التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ
٦
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ
٧
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً
٨
وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً
٩
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ
١٠
فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً
١١
وَيَصْلَىٰ سَعِيراً
١٢
إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً
١٣
إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ
١٤
بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً
١٥
-الانشقاق

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ }.
قيل: المراد جنس الإنسان، كقولك: يا أيها الرجل، فكان خطاباً خص به كل واحد من الناس.
قال القفال: وهو أبلغ من العموم؛ لأنه قائم مقام التنصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين، بخلاف اللفظ العام.
وقيل: المراد منه رجل بعينه، فقيل: هو محمد - عليه الصلاة والسلام -، والمعنى: أنك تكدح في إبلاغ رسالات الله - تعالى - وإرشاد عباده، وتحمل الضرر من الكفَّار، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل.
وقال ابنُ عبَّاسٍ: هو أبيّ بن خلفٍ، وكدحه: هو جده واجتهاده في طلب الدنيا، وإيذاء الرسول - عليه الصلاة والسلام - والإصرار على الكفر.
فصل في المراد بالكدح
الكَدْحُ: قال الزمخشريُّ: جَهْدُ النفس، والكدْم فيه حتى يؤثر فيها، ومنه كدح جلدهُ إذا خدشه، ومعنى "كادح" أي: جاهد إلى لقاء ربك وهو الموت. انتهى. وقال ابن نفيلِ: [الطويل]

5137- ومَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا أمُوتُ، وأخرَى أبْتَغِي العَيْشَ أكْدَحُ

وقال آخر: [الكامل]

5138- ومَضَتْ بَشَاشَةُ كُلِّ عَيْشٍ صالحٍ وبَقِيتُ أكْدَحُ لِلْحياةِ وأنْصَبُ

وقال الراغب: وقد يستعمل الكدح دون الكلام بالأسنان.
وقال الخليل: الكدحُ دون الكدم.
فصل في معنى الآية
معنى "كادحُ إلى ربِّك" أي: ساع إليه في عملك.
والكدحُ: عمل الإنسان وجهده في الخير والشر.
قال قُتَادةُ والكلبيُّ والضحاكُ: عامل لربك عملاً، وقوله تعالى: { إِلَىٰ رَبِّكَ } أي: إلى لقاء ربك، وهو الموت، أي: هذا الكدح استمر إلى هذا الزمن.
وقال القفال: تقديره: أنك كادح في دنياك مدحاً تصير به إلى ربك.
قوله: "فمُلاقِيهِ": يجوز أن يكون عطفاً على ["إنك] كادح"، والسبب فيه ظاهر، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: فأنت ملاقيه، وقد تقدم أنه يجوز أن يكون جواباً للشرط.
وقال ابن عطية: فالفاء على هذا عاطفة جملة الكلام على التي قبلها، والتقدير: فأنت ملاقيه. يعني بقوله: "على هذا" أي: على عود الضَّمير على كدحكَ.
قال أبو حيَّان: "ولا يتعين ما قاله، بل يجوز أن يكون من عطف المفردات".
والضميرُ في "فملاقيه": إمَّا للربِّ، أي: ملاقي حكمه لا مفر لك منه. قاله الزجاج.
وإمَّا لـ "الكدح" إلا أن الكدحَ عمل، وهو عرض لا يبقى، فملاقاته ممتنعة، فالمراد: جزاءُ كدحكَ.
وقال ابنُ الخطيب: المراد: ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال، ويتأكد هذا بقوله بعده: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ }.
قوله: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ }، أي: ديوان أعماله بيمينه.
{ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً }، "سوف" من الله واجب، كقول القائل: اتبعني فسوف تجد خيراً، فإنه لا يريد الشك، وإنما يريد تحقيق الكلام، والحساب اليسير: هو عرض أعماله، فيثاب على الطاعة، ويتجاوزُ عن المعصيَّةِ، ولا يقال: لم فعلت هذا، ولا يطالبُ بالحُجَّةِ عليه.
قال صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ، قالت عائشة - رضي الله عنها -: أوَ لَيْسَ يقُولُ تعَالَى: { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } فقال: إنَّما ذَلِكَ العرضُ، ولَكِنْ من نُوقِشَ الحسابَ عُذِّب" .
قوله تعالى: { وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ } في الجنة من الحُورِ العينِ، والآدميَّات والذريَّات إذا كانوا مؤمنين ["مَسْرُوراً" أي: مُغْتَبِطَاً قرير العين].
قال ابنُ الخطيب: فإن قيل: إنَّ المحاسبة تكون بين اثنين، وليس في القيامة لأحد مطالبة قبل ربِّه فيحاسبه؟.
فالجواب: إن العبد يقول: إلهي، فعلتُ الطاعة الفلانيَّة، والربُّ - سبحانه وتعالى - يقول: فعلتَ المعصيَّة الفُلانيَّة، فكان ذلك من الرب - سبحانه وتعالى - ومن العبد محاسبة، والدليل أنه - تعالى - خصَّ الكفَّار بأنه لا يكلمهم، فدل ذلك على أنه يكلم المطيعين، فتلك المكالمة محاسبة.
قوله: "مَسْرُوراً": حال من فاعل "يَنْقَلِبُ".
وقرأ زيد بن علي: "يُقْلَبُ" مبنياً للمفعول من "قلبه" ثلاثياً.
قوله: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ }.
قيل: نزلت في الأسودِ بن عبدِ الأسودِ. قاله ابنُ عباسٍ. وقيل: عامة.
وقال الكلبيُّ: لأن يمينه مغلولة إلى عنقه، ويجعل اليسرى ممدودة وراء ظهره.
وقيل: يحوَّلُ وجهه إلى قفاه، فيقرأ كتابه كذلك.
وقيل: يُؤتَى كتابه بشماله من ورائه؛ لأنه إذا حاول أخذه بيمينه كالمؤمنين مُنِعَ من ذلك، وأوتي كتابه بشماله.
فإن قيل: أليس أنه تعالى قال في سورة الحاقة:
{ { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ } [الحاقة: 25]، فكيف قال هنا: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ }؟.
فالجواب: أنَّه يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره.
قوله: { فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً }، أي: ينادي بالويل، الهلاك إذا قرأ كتابه يقول: يا ويلاه يا ثُبُورَاهُ، كقوله تعالى:
{ { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [الفرقان: 13].
قوله: { وَيَصْلَىٰ سَعِيراً }، قرأ أبو عمرو وحمزة وعاصم: بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام.
والباقون: بضم الياء وفتح اللام والتثقيل، وقد تقدم تخريج القراءتين في سورة النساء عند قوله تعالى:
{ { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [النساء: 10].
وقرأ أبو الأشهب ونافع وعاصمٌ وأبو عمرو في رواية عنهم: "يُصْلَى" بضم الياء وسكون الصاد من أصلاه.
قوله تعالى: { إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً }.
قال القفال: مُنعَّماً مستريحاً من التعب بأداء العبادات، واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والجهاد، مقدماً على المعاصي، آمناً من الحساب والعذاب والعقاب، لا يخاف الله - تعالى - ولا يرجوه، فأبدله الله بذلك السرور غماً باقياً لا ينقطع.
وقيل: إن قوله: { إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً }، كقوله تعالى:
{ { وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ } [المطففين: 31]، أي: متنعمين في الدنيا، معجبين بما هم عليه من الكفر بالله، والتكذيب بالبعث، يضحك ممن آمن بالله وصدَّق بالحساب، كما قال صلى الله عليه وسلم: "الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤمن وجنَّةُ الكَافِرِ" .
قوله: { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ }. معنى "يَحُور" أي: يرجع، يقال: حَارَ يَحُورُ حَوْرَاً؛ قال لبيدٌ: [الطويل].

5139- ومَا المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئِهِ يَحُورُ رَمَادَاً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ

ويستعمل بمعنى: "صار"، فيرفع الاسم وينصب الخبر عند بعضهم مستدلاً بهذا البيت، وموضع نصب "رماداً" على الحال.
وقال الراغب: "الحَوْرُ: التردد في الأمر، ومنه: "نعوذ بالله من الحور بعد الكور"، أي: من التردد في الأمر بعد المضي فيه، ومحاورة الكلام: مراجعته، والمحور: العود الذي تجري فيه البكرة لترددها عليه، والمحار: المرجع والمصير".
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: ما كنت أدري ما معنى: "حَوْر" حتى سمعت أعرابياً يقول لابنته: "حُورِي" أي: ارجعي.
وقال عكرمة وداود بن أبي هند: "يَحُور": كلمة بالحبشية، ومعناها: يرجع.
قال القرطبي: "ويجوز أن تتفق الكلمتان، فإنَّهما كلمة اشتقاق، ومنه: الخبز الحُوارى، لأنه يرجع إلى البياض".
والحُور أيضاً: الهلاك.
قال الراجز: [الرجز].

5140- فِـي بِئْـرِ لا حُـورٍ سَـرَى ولا شَعَــرْ

وقوله تعالى: { أَن لَّن يَحُورَ }: "أن لن" هذه "أن" المخففة كالتي في أوَّل سورة القيامة، وهي سادَّة مسد المفعولين، أو أحدهما على الخلاف.
وقوله: "بَلَى" جواب للنفي في "لن"، و "أن": جواب قسم مقدر، والمعنى: إنه ظن أن لن يرجع إلينا ولن يبعث، ثم قال: "بَلَى" أي: ليس كما ظن بلى يحور إلينا، أي: يبعث.
{ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً } [قال الكلبي: بصيراً به من يوم خلقة إلى أن يبعثه.
وقال عطاء: بصيراً] بما سبق عليه في أمَّ الكتاب من الشقاوة.