التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ
٧
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ
٨
كِتَابٌ مَّرْقُومٌ
٩
-المطففين

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ }.
"كَلاَّ" حرف ردع، أي: ليس الأمر على ما هم عليه فَليَرتَدِعُوا، وها هنا تم الكلام.
وقال الحسنُ: "كَلاَّ": ابتداء يتصل بما بعده على معنى "حقًّا" إنَّ كتابَ الفجَّار الذي كتب فيه أعمالهم لفي سجين.
اختلفوا في نون "سِجِّين".
فقيل: هي أصليَّة، واشتقاقه من السَّجن، وهو الحبسُ، وهو بناء مبالغة "فعيلاً" من السجن، كـ "سِكِّير" و "فسِّيق" من السكر والفسق وهو قول أبي عبيدة والمبرد والزجاج.
قال الواحدي: وهذا ضعيف؛ لأن العرب ما كانت تعرف سجيناً.
وقيل: "النون" بدل من "اللام"، والأصل: "سجيل" مشتقاً من السِّجل، وهو الكتاب.
واختلفوا فيه أيضاً: هل هو اسم موضع، أو اسم كتاب مخصوص؟.
وقيل: هو صفة، أو علمٌ منقول من وصفٍ كـ "خاتم"، وهو مصروف إذ ليس فيه إلا سبب واحدٌ، وهو العلمية.
وإذا كان اسم مكان، فقوله تعالى: { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } إمَّا بدل منه، أو خبر لمبتدأ محذوف، وهو ضمير يعود عليه.
وعلى التقديرين فهو مشكل؛ لأن الكتاب ليس هو المكان.
فقيل: التقدير، هو محل كتاب، ثم حذف المضاف.
وقيل: التقدير: وما أدراك ما كتاب سجين، والحذف إما من الأول وإمّا من الثاني.
وأما إذا قلنا: إنه اسم لكتاب فلا إشكال.
وقال ابن عطية: من قال: إن سجيناً موضع، فكتاب مرفوع على أنه خبر "إنَّ"، والظرف الذي هو "لفي سجين" ملغى، ومن جعله عبارة عن الخسار، فـ "كتاب" خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هو كتاب، ويكون هذا الكلام مفسراً لسجين ما هو انتهى.
وهذا لا يصح - ألبتة - إذ دخول اللام يعيّن كونه خبراً، فلا يكون ملغياً لا يقال: "اللام" تدخل على معمول الخبر، فهذا منه، فيكون ملغىً؛ لأنَّه لو فرض الخبر، وهو "كتاب" عاملاً أو صفته عاملة، وهو "مَرقُوم" لامتنع ذلك، أمّا منع عمل "كتاب"، فلأنه موصوف، والمصدر الموصوف لا يعمل، وأمَّا امتناع عمل "مرقوم"؛ فلأنه صفة، ومعمول الصفة لا يتقدم على موصوفها، وأيضاً: فاللام إنما تدخل على معمول الخبر بشرطه، وهذا ليس معمولاً للخبر، فتعيَّن أن يكون الجار هو الخبر، وليس بملغى.
وأمَّا قوله ثانياً: ويكون هذا الكلام تفسيراً لـ "سجين" ما هو, فهو مشكل، لأن الكتاب ليس هو الخسار الذي جعل الضمير عائداً عليه مخبراً عنه بـ "كتاب".
وقال الزمخشري: فإن قلت: قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجَّار بأنه في سجِّين، وفسَّر سجيناً بـ "كتاب مرقوم"، فكأنه قيل: إنَّ كتابهم في كتاب مرقوم فما معناه؟.
قلت: سجين: كتاب جامع هو: ديوان الشر دون الله فيه أعمال الشياطين، وأعمال الكفرة والفسقة من الجنِّ والإنسِ، وهو كتاب مرقومٌ مسطورٌ بين الكتابة، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه، فالمعنى: أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان، وسمي "سجِّيْناً"فعيلاً" من السجن؛ لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم انتهى.
فصل في تفسير معنى سجين
قال عبدُ اللهِ بن عُمرَ وقتادةُ ومجاهدٌ والضحاكُ: "سِجِّين" هي الأرض السابعة السفلى، فيها أرواح الكفَّار.
وروى البراء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" سِجِّين أسفلُ سبْعِ أرضين، و عِلِّيُّون في السماءِ السَّابعة تحت العرشِ" .
وقال الكلبي: هي صخرة تحت الأرض السابعة.
وقال عكرمةُ: "لفي سجِّين" لفي خسارةٍ وضلالٍ.
قال القشيريُّ: "سجين": موضع في السافلين، يدفن فيه كتاب هؤلاء، فلا يظهر، بل يكون في ذلك الموضع كالمسجون.
قوله تعالى: { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ }، أي: ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت، ولا قومك.
قال القرطبي: وليس في قوله تعالى: { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } ما يدل على أن لفظ "سجين" ليس عربياً، كما لا يدل قوله:
{ { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْقَارِعَةُ } [القارعة: 3]، بل هو تعظيم لأمْرِ سجين.
قوله تعالى: { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } قال المفسرون: ليس هذا تفسيراً لـ "سجين"، بل هو بيان للكتاب المذكور في قوله: "إنَّ كِتابَ الفُجَّار" أي: هو كتاب مرقوم، أي: مكتوب فيه أعمالهم مثبت عليهم، كالرقم لا ينسى ولا يمحى حتى يجازى به، والرقم: الخط؛ قال: [الطويل]

5128- سَأرْقمُ فِي المَاءِ القَراحِ إليْكمُ عَلَى بُعدكُمْ، إنْ كَانَ في الماءِ رَاقمُ

وقيل: الرَّقْمُ: الختم بلغة حمير. [وتقدمت هذه المادة في سورة "الكهف"].
وقال قتادةُ ومقاتل: رقم: نشر، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنَّه كافر.