التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ
٦
ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ
٧
فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ
٨
-الانفطار

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } أي: المتجاوز.
والعامة: على "غرَّك" ثلاثياً، و "ما" الاستفهامية: في محل رفع على الابتداء.
وقرأ ابن جبير، والأعمش: "ما أغَرَّكَ"، فاحتمل أن تكون استفهامية، وأن تكون تعجبية، ومعنى "أغرّه": أدخله في الغرَّة، أو جعله غارًّا.
فصل في مناسبة الآية لما قبلها
لما أخبر في تلك الآية أولى عن وقوع الحشر والنشر، ذكر هاهنا ما يدل عقلاً ونقلاً على إمكانه، أو على وقوعه، وذلك من وجهين
الأول: أن الإله الكريم الذي لا يجوز من كرمه أن يقطع مواد نعمه عن المذنبين، كيف يجوز في كرمه ألا ينتقم من الظالم؟.
الثاني: أن القادر على خلق هذه البنية الإنسانية، ثم سوَّاها، وعدلها، إمَّا أن يقال: إنه - تعالى - خلقها لا لحكمةٍ، وذلك عبث، وهو على الله تعالى محال؛ لأنه - تعالى - منزَّهٌ عن العبث، أو خلقها لحكمةٍ، فتلك الحكمة أن تكون عائدة على الله تعالى، وذلك باطل؛ لأنه منزَّهٌ عن الاستكمال والانتفاع، فتعين أن تكون الحكمة عائدة إلى العبد، وتلك الحكمة أن تظهر في الدنيا، فذلك باطل؛ لأن الدنيا دار بلاء وامتحان لا دار انتفاع وجزاء، فثبت أن تلك الحكمة إنما تظهر في دار الجزاء، فثبت أن الاعتراف بوجود الإله الكريم الذي يقدر على الخلق، والتسوية، والتعديل يوجب على العاقل أن يقطع بأنه تعالى يبعث الأموات ويحشرهم.
فصل في نزول الآية
هذا [خطاب] لمنكري البعث.
روى عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنها نزلت في الوليد بن المغيرة.
وقال الكلبي ومقاتل: نزلت في الأشرم بن شريقٍ، وذلك أنَّه ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه الله تعالى، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
وقيل: يتناول جميع العصاة؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومعنى "ما غرَّك": ما خدعك وسوَّل لك الباطل حتى تركت الوجبات، وأثنيت بالمحرمات.
والمعنى: ما الذي أمَّنك من عقابه، هذا إذا حملنا الإنسان على جميع العصاة، فإن حملناه على الكافر، فالمعنى: ما الذي دعاك إلى الكفر، وإنكار الحشر والنشر.
فإن قيل: كونه كريماً يقتضي ألا يغتر الإنسان بكرمه؛ لأنه جواد مطلق، والجواد الكريم يستوي عنده طاعة المطيع، وعصيان المذنب، وهذا لا يوجب الاغترار وروي عن عليّ - رضي الله عنه - أنَّه دعا غلامه مرات، فلم يجبه، فنظر فإذ هو بالباب، فقال له: لم لا تجبني؟ فقال: لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك، فاستحسن جوابه وأعتقه.
وقالوا - أيضاً - من كرم الرجل سوء أدب غلمانه، وإذا ثبت أن كرمه يقتضي الاغترار به فكيف جعله - هاهنا - مانعاً من الاغترار؟.
فالجواب من وجوه:
الأول: أن المعنى لما كنت ترى حلم الله - تعالى - عن خلقه ظننت أن ذلك لا حساب، ولا دار إلا هذه الدار، فما الذي دعاك إلى الاغترار وجرَّأك على إنكار الحشر، والنشر، فإنَّ ربك كريم، فهو من كرمه - تعالى - لا يعاجل بالعقوبة بسطاً في مدة التوبة، وتأخيراً للجزاء، وذلك لا يقتضي الاغترار.
الثاني: أنَّ كرمه تعالى لمَّا بلغ إلى حيث لا يمنع العاصي من أن يطيعه، فبأن ينتقم للمظلوم من الظالم كان أولى، فإذاً كان كونه كريماً يقتضي الخوف الشديد من هذا الاعتبار، وترك الجزاء والاغترار.
الثالث: أنَّ كثرة الكرم توجب الجد والاجتهاد في الخدمة، والاستحياء من الاغترار.
الرابع: قال بعضهم: إنما قال: "بربِّكَ الكَريمِ" ليكون ذلك جواباً عن ذلك السؤال حتى يقول: غوني كرمُك، فلولا كرمك لما فعلت؛ لأنك لو رأيت فسترت، وقدرت فأمهلت.
وهذا الجواب إنما يصح إذا كان المراد بقوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ } ليس هو "الكافر".
فصل في غرور ابن آدم
قال قتادةُ - رضي الله عنه -: سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان وقال مقاتل: غرَّه عفو الله حين لم يعاقبه أوَّل مرة.
وقال السديُّ: غرَّه عفو الله.
وقال ابن مسعودٍ: ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة، فيقول تعالى: ما غرَّك يا ابن آدم، ماذا غرَّك يا ابن آدم، ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟.
قوله: { ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ }، يحتمل الإتباع على البدل والبيان، والنعت، والقطع إلى الرفع والنصب.
واعلم أنه - تعالى - لما وصف نفسه بالكرم، ذكر هذه الأمور الثلاثة، كالدلالة على تحقق ذلك الكرم، فقوله تعالى: { ٱلَّذِي خَلَقَكَ } لا شكَّ أنَّه كرمٌ؛ لأنه وجود، والوجود، خير من العدم، والحياة خير من الموت، كما قال تعالى:
{ { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [البقرة: 28]، وقوله تعالى: "فسوّاك" أي: جعلك سوياً سالم الأعضاءِ، ونظيره قوله تعالى: { { أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } [الكهف: 37]، أي: معتدل الخلق والأعضاء.
قال ذو النون: أي: سخَّر لك المكونات أجمع، وما جعلك مسخَّراً لشيء منها، ثم أنطق لسانك بالذكر، وقلبك بالعقل، وروحك بالمعرفة، ومدك بالإيمان وشرفك بالأمر والنهي، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلاً.
قوله: "فعدَلَكَ". قرأ الكوفيون: "عَدلَكَ" مخففاً، والباقون: مثقَّلاً.
فالتثقيل بمعنى: جعلك مناسب الأطراف، فلم يجعل إحدى يديك ورجليك أطول، ولا إحدى عينيك أوسع، فهو من التعديل، وهو كقوله تعالى:
{ { بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } [القيامة: 4].
قال علماء التشريح: إنَّه - تعالى - ركَّب جانبي الجثة على التساوي حتى أنه لا تفاوت بين نصفيه، لا في العظام، ولا في أشكالها، ولا في الأوردة والشرايين، والأعصاب النافذة فيها والخارجة منها.
وقال عطاءٌ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: جعلك قائماً معتدلاً، حسن الصُّورةِ، ولا كالبهيمة المنحنية.
وقال أبو عليٍّ الفارسي: "عَدلَكَ" خلقك، فأخرجك في أحسن تقويم، مستوياً على جميع الحيوان والنبات، وواصلاً في الكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم.
وأمَّا قراءة التخفيف فيحتمل هذا، أي: عدل بعض أعضائك ببعض، ويحتمل أن يكون من المعدول، أي: صرفك إلى ما شاء من الهيئات والأشكال والأشباه، وهذا قول الفراء.
ثم قال: والتشديد أحسن الوجهين؛ لأنك تقول: عدلتك إلى كذا، أي: صرفتك إلى كذا وكذا، ولا يحسن: عدلتك فيه، ولا صرفتك فيه.
وفي القراءة الأولى: جعل "في" من قوله: "فِي أيِّ صُورةٍ" للتركيب، وهو حسنٌ.
وفي قراءة الثانية جعل "في" صلة لقوله: "فعدلك"، وهو ضعيف.
ونقل القفَّال عن بعضهم: أنَّهما لغتان بمعنى واحد.
قوله: "في أيِّ صُورةٍ"، يجوز فيه أوجه:
أحدها: أن يتعلق بـ "ركبك"، و "ما": مزيدة على هذا، و "شاء" صفة لـ "صورة"، ولم يعطف "ركَّبَك" على ما قبله بالفاء، كما عطف ما قبله بها، لأنه بيان لقوله: "فَعَدَلَكَ"، والتقدير: فعدلك ركبك في أيِّ صورةٍ من الصور العجيبة الحسنة التي شاءها - سبحانه وتعالى - والمعنى: وضعك في صورة اقتضتها مشيئته من حسن وقبح وطول، وقصر، وذكورة، وأنوثة.
الثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال، أي: ركبك حاصلاً في بعض الصور.
الثالث: أنه يتعلق بعد ذلك بـ "عَدلَكَ" نقله أبو حيان عن بعض المتأولين، ولم يعترض عليه، وهو معترض بأن في "أيِّ" معنى الاستفهام، فلها صدر الكلام، فكيف يعمل فيها ما تقدمها؟.
وكأن الزمخشري استشعر هذا فقال: ويكون في "أيِّ" معنى التعجب، أي: فعَدلَكَ في أي صورة عجيبة، وهذا لا يحسن أن يكون مجوِّزاً لتقدُّم العامل على اسم الاستفهام، وإن دخله معنى التعجب، ألا ترى أن "كيف، وأي"، وإن دخلهما معنى التعجب، لا يتقدم عاملهما عليهما.
وقد اختلف النحويون في اسم الاستفهام إذا قصد به الاستئناف، هل يجوز تقديم عامله أم لا؟.
والصحيح أنَّه لا يجوز، ولذلك لا يجوز أن يتقدَّم عامل "كم" الخبرية عليها لشبهها في اللفظ بالاستفهامية، فهذا أولى، وعلى تعلقها بـ "عدلك"، تكون "ما" منصوبة على المصدر.
قال أبو البقاء: يجوز أن تكون "ما" زائدة، وأن تكون شرطية، وعلى الأمرين الجملة نعت لـ "صورة"، والعائد محذوف، أي: ركبك عليها، و "في": تتعلق بـ "ركَّبك".
وقيل: لا موضع للجملة؛ لأن "في" تتعلقُ بأحد الفعلين والجميع كلام واحد، وإنما يتقدم الاستفهام على ما هو حقه. قوله: بأحد الفعلين، يعني: "شاء وركبك"، فيحصل في "ما" ثلاثة أوجه، الزيادة، وكونها شرطية، وحينئذ جوابها محذوف، والنصب على المصدرية، أي: واقعة موقع مصدر.