التفاسير

< >
عرض

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
١٠
ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ
١١
وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ
١٢
إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
١٣
كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٤
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ
١٥
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ ٱلْجَحِيمِ
١٦
ثُمَّ يُقَالُ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
١٧
-المطففين

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }.
قيل: إنَّه متصل بقوله تعالى: { يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } لمن كذَّب بأخبار الله تعالى.
وقيل: إنَّ قوله: "مرقوم" معناه: مرقم أي: يدل على الشَّقاوة يوم القيامة، ثم قال: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } في ذلك اليوم من ذلك الكتاب.
ثم إنه - تعالى - أخبر عن صفة من يكذِّب بيوم الدين، فقال تعالى: { وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ }، فقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ } يجوز فيه الإتباع نعتاً وبدلاً وبياناً، والقطع رفعاً ونصباً.
واعلم أنه - تعالى - وصف المكذب بيوم الدين بثلاث صفاتٍ:
أولها: كونه معتدياً، والاعتداء هو التجاوز عن المنهج الحقِّ.
وثانيها: الأثيم وهو المبالغة في ارتكاب الإثم والمعاصي.
وثالثها: { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } والمراد: الذين ينكرون النبوة، والمراد بالأساطير: قيل: أكاذيب الأولين. وقيل: أخبار الأولين.
قوله: { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ }. العامة على الخبر.
والحسن: "أئِذَا؟" على الاستفهام الإنكاري.
والعامَّة: "تتلى" بتاءين من فوق.
وأبو حيوة وابن مقسم: بالياء من تحت؛ لأن التأنيث مجازي.
فصل في المراد بالمكذب في الآية
قال الكلبيُّ: المراد بالمكذِّب هنا: هو الوليدُ بن المغيرةِ - لعنه الله - لقوله تعالى:
{ { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } [القلم: 10] إلى قوله: { { مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } [القلم: 12] وقوله: { { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [القلم: 15].
فقيل: هو الوليد بن المغيرة.
وقيل: هو النَّضر بنُ الحارث.
وقيل: عام في كل موصوف بهذه الصفة.
قوله: { كَلاَّ }. ردعٌ وزجرٌ، أي: ليس هو أساطير الأولين.
وقال الحسن: معناها "حقًّا" ران على قلوبهم.
وقال مقاتلٌ: معناه: لا يؤمنون، ثم استأنف: { بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } قد تقدم وقف حفص على لام "بل" في سورة "الكهف".
والرَّان: الغشاوة على القلب كالصَّدأ على الشيء الصقيل من سيف، ومرآة، ونحوهما.
قال الشاعر: [الطويل]

5129- وكَمْ رَانَ من ذَنْبٍ على قَلْبِ فَاجِرٍ فَتَابَ منَ الذَّنْبِ الذي رَانَ وانْجَلَى

وأصل الرَّيْنِ: الغلبة، ومنه رانت الخمر على عقل شاربها.
وقال الزمخشري: "يقال ران عليه الذنب، وغان عليه، رَيْناً، وغَيْناً، والغَيْنُ: الغَيْمُ".
والغين أيضاً: شجر متلف، الواحدة غَيْنَاء، أي: خضراء كثيرة الورق ملتفة الأغصان.
ويقال: رَانَ رَيْناً ورَيَناً، فجاء مصدره مفتوح العين وساكنها.
وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وأبو بكر والفضل: "رَانَ" بالإمالة؛ لأن فاء الفعل راء، وعينه ألف منقلبة عن ياء، فحسنت الإمالة، ومن فتح فعلى الأصل مثل: كَالَ وبَاعَ.
فصل في المراد بالرَّين والإقفال والطبع
قال أبُو معاذ النحويُّ: الرَّيْنُ، والإقفال: [أن يسود القلب من الذنوب وهو] أشدّ من الطبع، وهو أن يقفلُ على القلب، قال تعالى:
{ { أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [محمد: 24].
قال الزجاجُ: "رَانَ على فُلوبِهمْ" بمعنى غَطَّى على قُلوبِهم.
وقال الحسن ومجاهد: هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب، ويغشى، فيموت القلب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إيَّاكُمْ والمُحقراتِ مِنَ الذنُوبِ، فإنَّ الذنْبَ على الذَّنْبِ يُوقِدُ على صَاحبهِ [جحيماً] ضخمة" .
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ المُؤْمِنَ إذَا أذْنَبَ كَانتْ نُكْتةٌ سَودَاء في قَلْبهِ، فإنْ تَابَ ونَزعَ واسْتَغفرَ صُقِلَ قَلْبهُ مِنْهَا، فإذَا زَادَ زَادتْ حتَّى تَعلُو قَلْبهُ، فَذلِكُمُ الرَّانُ الَّذي ذَكَرَ اللهُ - تعَالَى - في كِتَابِهِ: { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }" .
قوله: { مَّا كَانُواْ } هو الفاعل، و "ما": يحتمل أن تكون مصدرية، وأن تكون بمعنى: "الذي" والعائد محذوف، وأميلت ألف "رَانَ"، وفخمت، فأمالها الأخوان وأبو بكرٍ وفخَّمها الباقُون، وأدغمت لام "بل" في الراء، وأظهرتْ.
قوله تعالى" { كَلاَّ إِنَّهُمْ }.
قال الزمخشريُّ: "كلاَّ" ردع عن الكسب الرَّائن على قلوبهم.
وقال القفالُ: إنَّ الله - تعالى - حكى في سائر السور عن هذا المعتدي الأثيم، أنه كان يقول: إن كانت الآخرة حقًّا، فإن الله - تعالى - يعطيه مالاً وولداً، ثم كذَّبه الله - تعالى - بقوله:
{ { أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } [مريم: 78].
وقال أيضاً:
{ { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً } [الكهف: 36] { { وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } [فصلت: 50]، فلمَّا تكرَّر ذكره في القرآن، ترك الله ذكره - هاهنا - وقال تعالى: { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } أي: ليس الأمر كما يقولون من أن لهم في الآخرة الحسنى، بل هم عن ربهم يومئذ لمحجوبون. وقال ابن عباس أيضاً: "كلاَّ" يريد لا يصدقون, ثم أستأنف, فقال: { إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } وقيل: قوله تعالى: "كلاَّ" تكرير، وتكون "كلاَّ" هذه المذكورة في قوله: "كلا، بل ران على قلوبهم".
قوله: { عَن رَّبِّهِمْ }. متعلق بالخبر، وكذلك "يومئذ"، والتنوين عوض عن جملة، تقديرها: "يوم إذْ يقوم الناس"؛ لأنه لم يناسب إلا تقديرها.
فصل في حجب الكفار عن رؤية ربهم
قال أكثر المفسرين: محجوبون عن رؤيته، وهذا يدل على أن المؤمنين يرون ربهم - سبحانه وتعالى - ولولا ذلك لم يكن للتخصيص فائدة.
وأيضاً فإنه - تعالى - ذكر هذا الحجاب في معرض الوعيد، والتهديد للكفار، وما يكون وعيداً وتهديداً للكفَّار لا يجوز حصوله للمؤمنين، وأجاب المعتزلة عن هذا بوجوه:
أحدها: قال الجبائي: المراد أنهم محجوبون عن رحمة ربهم أي: ممنوعون كما تحجب الأم بالإخوة من الثُّلث إلى السُّدس، ومن ذلك يقال لمن منع من الدخول: حاجب.
وثانيها: قال أبو مسلم: "لمحجوبون" غير مقربِّين، والحجاب: الرَّدُ، وهو ضد القبول، فالمعنى: أنهم غير مقبولين عند الرؤية، فإنه يقال: حُجِبَ عن الأمير، وإن كان قد رآه عن بعدٍ، بل يجب أن يحمل على المنع من رحمته.
وثالثها: قال الزمخشريُّ: كونهم محجوبين عنه تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم؛ لأنه لا يرد على الملوك إلا المكرَّمين لديهم، ولا يُحجب عنهم إلا المبانون عنهم.
والجواب: أن الحجب في استعمالاته مشترك في المنع، فيكون حقيقة فيه، ومنع العبد بالنسبة إلى الله تعالى، إمَّا عن العلم، وإمَّا عن الرؤية، والأول: باطل؛ لأن الكفَّار يعلمون الله تعالى، فوجب حمله على الرؤية.
وأمَّا الوجوه المذكورة فهو عدول عن الظاهر من غير دليل، ويؤيد ما قلنا: أقوال السَّلف من المفسرين:
قال مقاتلٌ: بل لا يرون ربَّهم بعد الحساب، والمؤمنون يرون ربهم.
وقال الكلبيُّ: محجوبون عن رؤية ربهم والمؤمن لا يحجبُ، وسُئلَ مالكُ بنُ أنسٍ - رضي الله عنه - عن هذه الآية، فقال: كما حجب الله تعالى أعداءه فلم يروهُ، ولا بد أن يتجلَّى لأوليائه حتى يروه.
وعن الشَّافعيُّ -رحمه الله - كما حجب قومٌ بالسُّخطِ دلَّ على أنهم يرونهُ بالرضا.
قوله تعالى: { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو ٱلْجَحِيمِ }. أي: إنّ الكفَّار مع كونهم محجوبين من الله يدخلون النار.
{ ثُمَّ يُقَالُ } أي: تقول لهم الخزنةُ: "هذا" أي: هذا العذاب { هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ }، وقوله: يقال يجوز أن يكون القائم مقام الفاعل ما دلَّت عليه جملة قوله: "هَذا الَّذي كُنتُمْ"، ويجوز أن تكون الجملة نفسها، ويجوز أن تكون المصدرية. [وقد تقدم تحريره في أول "البقرة"].