التفاسير

< >
عرض

وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ
١
ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ
٢
وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
٣
أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ
٤
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ
٥
يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٦
-المطففين

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ }.
"ويلٌ": ابتداء، وسوغ الابتداء به كونه دعاء، ولو نصب لجاز.
وقال مكيٌّ: والمختار في "وَيْل" وشبهه إذا كان غير مضاف الرَّفع، ويجوز النصب، فإن كان مضافاً، أو معرفاً كان الاختيار فيه النَّصب نحو:
{ { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ } [طه: 61]، و "للمُطففِينَ" خبره.
والمُطفِّف: المُنْقِص، وحقيقته: الأخذُ في كيل أو وزنٍ شيئاً طفيفاً، أي: نزراً حقيراً، ومنه قولهم: دُون التَّطفيف، أي: الشيء التافه لقلته.
قال الزجاجُ: إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفِّف؛ لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلاَّ الشيء اليسير الطفيف.
فصل في تعلق هذه السورة بما قبلها
قال ابن الخطيب: اتصال أوَّل هذه السورة بالمتقدمة أنَّه تعالى بيَّن في آخر تلك السورة أنَّ من صفة يوم القيامة أنه لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً، والأمر يومئذٍ لله، وذلك يقتضي تهديداً عظيماً للعصاة، فلهذا أتبعه بقوله تعالى: { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } والمراد منه الزجر على التطفيف، وهو البَخْس في المكيال والميزان على سبيل الخفية.
واعلم أن الويل كلمة تذكر عند وقوع البلاء، يقال: ويل لك، وويل عليك، وفي اشتقاق لفظ التطفيف قولان:
الأول: قول الزجاج المتقدم.
والثاني: أنَّ طف الشيء، هو جانبه وحرفه يقال: طفَّ الوادي والإناء إذا بلغ الشيء الذي فيه حرفه، ولم يمتلئ، فهو طفافه وطففه، يقال: هذا طف المكيال وطفافه إذا قارب ملأه، لكنه بعدُ لم يمتلئ، ولهذا قيل للذي "ينقص" الكيل ولا يوفيه مطفف. لأنه إنما يبلغ الطفاف.
فصل في نزول الآية
روى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:
" لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، كانوا من أبْخَس النَّاس كيلاً، فأنزل الله تعالى: { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ }، فاجتنبوا الكيل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم، وقال: خَمْسٌ بِخمْسٍ، ما نقص قومٌ العَهْدَ إلاَّ سلَّط اللهُ عليهم عدُوَّهُم، ولا حكمُوا بغيرِ مَا أنْزَلَ اللهُ إلاَّ فَشَا فِيِهمُ الفقرُ، ولا ظَهَرَ فِيهمُ الفَاحِشَةُ إلاَّ ظَهَرَ فِيهمُ المَوْتُ، ولا طَفَّفُوا المِكْيَالَ إلاَّ مُنِعُوا النَّباتَ وأخذُوا بالسِّنينَ، ولا مَنَعُوا الزَّكاةَ إلاَّ حُبِسَ عَنْهُم المَطرُ" .
وقال السديُّ: قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم "المدينة"، وبها رجل يقال له: أبو جهينة، ومعه صاعان يكيل بأحدهما، ويكيل بالآخر فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: المطفف الرجل الذي يستأجر المكيال، وهو يعلم أنه يحيف في كيله فوزن عليه.
قوله: { عَلَى ٱلنَّاسِ }. فيه أوجه:
أحدها: أنَّه متعلق بـ "اكتالوا"، و "على" و "من"يتعاقبان" هنا. قال الفراء: يقال: اكتلتُ على النَّاسِ: اسْتوفَيْتُ مِنهُمْ، واكْتلتُ مِنهُمْ: أخذتُ مَا عَليْهِمْ.
وقيل: "على" بمعنى اكتل على ومنه بمعنى، والأول أوضح.
وقيل: "على" يتعلق بـ "يستوفون".
قال الزمخشري" لما كان اكتيالهم لا يضرهم، ويتحامل فيه عليهم أبدل "على" مكان "من" للدلالة على ذلك، ويجوز أن يتعلق بـ "يستوفون" وقدَّم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية، أي: يستوفون على الناس خاصَّة، فأمَّا أنفسهم فيستوفون لها. وهو حسن.
قوله تعالى: { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ }. رُسمتَا في المصحف بغير ألف بعد الواو في الفعلين، فمن ثم اختلف الناس في "هم" على وجهين.
أحدهما: هو ضمير نصب فيكون مفعولاً به، ويعود على الناس، أي: وإذا كالوا الناس أو وزنوا الناس، وعلى هذا فالأصل في هذين الفعلين التعدي لاثنين: لأحدهما بنفسه بلا خلاف وللآخر بحرف الجر، ويجوز حذفه.
وهل كل منهما أصل بنفسه، أو أحدهما أصل للآخر؟ فيه خلاف، والتقدير: وإذا كالوا لهم طعاماً، أو وزنوه لهم، فحذف الحرف والمفعول؛ وأنشد: [الطويل]

5127- ولقَدْ جَنيتُكَ أكَمُؤاً وعَساقِلاً ولقَدْ نَهيتُكَ عَن بَناتِ الأوبَرِ

أي: جنيت لك.
والثاني: أنَّه ضمير رفع مؤكد للواو، والضمير عائد على "المطففين"، ويكون على هذا قد حذف المكيل والمكيل له، والموزون والموزون له.
إلا أن الزمخشري رد هذا فقال: "ولا يصح أن يكون ضميراً مرفوعاً "للمطففين"، لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد، وذلك أن المعنى: إذا أخذوا من الناس،، استوفوا، وإذا أعطوهم أخسروا، وإن جعلت الضمير "للمطففين" انقلب إلى قولك: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإن تولوا الكيل، أو الوزن هم على الخصوص أخسروا، وهو كلام متنافر؛ لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر".
قال أبو حيان: ولا تنافر فيه بوجه، ولا رق بين أن يؤكد الضمير، وألاَّ يؤكد، والحديث واقع في الفعل، غاية ما في هذا أن متعلِّق الاستيفاء، وهو "على الناس" مذكور، وهو في "كالوهم أو وزنوهم" محذوف للعلم به؛ لأنَّه من المعلوم أنهم لا يخسرُون ذلك لأنفسهم.
قال شهابُ الدين: الزمخشري يريد أن يحافظ على أنَّ المعنى مرتبط بشيئين: إذا أخذوا من غيرهم، وإذا أعطوا غيرهم، وهذا إنَّما فهم على تقدير أن يكون الضمير منصوباً عائداً على الناس، لا على كونه ضمير رفع عائداً على الناس، لا على كونه رفع عائداً على "المطففين"، ولا شك أن هذا المعنى الذي ذكره الزمخشري وأراده أتم وأحسن من المعنى الثاني، ورجَّح الأول سقوط الألف بعد الواو؛ لأنه دال على اتصال الضمير.
إلاَّ أن الزمخشري استدرك فقال: "والتعلق في إبطاله بخط المصحف، وأن الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه ركيك؛ لأن خط المصحف لم يراع في كثير منه حد المصطلح عليه في علم الخط على أني رأيت في الكتب المخطوطة بأيدي الأئمة المتقنين هذه الألف مرفوضة، لكونها غير ثابتة في اللفظ والمعنى جميعاً؛ لأن الواو وحدها معطية معنى الجمع، وإنما كتبت هذه الألف تفرقة بين واو الجمع وغيرها في نحو قولك: "هم لم يدعوا، وهو يدعو"، فمن لم يثبتها قال: المعنى كافٍ في التفرقة بينهما، وعن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يرتكبان ذلك، أي: يجعلان الضميرين "للمطففين"، ويقفان عند الواوين وقيفة، يبينان بها ما أرادوا". ولم يذكر فعل الوزن أوَّلاً، بل اقتصر على الكيل، فقال: "إذا اكتالوا"، ولم يقل: إذا اتزنوا، كما قال ثانياً: "أوْ وزَنُوهُمْ".
قال ابن الخطيب: لأن الكيل والوزن بهما البيع والشراء، فأحدهما يدل على الآخر.
وقال الزمخشري: "كأنَّ المطففين كانوا لا يؤخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين، لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً".
قوله: "يُخْسِرُونَ" جوابُ "إذا"، وهو يتعدَّى بالهمزة، يقال: خسر الرجل وأخسرته أنا، فمفعوله محذوف، أي: يخسرون الناس متاعهم. قال المؤرج: يخسرون أي ينقصون بلغة "قريش".
فصل في تفسير الآية
قال الزجاج: المعنى: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل والوزن.
أي: إذا استوفوا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن، "وإذَا كَالُوهُمْ أو وزَنُوهُمْ" أي: كالوا لهم، أو وزنوا لهم، أي: للناس، ولمَّا كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً فيه إضرارٌ بهم، وتحاملٌ عليهم أقيمَ "على" مقام "من" للدلالة على ذلك.
وقال الكسائيُّ والفراءُ: حذف الجار وأوصل الفعل، وهذا من كلام أهل الحجاز، ومن جاورهم، يقال: وزنتك حقك، وكلتك طعامك أي: وزنت لك، وكلتُ لك، كما يقال: نصحتك، ونصحت لك، وكسيتك، وكسيت لك.
وقال الفراء: المراد اكتالوا من الناس، و "على" و "من" يتعاقبان؛ لأنه حق عليه فإذا فلت: اكتلت عليك، فكأنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قلت: اكتلت منك فهو كقولك: استوفيت منك.
وقيل: على حذف مضاف، أي: إذا كالوا مكيلهم، أو وزنوا لهم موزونهم.
قوله: { أَلا يَظُنُّ }: الظَّاهر أنَّها "ألا" التحضيضية، حضهم على ذلك، ويكون الظنُّ بمعنى: اليقين.
وقيل: هي "لا" النافية دخلت عليها همزة الاستفهام.
ومعنى الآية: ألا يستيقن أولئك الذي يفعلون ذلك بأنهم مبعوثون ليوم عظيم، وهو يوم القيامة، وفي الظن هنا قولان:
أحدهما: أنَّ المراد به: العلمُ، وعلى هذا التقدير يحتملُ أن يكون المخاطبون بهذا الخطاب من جملة المصدِّقين بالبعث، ويحتمل ألاَّ يكونوا كذلك لتمكُّنهم من الاستدلال عليه بالفعل.
الثاني: أنَّ المراد بالظن هنا: هو الظن نفسه، لا العلم، ويكون المعنى: هؤلاء المطففون هَبْ أنهم لا يجزمون بالبعث، ولكن لا أقل من الظن لوضوح أدلَّته، فإنَّ الأليق بحكمة الله - تعالى - ورحمته، ورعايته مصالح خلقه ألاَّ يهمل أمرهم بعد الموت، وأن يكون لهم نشر وحشر، وأن هذا الظَّن كافٍ في حصول الخوف.
قوله: { يَوْمَ }: يجوز نصبه بـ "مبعوثون".
قال الزمخشريُّ: أو بـ "يبعثون" مقدراً، أو على البدل من محل اليوم، أو بإضمار "أعني"، أو هو مرفوع المحل لإضافته لفعل وإن كان مضارعاً، كما هو رأيُ الكوفيين، ويدل على صحة هذين الوجهين، قراءة زيد بن عليٍّ: "يَوْمَ يقُومُ" بالرفع، وما حكاه أبو معاذ القارئ: "يومِ" بالجر على ما تقدَّم.
فصل في المراد بقيام الناس لرب العالمين
قيام الناس لرب العالمين إمَّا للحساب، وإمَّا قيامهم من القبور.
وقال أبُو مسلم: قيامهم له عبارة عن طاعتهم له وانقيادهم، كقوله تعالى:
{ { وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الانفطار: 19]، وفي الحديث: "إنَّ النَّاسَ يَقُومُونَ مِقدارَ ثَلاثِمائةِ سَنَة لا يُؤْمَرُ فِيهِمْ بأمْرٍ" .
وعن ابن عباس: وهو في حقِّ المؤمنين كقدر انصرافهم من الصلاة. وفي هذه الآيات مبالغات، منها أنَّ الويل إنما يذكر عند شدة البلاء، ومنها الإنكار بقوله تعالى: { أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ }، ومنها استعظامه - تعالى - لليومِ، ومنها تأكيده بما بعده، وما يوهم ذلك، وما يقتضيه من خضوعهم وذلتهم، وفي هذا نكتة، وهي كأن قائلاً يقول: هذا التشديد العظيم، والوعيد البليغ، كيف يكون على التطفيف مع نزارته، وزهادته، وكرم المولى وإحسانه؟.
فأشار بقوله: { لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } إلى أنَّه مُربيهم ومسئول عن أمورهم، فلا يليق أن يهمل من أمورهم شيئاً.
فصل في الكلام على لفظ "المطفف"
قال القشيري: لفظ المطفِّف يتناول التطفيف في الوزن والكيل، وفي إظهار العيب، وإخفائه؛ وفي طلب الإنصاف والانتصاف، ويقال: من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه، فليس بمنصف، والمباشرة والصحبة من هذه المادة، والذي يرى عيب الناس، ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة، ومن طلب حقَّ نفسه من الناس، ولا يعطيهم حقوقهم، كما يتطلبه.