيْنٍ".
و "الغيب": القرآن، وخبر السماء هذا صفة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: صفة جبريل عليه السلام.
قوله تعالى: { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ }، أي: مَرْجُومٍ، والضمير في "هو" للقرآن، قالت قريش: إنَّ هذا القرآن يجيء به شيطان، فيلقيه على لسانه، فنفى الله ذلك، يريدون بالشيطان: الأبيض الذي كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه.
فصل في الكلام على الآية
قال ابنُ الخطيب: إن قيل: إنَّه حلف على أن القرآن قول جبريل - عليه السلام - فوجب علينا أن نصدقه، فإن لم نقطع بوجوب حمل اللفظ على الظاهر، فلا أقلَّ من الاحتمال، وإن كان كذلك ثبت أن هذا القرآن يحتملُ أن يكون كلام جبريل لا كلام الله تعالى، وبتقدير أن يكون كلام جبريل لا يكون معجزاً، ولا يمكن أن يقال بأن جبريل معصوم؛ لأنَّ عصمته متفرعة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وصدق النبي صلى الله عليه وسلم على كون القرآن معجزاً، وكون القرآن معجزاً متفرع على عصمة جبريل، فيلزم دور.
فالجواب: أنَّ الإعجاز ليس في الفصاحة، بل في سلب تلك الدواعي عن القلوب، وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلاَّ الله تعالى، لأن سلب القدرة عما هو مقدور لا يقدر عليه إلا الله تعالى.
ثم قال في قوله تعالى: { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ }: فإن قيل: القول بصحة النبوة موقوف على نفي هذا الاحتمال فكيف يمكن نفيه بالدليل السمعي؟.
قلنا: قد بينَّا أنَّه على القول بالصرف لا يتوقف صحة النبوة على نفي هذا الاحتمال بالدليل السمعي.