التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ
١١
وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ
١٢
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ
١٣
وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ
١٤
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً
١٥
وَأَكِيدُ كَيْداً
١٦
فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً
١٧
-الطارق

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ }.
قيل: الرَّجْعُ: مصدر، بمعنى رجوع الشمس والقمر إليها، والنجوم تطلع من ناحيته، وتغيب في أخرى.
وقيل: الرَّجْعُ: المطر؛ قال: المتنخِّل، يصف سيفاً يشبههُ بالماء: [السريع]

5170- أبْيَضُ كالرَّجْعِ رَسُـوبٌ إذَا مــا ثَـاخَ فــي مُحْتـفـلٍ يَخْتَـلِــي

وقال: [البسيط]

5171- رَبَّاءُ شَمَّاءُ لا يَأوِي لقُلَّتِهَا إلاَّ السَّحَابُ وإلاَّ الأوبُ والسَّبلُ

وقال الخليل: المطر نفسه، وهذا قول الزجاج.
قال ابن الخطيب: واعلم أن كلام الزجاج، وسائر علماء اللغة "صريح" في أن الرجع ليس اسماً موضوعاً للمطر، بل سمي رجعاً مجازاً، وحسن هذا المجاز وجوه:
أحدها: قال القفال: كأنه من ترجيع الصوت وهو إعادته، ووصل الحروف به، وكذا المطر، لكونه يعود مرة بعد أخرى سمِّي رجعاً.
وثانيها: أن العرب كانوا يزعمون أنَّ السَّحاب يحمل الماء من بحار الأرض، ثم يرجعه إلى الأرض.
والرجع - أيضاً - نبات الربيع.
وقيل: "ذَاتِ الرَّجْعِ" أي: ذات النفع.
وقيل: ذات الملائكة، لرجوعهم فيها بأعمال العباد، وهذا قسم.
{ وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } قسمٌ آخر، أي: تتصدع عن النبات، والشجر، والثمار، والأنهار، نظيره:
{ { ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً } [عبس: 26].
والصَّدعُ: بمعنى الشق؛ لأنه يصدع الأرض، فتصدع به، وكأنَّه قال: والأرض ذات النبات الصادع للأرض.
وقال مجاهد: الأرض ذات الطريق التي تصدعها المشاة.
وقيل: ذات الحرث لأنه يصدعها.
وقيل: ذات الأموات لانصداعها للنشور.
وقيل: هما الجبلان بينهما شق وطريق نافذ لقوله تعالى:
{ { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً } [الأنبياء: 31].
قال ابن الخطيب: واعلم أنَّه تعالى، كما جعل كيفية خلقه الحيوان دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد، ذكر في هذا القسم كيفية خلقه النبات.
فقال تعالى: { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ } أي: كالأب، "والأرض ذات الصدع" كالأم، وكلاهما من النعم العظام؛ لأن نعم الدنيا موقوفة على ما ينزل من السماء متكرراً، وعلى ما ينبت من الأرض كذلك، ثم أردف هذا القسم بالمقسم عليه، وهو قوله تعالى: { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ }. وهذا جواب القسم، والضمير في "إنَّه" للقرآن، أي: إن القرآن يفصل بين الحق والباطل.
وقال القفالُ: يعود إلى الكلام المتقدم والمعنى: ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم يوم تبلى سرائركم قول فصل، وحق، والفصل: الحكم الذي ينفصل به الحق عن الباطل، ومنه فصل الخصومات، وهو قطعها بالحكم الجزم، [ويقال: هذا قول فصل قاطع للشر والنزاع.
وقيل: معناه جد] لقوله: { وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ }. أي: باللعب، والهزل: ضد الجد والتشمير في الأمر، يقال: هزل يهزل.
قال الكميتُ: [الطويل]

5172- تَجُدُّ بِنَا فِي كُلِّ يَومٍ وتهْزِلُ

قوله: { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً }، أي: أنَّ أعداء الله يكيدون كيداً، أي: يمكرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكراً.
قيل: الكَيْدُ: إلقاء الشبهات، كقولهم:
{ { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا } [المؤمنون: 37] { { مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [يس: 78] { { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً } [ص: 5] { { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31] { { فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [الفرقان: 5].
وقيل: الطعن فيه بكونه ساحراً، أو شاعراً، او مجنوناً، حاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم.
وقيل: قصدهم قتله، لقوله تعالى:
{ { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [الأنفال: 30] الآية.
وأما قوله: { وَأَكِيدُ كَيْداً }. أي: أجازيهم جزاء كيدهم.
وقيل: هو ما أوقع الله - تعالى - بهم يوم "بدر" من القتل، والأسر.
وقيل: استدراجهم من حيث لا يعلمون.
وقيل: كيد الله تعالى، بنصره وإعلاء درجته صلى الله عليه وسلم تسمية لأحد المقتابلين باسم الآخر، كقوله تعالى:
{ { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40]؛ وقول الشاعر: [الوافر]

5173- ألاَ لاَ يجْهلَنْ أحَدٌ عليْنَا فَنجهَلَ فوْقَ جَهْلِ الجَاهِلينَا

وقوله تعالى: { { نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } [الحشر: 19] { { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء: 142]. قوله: { فَمَهِّلِ ٱلْكَافِرِينَ }. أي: لا تدع بهلاكهم، ولا تستعجل، وارض بما تريده في أمورهم، ثم نسخت بقوله تعالى: { { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5].
قوله: { أَمْهِلْهُمْ }. هذه قراءة العامة، لما كرر الأمر توكيداً خالف بين اللفظين.
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: "مَهِّلهُمْ" كالأول، ومهَّل وأمْهَل بمعنى مثل: نزل وأنزل، والإمهال والتَّمهيل: الانتظار، يقال: أمهلتك كذا، أي: انتظرتك لتفعله، والاسم: المهلة والاستمهال: الانتظار، والمَهْل: الرِّفقُ والتُّؤدةُ، وتمهل في أمره: أي: أتاه، وتمهَّلَ تمهيلاً: اعتدل وانتصب، والامتهال: سكون وفتور، ويقال: مهلاً يا فلان، اي رفقاً وسكوناً.
قوله: { رُوَيْداً }. مصدر مؤكد لمعنى العامل، وهو تصغير إرواد على الترخيم، وقيل: بل هو تصغير "رود" كذا قال أبو عبيد.
وأنشد: [البسيط]

5174- كَأنَّــهُ ثَمِــلٌ يَمْشِــي علــى رَوَدِ

أي: على مهل. واعلم أن "رويداً": يستعمل مصدراً بدلاً من اللفظ بفعله، فيضاف تارة، كقوله تعالى: { { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } [محمد: 4]، ولا يضاف أخرى، نحو: رويداً زيداً, ويقع حالاً، نجو: ساروا رويداً، أي: متمهلين، ونعت المصدر، نحو: "ساروا رويداً"، أي: سيراً رويداً، وتفسير "رويداً" مهلاً، وتفسير "رويدك" أمهل؛ لأن الكاف إنمت تدخله إذا كان بمعنى: "افعل" دون غيره، وإنَّما حُرِّكت الدال لالتقاء الساكنين، ونصب نصب المصادر، وهو مصغَّر مأمور به؛ لأنه تصغير الترخيم من "إرواد": وهو مصدر: "أرود، يرود" وله أربعة أوجه: اسماً للفعل، وصفة، وحالاً، ومصدراً، وقد تقدم ذكرها.
قال ابن عباس: - رضي الله عنهما -: "رويداً" أي: قريباً.
وقال قتادةُ: قليلاً.
وقيل: { أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } إلى يوم القيامة، وإنما صغِّر ذلك من حيث إن كل آت قريب.
وقيل: "أمهلهم رويداً" إلى يوم يرد.
روى الثعلبي عن أبي بن كعبٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ قَرَأ { وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ } اعطاهُ اللهُ تعَالى مِنَ الأجْرِ بعَددِ كُلِّ نجمٍ في السَّماءِ عَشْرَ حَسَناتٍ" . والله تعالى أعلم.