التفاسير

< >
عرض

أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ
١٧
وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ
١٨
وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ
١٩
وَإِلَى ٱلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ
٢٠
-الغاشية

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ }، لما ذكر الله - تعالى - أمر الدارين تعجب الكفَِّار من ذلك، فكذبوا وأنكروا، فذكرهم الله صنعته، وقدرته، وأنه - تعالى - قادر على كل شيء، كما خلق الحيوانات والسماء والأرض، وذكر الإبل أولاً؛ لأنها كثيرة في بلاد العرب، ولم يروا الفيلة، فنبّههم تعالى على عظيم من خلقه، قد ذللـه للصغير من خلقه يقوده وينيخه وينهضه، ويحمل عليه الثقيل من الأحمال، وهو بارك، فينهض بثقيل حمله، وليس ذلك في شيء وينيخه وينهضه، ويجمل عليه الثقيل من الأحمال، وهو بارك، فينهض بثقيل حمله، وليس ذلك في شيء من الحيوان غيره، فأراهم عظيماً من خلقه، يدلهم بذلك على توحيده، وعظيم قدرته تعالى.
وعن بعض الحكماء: أنه حدث عن البعير، وبديع خلقه، وقد نشأ في بلاد لا إبل فيها، ففكر، ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق.
قال ابنُ الخطيب: الإبل لها خواص، منها أنه - تعالى - جعل الحيوان الذي يقتني أنواعاً، فتارة يقتنى ليؤكل لحمه، وتارة ليشرب لبنه، وتارة ليحمل الناس في الأسفار، وتارة لنقل المتاع من بلد إلى بلد، وتارة للزِّينة والجمال، وهذه المنافع بأسرها حاصلة في الإبل، ثم إنها فاقت في كل خصلة من هذه الخصال غيرها من الحيوان المختص ببعضها، مع صبرها على العطش، وقطع المفاوز بالأحمال الثقيلة، وقناعتها في العلف بنبات البر، ولقد ضللنا الطريق في مفازة، فقدموا جملاً واتبعوه، فهداهم للطريق بعد زمان طويل، مع كثرة المعاطف والتلول، فانظر كيف ثبت واهتدى على ما عجزت عنه ذوو العقول.
ومنها: أنه في غاية القوة والصبر على العمل.
ومنها: أنها مع كونها كذلك منقادة للصَّب الصغير.
ومنها: أنها تحمل وهي باركة، ثم تقوم بحملها، وهذه الصفات توجب على العاقل أن ينظر في خلقها وتركيبها، ويستدل بذلك على وجود الصانع الحكيم جلت قدرته.
فصل
قال قتادةُ ومقاتلٌ وغيرهما: لما ذكر الله - تعالى - السرر المرفوعة، قالوا: كيف نصعدها؟ فأنزل الله هذه الآية، وبيَّن أنَّ الإبل "تبرك" حتى يحمل عليها، ثم تقوم، فكذلك تلك السرر تتطامَنُ، ثم يرتفع.
وقال المبرد: الإبل هنا: القطعُ العظيمة من السَّحاب.
وقال الثعلبي: ولم أجد لذلك أصلاً في كتب الأئمة.
قال القرطبي: قد ذكره الأصمعي أبو سعيد بن عبد الملك بن قريب، قال أبو عمرو: من قرأها: { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } بالتخفيف، عنى بها: البعير؛ لأنها من ذوات الأربع، يبرك، فتحمل عليه الحمولة، وغيره من ذوات الأربع، لا يحمل عليه إلا وهو قائم، ومن قرأها بالتثقيل فقال: "الإبل" عنى بها السحاب التي تحمل الماء والمطر.
وقال الماورديُّ: وفي الإبل وجهان:
أظهرهما: أنها "الإبل".
والثاني: أنها "السحاب" فإن كان المراد بها السحاب، فلما فيها من الآيات الدالة على قدرته، والمنافع العامة لجميع خلقه.
وإن كان المراد بها الإبل من النعم؛ فلأن الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوان؛ لأن ضروبه أربعة: حلوبة، وركوبة، وأكولة، وحمولة، والإبل تجمع هذه الخلال الأربع، فكانت النعمة بها أعم، وظهور القدرة بها أتم.
وقيل للحسن: الفيل أعظم في الأعجوبة, فقال: العرب بعيدة العهدِ بالفيل, ثم هو لا يؤكل لحمه, ولا يركب ظهره، ولا يحلب درّه.
فصل في الكلام على الإبل
الإبل: اسم جمع، واحده: بعير، وناقة، وجمل، ولا واحد لها من لفظها، وهو مؤنث، ولذلك تدخل عليه تاء التأنيث تصغيره، فيقال: أبيلة.
قال القرطبيُّ: لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين، فالتأنيث لها لازم، وربما قالوا للإبل: إبْل - بسكون الباء - للتخفيف، والجمع: آبال واشتقوا من لفظه، فقالوا: تأبل زيد، أي كثرت إبله. وتعجبوا من هذا، فقالوا: ما آبله! أي: ما أكثر إبله! وتقدم في سورة "الأنعام".
قوله: "كَيْفَ": منصوب بـ "خُلِقتْ" على حد نصبها في قوله تعالى: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ }، والجملة بدل من "الإبل" بدل اشتمال، فتكون في محل جر، وهي في الحقيقة معلقة بالنظر، وقد دخلت "إلى" على "كيف" في قولهم: "انظر إلى كيف يصنع"، وقد تبدل الجملة المشتملة على استفهام من اسم ليس فيه استفهام، كقولهم: "عرفت زيداً أبو من هو" على خلاف بين النحويين.
وقرأ العامة: "خُلِقَتْ، ورُفِعَتْ، ونُصِبَتْ، وسُطِحَتْ" مبنياً للمفعول، والتاء ساكنة للتأنيث.
وقرأ أمير المؤمنين، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة، قال القرطبي: وابن السميفع وأبو العالية: "خلقتُ" وما بعده بتاء المتكلم، مبنياً للفاعل.
والعامة على: "سُطِحَتْ" مخففاً.
وقرأ الحسنُ وأبو حيوة وأبو رجاء: "سُطِّحَتْ" بتشديد الطاء وإسكان التاء.
قال القرطبيُّ: وقدم الإبل في الذكر، ولو قدم غيرها لجاز.
قال القشيريُّ: وليس هذا مما يطلب فيه نوع حكمة.
قوله: { وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ }، أي: رفعت عن الأرض بغير عمدٍ بعيدة المدى.
وقيل: رفعت فلا ينالها شيء.
قوله: { وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ } نصباً ثابتاً راسخاً لا يميل ولا يزول، وذلك أن الأرض لما دحيت مادت، فأرساها بالجبال، كما قال تعالى:
{ { وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ } [الأنبياء: 31].
قوله: { وَإِلَى ٱلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } ممهدة، أي: بسطتْ ومدتْ، واستدل بعضهم بهذا على أن الأرض ليست بكرةٍ.
قال ابنُ الخطيب: وهو ضعيف؛ لأن الكرة إذا كانت في غاية العطمة تكون كل قطعة منها كالسطح.
فإن قيل: ما المناسبة بين هذه الأشياء؟.
فالجواب: قال الزمخشريُّ: من فسَّر الإبل بالسحاب، فالمناسبة ظاهرة، وذلك تشبيه ومجاز، ومن حملها على الإبل، فالمناسبة بينها وبين السماء والأرض والجبال من وجهين:
الأول: أن القرآن نزل على العرب، وكانوا يسافرون كثيراً، وكانوا يسيرون عليها في المهامه والقفار، مستوحشين، منفردين عن الناس، والإنسان إذا انفرد أقبل على التفكُّر في الأشياء؛ لأنه ليس معه من يحادثه، وليس هناك من يشغل به سمعه وبصره، فلا بد من أن يجعل دأبه الفكر، فإذا فكر في تلك الحال، فأوَّل ما يقع بصره على الجمل الذي هو راكبه، فيرى منظراً عجيباً، وإن نظر إلى فوق لم ير غير السماء، وإذا نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال، وإذا نظر إلى تحت لم ير غير الأرض، فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلودِ والانفراد، حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النَّظر.
الثاني: أن جميع المخلوقات دالة على الصانع - جلت قدرته - إلا انها قسمان: منها ما للشهوة فيه حظّ كالوجه الحسن، والبساتين للنُّزهة، والذهب والفضة، ونحوها، فهذه مع دلالتها على الصَّانع، قد يمنع استحسانها عن إكمال النظر فيها.
ومنها ما لا حظّ فيه للشهوة كهذه الأشياء، فأمر بالنظر فيها، إذ لا مانع من إكمال النظر.