قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ }.
قيل: المراد جنس الإنسان، كقولك: يا أيها الرجل، فكان خطاباً خص به كل واحد من الناس.
قال القفال: وهو أبلغ من العموم؛ لأنه قائم مقام التنصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين، بخلاف اللفظ العام.
وقيل: المراد منه رجل بعينه، فقيل: هو محمد - عليه الصلاة والسلام -، والمعنى: أنك تكدح في إبلاغ رسالات الله - تعالى - وإرشاد عباده، وتحمل الضرر من الكفَّار، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل.
وقال ابنُ عبَّاسٍ: هو أبيّ بن خلفٍ، وكدحه: هو جده واجتهاده في طلب الدنيا، وإيذاء الرسول - عليه الصلاة والسلام - والإصرار على الكفر.
فصل في المراد بالكدح
الكَدْحُ: قال الزمخشريُّ: جَهْدُ النفس، والكدْم فيه حتى يؤثر فيها، ومنه كدح جلدهُ إذا خدشه، ومعنى "كادح" أي: جاهد إلى لقاء ربك وهو الموت. انتهى. وقال ابن نفيلِ: [الطويل]
5137- ومَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا أمُوتُ، وأخرَى أبْتَغِي العَيْشَ أكْدَحُ
وقال آخر: [الكامل]
5138- ومَضَتْ بَشَاشَةُ كُلِّ عَيْشٍ صالحٍ وبَقِيتُ أكْدَحُ لِلْحياةِ وأنْصَبُ
وقال الراغب: وقد يستعمل الكدح دون الكلام بالأسنان.
وقال الخليل: الكدحُ دون الكدم.
فصل في معنى الآية
معنى "كادحُ إلى ربِّك" أي: ساع إليه في عملك.
والكدحُ: عمل الإنسان وجهده في الخير والشر.
قال قُتَادةُ والكلبيُّ والضحاكُ: عامل لربك عملاً، وقوله تعالى: { إِلَىٰ رَبِّكَ } أي: إلى لقاء ربك، وهو الموت، أي: هذا الكدح استمر إلى هذا الزمن.
وقال القفال: تقديره: أنك كادح في دنياك مدحاً تصير به إلى ربك.
قوله: "فمُلاقِيهِ": يجوز أن يكون عطفاً على ["إنك] كادح"، والسبب فيه ظاهر، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: فأنت ملاقيه، وقد تقدم أنه يجوز أن يكون جواباً للشرط.
وقال ابن عطية: فالفاء على هذا عاطفة جملة الكلام على التي قبلها، والتقدير: فأنت ملاقيه. يعني بقوله: "على هذا" أي: على عود الضَّمير على كدحكَ.
قال أبو حيَّان: "ولا يتعين ما قاله، بل يجوز أن يكون من عطف المفردات".
والضميرُ في "فملاقيه": إمَّا للربِّ، أي: ملاقي حكمه لا مفر لك منه. قاله الزجاج.
وإمَّا لـ "الكدح" إلا أن الكدحَ عمل، وهو عرض لا يبقى، فملاقاته ممتنعة، فالمراد: جزاءُ كدحكَ.
وقال ابنُ الخطيب: المراد: ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال، ويتأكد هذا بقوله بعده: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ }.
قوله: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ }، أي: ديوان أعماله بيمينه.
{ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً }، "سوف" من الله واجب، كقول القائل: اتبعني فسوف تجد خيراً، فإنه لا يريد الشك، وإنما يريد تحقيق الكلام، والحساب اليسير: هو عرض أعماله، فيثاب على الطاعة، ويتجاوزُ عن المعصيَّةِ، ولا يقال: لم فعلت هذا، ولا يطالبُ بالحُجَّةِ عليه.
قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ، قالت عائشة - رضي الله عنها -: أوَ لَيْسَ يقُولُ تعَالَى: { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } فقال: إنَّما ذَلِكَ العرضُ، ولَكِنْ من نُوقِشَ الحسابَ عُذِّب" .
قوله تعالى: { وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ } في الجنة من الحُورِ العينِ، والآدميَّات والذريَّات إذا كانوا مؤمنين ["مَسْرُوراً" أي: مُغْتَبِطَاً قرير العين].
قال ابنُ الخطيب: فإن قيل: إنَّ المحاسبة تكون بين اثنين، وليس في القيامة لأحد مطالبة قبل ربِّه فيحاسبه؟.
فالجواب: إن العبد يقول: إلهي، فعلتُ الطاعة الفلانيَّة، والربُّ - سبحانه وتعالى - يقول: فعلتَ المعصيَّة الفُلانيَّة، فكان ذلك من الرب - سبحانه وتعالى - ومن العبد محاسبة، والدليل أنه - تعالى - خصَّ الكفَّار بأنه لا يكلمهم، فدل ذلك على أنه يكلم المطيعين، فتلك المكالمة محاسبة.
قوله: "مَسْرُوراً": حال من فاعل "يَنْقَلِبُ".
وقرأ زيد بن علي: "يُقْلَبُ" مبنياً للمفعول من "قلبه" ثلاثياً.
قوله: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ }.
قيل: نزلت في الأسودِ بن عبدِ الأسودِ. قاله ابنُ عباسٍ. وقيل: عامة.
وقال الكلبيُّ: لأن يمينه مغلولة إلى عنقه، ويجعل اليسرى ممدودة وراء ظهره.
وقيل: يحوَّلُ وجهه إلى قفاه، فيقرأ كتابه كذلك.
وقيل: يُؤتَى كتابه بشماله من ورائه؛ لأنه إذا حاول أخذه بيمينه كالمؤمنين مُنِعَ من ذلك، وأوتي كتابه بشماله.
فإن قيل: أليس أنه تعالى قال في سورة الحاقة: { { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ } [الحاقة: 25]، فكيف قال هنا: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ }؟.
فالجواب: أنَّه يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره.
قوله: { فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً }، أي: ينادي بالويل، الهلاك إذا قرأ كتابه يقول: يا ويلاه يا ثُبُورَاهُ، كقوله تعالى: { { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [الفرقان: 13].
قوله: { وَيَصْلَىٰ سَعِيراً }، قرأ أبو عمرو وحمزة وعاصم: بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام.
والباقون: بضم الياء وفتح اللام والتثقيل، وقد تقدم تخريج القراءتين في سورة النساء عند قوله تعالى: { { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [النساء: 10].
وقرأ أبو الأشهب ونافع وعاصمٌ وأبو عمرو في رواية عنهم: "يُصْلَى" بضم الياء وسكون الصاد من أصلاه.
قوله تعالى: { إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً }.
قال القفال: مُنعَّماً مستريحاً من التعب بأداء العبادات، واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والجهاد، مقدماً على المعاصي، آمناً من الحساب والعذاب والعقاب، لا يخاف الله - تعالى - ولا يرجوه، فأبدله الله بذلك السرور غماً باقياً لا ينقطع.
وقيل: إن قوله: { إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً }، كقوله تعالى: { { وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ } [المطففين: 31]، أي: متنعمين في الدنيا، معجبين بما هم عليه من الكفر بالله، والتكذيب بالبعث، يضحك ممن آمن بالله وصدَّق بالحساب، كما قال صلى الله عليه وسلم: "الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤمن وجنَّةُ الكَافِرِ" .
قوله: { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ }. معنى "يَحُور" أي: يرجع، يقال: حَارَ يَحُورُ حَوْرَاً؛ قال لبيدٌ: [الطويل].
5139- ومَا المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئِهِ يَحُورُ رَمَادَاً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ
ويستعمل بمعنى: "صار"، فيرفع الاسم وينصب الخبر عند بعضهم مستدلاً بهذا البيت، وموضع نصب "رماداً" على الحال.
وقال الراغب: "الحَوْرُ: التردد في الأمر، ومنه: "نعوذ بالله من الحور بعد الكور"، أي: من التردد في الأمر بعد المضي فيه، ومحاورة الكلام: مراجعته، والمحور: العود الذي تجري فيه البكرة لترددها عليه، والمحار: المرجع والمصير".
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: ما كنت أدري ما معنى: "حَوْر" حتى سمعت أعرابياً يقول لابنته: "حُورِي" أي: ارجعي.
وقال عكرمة وداود بن أبي هند: "يَحُور": كلمة بالحبشية، ومعناها: يرجع.
قال القرطبي: "ويجوز أن تتفق الكلمتان، فإنَّهما كلمة اشتقاق، ومنه: الخبز الحُوارى، لأنه يرجع إلى البياض".
والحُور أيضاً: الهلاك.
قال الراجز: [الرجز].
5140- فِـي بِئْـرِ لا حُـورٍ سَـرَى ولا شَعَــرْ
وقوله تعالى: { أَن لَّن يَحُورَ }: "أن لن" هذه "أن" المخففة كالتي في أوَّل سورة القيامة، وهي سادَّة مسد المفعولين، أو أحدهما على الخلاف.
وقوله: "بَلَى" جواب للنفي في "لن"، و "أن": جواب قسم مقدر، والمعنى: إنه ظن أن لن يرجع إلينا ولن يبعث، ثم قال: "بَلَى" أي: ليس كما ظن بلى يحور إلينا، أي: يبعث.
{ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً } [قال الكلبي: بصيراً به من يوم خلقة إلى أن يبعثه.
وقال عطاء: بصيراً] بما سبق عليه في أمَّ الكتاب من الشقاوة.