التفاسير

< >
عرض

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْغَاشِيَةِ
١
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ
٢
عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ
٣
تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً
٤
تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ
٥
لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ
٦
لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ
٧
-الغاشية

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْغَاشِيَةِ }. "هل" بمعنى: "قد"، كقوله تعالى: { { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ } [الإنسان: 1] قاله قطرب، أي: قد جاءك يا محمد حديث الغاشية، وهي القيامة؛ لأنها تغشى الخلائق بأهوالها.
وقيل: هو استفهام على بابه، ويسميه أهل البيان: التسويف، والمعنى: إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك، وهو معنى قول الكلبيِّ.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ، ومحمد بن كعبٍ: الغاشية: النار تغشى وجوه الكفار، ورواه أبو صالح عن ابن عباس لقوله تعالى:
{ { وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمْ ٱلنَّارُ } [إبراهيم: 50].
وقيل: المراد النفخة الثانية للبعث؛ لأنها تغشى الخلق.
وقيل: الغاشية أهل النار يغشونها، ويقحمون فيها.
وقيل: معنى "هَل أتاكَ" أي: هذا لم يكن في علمك، ولا في علم قومك، قاله ابن عباس أي: لم يكن أتاه قبل ذلك على التفصيل المذكور.
قوله: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ }. قد تقدَّم نظيره في سورة "القيامةِ"، وفي "النازعات"، والتنوين في "يومئذ"؛ عوض من جملة، مدلول عليها باسم الفاعل من "الغاشية"، تقديره: يومئذ غشيت الناس؛ إذ لا تتقدم جملة مصرح بها، و "خاشعة" وما بعدها صفة.
فصل في تفسير الآية
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لم يكن أتاه حديثهم، فأخبره عنهم، فقال تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ } أي: يوم القيامة، { خَاشِعَةٌ }.
قال سفيان: أي: ذليلةٌ بالعذاب، وكل متضائل ساكن خاشع.
يقال: خشع في صلاته إذا تذلل ونكس رأسه، وخشع الصوت: إذا خفي، قال تعالى:
{ { وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ } [طه: 108].
[والمراد بالوجوه أصحاب الوجوه.
قال قتادة وابن زيد: خاشعة أي في النار، والمراد بالوجوه وجوه الكفار كلهم قاله يحيى بن سلام. وقال ابن عباس: أراد وجوه اليهود والنصارى].
قوله تعالى: { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } هذا في الدنيا؛ لأن الآخرة ليست دار عمل، فالمعنى: وجوه عاملة ناصبة في الدنيا خاشعة في الآخرة.
قال أهل اللغة: يقال للرجل إذا دأب في سيره: قد عمل يعمل عملاً، ويقال للسحاب إذا دام برقُه: قد عمل يعمل عملاً.
وقوله: "ناصبةٌ" أي: تعبةٌ، يقال: نَصِبَ - بالكسر - ينصبُ نصَباً: إذا تعب ونَصْباً أيضاً، وأنصبه غيره.
قال ابنُ عباسٍ: هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله تعالى، وعلى الكفر مثل عبدة الأوثان، والرهبان، وغيرهم، ولا يقبل الله - تعالى - منهم إلاَّ ما كان خالصاً له.
وعن علي - رضي الله عنه - أنهم الخوارج الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"تُحقِّرُونَ صَلاتكُمْ مَعَ صَلاتهِمْ، وصِيامَكُمْ مَعَ صِيَامهِمْ، وأعْمالَكُمْ مَعَ أعْمَالهِمْ، يَمرقُونَ من الدِّينِ كما يَمْرقُ السَّهْمُ من الرميّّة" الحديث.
وروى سعيد عن قتادة: "عاملةٌ ناصبةٌ" قال: تكبرت في الدنيا عن طاعة الله - عز وجل -، فأعملها الله وأنصبها في النار، بجر السلاسل الثِّقال، وحمل الأغلال، والوقوف حفاة عراة في العرصات في يوم كان مقداره خمسين ألف سنةٍ.
قال الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب له، فأعملها وأنصبها في جهنم.
وقرأ ابن كثير في رواية، وابن محيصن وعيسى وحميد: "نَاصِبةٌ" بالنصب على الحال.
وقيل: على الذَّم.
والباقون: بالرفع، على الصفة، أو إضمار مبتدأ فيوقف على "خاشعة".
ومن جعل المعنى: في الآخرة جاز أن يكون خبراً بعد خبر عن "وجوه"، فلا يوقف على "خاشعة" [وقيل: عاملة ناصبة أي: عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة، وعلى هذا يحمل وجوه يومئذ عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة خاشعة].
وروى الحسن، قال: لما قدم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - "الشام"، أتاه راهب، شيخ كبير عليه سواد، فلما رآه عمر - رضي الله عنه بكى, فقيل: يا أمير المؤمنين, ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين, طلب أمراً فلم يصبه, ورجا رجاءً فأخطأه, وقرأ قوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ }.
قوله: { تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً }: هذا هو الخبر.
قرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب - رضي الله عنهم - بضم التاء على ما يسم فاعله.
والباقون: بالفتح، على تسمية الفاعل، [والضمير على] كلتا القراءتين للوجوه.
وقرأ أبو رجاء: بضم التاء، وفتح الصَّاد، وتشديد اللام، وقد تقدم معنى ذلك كله في سورتي: "الانشقاق والنساء".
فصل في معنى الآية
والمعنى: يصيبها صلاؤها وحرُّها, "حامية" أي شديدة الحرِّ، أي قد أوقدت وأُحميت مدةً طويلة، ومنه: حَمِيَ النهار - بالكسر - وحَمِيَ التنور حمياً فيهما، أي: اشتد حره، وحكى الكسائي: اشتد حمى الشمس وحموها بمعنى.
قال صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ اللهَ أوْقدهَا الفَ سنةٍ حتَّى احمرَّت، ثُمَّ أوْقدَ عليْهَا ألفَ سنةٍ حتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أوقدَ عَليْهَا حتَّى اسْودَّتْ، فهي سَوداءُ مُظْلِمَةٌ" .
قال الماوردي: فإن قيل: فما معنى وصفها بالحَمْي، وهي لا تكون إلا حامية، وهو أقل أحوالها، فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة؟.
قيل: قد اختلف في المراد بالحامية هاهنا.
قيل: المراد: أنها دائمة [الحمي]، وليست كنارِ الدنيا التي ينقطع حميها بانطفائها.
الثاني: أن المراد بالحامية أنَّها حمى من ارتكاب المحظورات، وانتهاك المحارم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ لكُلِّ مَلكٍ حِمىً، وإنَّ حِمَى اللهِ في أرْضهِ محارمهُ، ومن يرتع حولَ الحِمَى يُوشِك أن يقعَ فِيهِ" .
الثالث: أنها تحمي نفسها عن أن تطاق ملامستها، وترام مماستها، كما يحمي الأسد عرينه؛ كقول الشاعر: [البسيط]

5181- تَعْدُو الذِّئَابُ على مَنْ لا كِلاب لَهُ وتتَّقِي صَوْلةَ المُستأسدِ الحَامِي

الرابع: وقيل: المراد أنَّها حامية حمي غيظ وغضب مبالغة في شد الانتقام، كقوله تعالى { { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } [الملك: 8].
قوله: { تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ }. أي: حارة التي انتهى حرُّها، كقوله تعالى:
{ { بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [الرحمن: 44]، و "آنِيَة": صفة لـ "عين"، وأمالها هشام، لأن الألف غير منقلبة من غيرها، بل هي أصل بنفسها، وهذا بخلاف "آنِيَة" في سورة "الإنسان"، فإن الألف هناك بدل من همزة، إذ هو جمع: "إناء" فوزنها: "فَاعِلة"، وهناك "أفعلة"، فاتحد اللفظ واختلف التصريف، وهذا من محاسن علم التصريف.
قال القرطبيُّ: "الآني: الذي قد انتهى حرُّه، من الإيناء بمعنى: "التأخير"، يقال: أنَّاه يؤنيه إيناءً، أي: أخره وحبسه وأبطأه، نظيره قوله تعالى:
{ { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [الرحمن: 44]، رُوِيَ أنه لو وقعت [نقطة] منها على جبال الدنيا لذابت".
قوله: { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ }. لمَّا ذكر شرابهم ذكر طعامهم.
والضَّريعُ: شجر في النار، ذو شوك لاصق بالأرض، تسميه قريش: الشِّبرق إذا كان رطباً، وإذا يبسَ فهو الضريع، لا تقربه دابة، ولا بهيمة، ولا ترعاه، وهو سم قاتل. قاله عكرمة، ومجاهد وأكثر المفسرين.
وروى الضحاكُ عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهم - قال: شيء يرمي به البحر يسمى الضريع من أقوات الأنعام لا الناس، وإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع، وهلكت هزلاً.
والصحيح الأول؛ قال أبو ذؤيبٍ: [الطويل]

5182- رَعَى الشِّبرقَ الرَّيانَ حتَّى إذا ذَوَى رَعَا ضَرِيعاً بَانَ مِنْهُ النَّحَائِصُ

وقال الهذلي يذكر إبلاً وسوء مرعاها: [الكامل]

5183- وَحُبِسْنَ في هَزْمِ الضَّريعِ فكُلُّهَا حَدْباءُ دَاميةُ اليديْنِ حرُودُ

وقال الخليل: الضريع: نبات منتن الريح، يرمي به البحر.
وقال أيضاً: ويقال للجلدة التي على العظم تحت اللحم، هي الضريع، فكأنه تعالى وصف بالقلة، فلا جرم لا يسمن ولا يغني من جوع.
وقيل: هو الزقوم.
وقيل: يابس العرفج إذا تحطم.
وقيل: نبت يشبه العوسج.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: هو شجر من نارٍ، ولو كانت الدنيا لأحرقت الأرض، وما عليها.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ، وعكرمةُ: هي حجارة من نار.
وقال القرطبيُّ: والأظهر أنه شجر ذو شوك حسب ما هو في الدنيا.
وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"الضريع شيء يكون في النَّار: يشبهُ الشّوْك، أشدُّ مرارة من الصَّبْرِ، وأنْتَنُ من الجِيفةِ، وأحرُّ منَ النَّارِ سماهُ اللهُ ضَريْعاً" .
قال القتيبيُّ: ويجوز أن يكون الضريع، وشجرة الزقوم: نبتين من النار، أو من جوهر لا تأكله النَّار، وكذلك سلاسل النار، وأغلالها, وحياتها, وعقاربها, ولو كانت على ما نعلم لما بقيت على النار, وإنما دلَّنا الله على الغائب عند الحاضر عندنا، فالأسماء متفقة الدلالة والمعاني مختلفة، وكذلك ما في الجنة من شجرها وفرشها.
وزعم بعضهم: أنَّ الضريع: ليس بنبت في النار، ولا أنهم يأكلونه؛ لأن الضريع من أقوات الأنعام، لا من أقوات الناس، وإذا وقعت الإبل فيه لم تشبع، وهلكوا هزلاً، فأراد أن هؤلاء يقتاتون بما لا يشبعهم، وضرب الضريع له مثلاً.
والمعنى أنهم يعذبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع.
وقال الحكيمُ الترمذي: وهذا نظر سقيم من أهله، يدل على أنهم تحيَّروا في قدرة الله تعالى، وأن الذي أنبت في هذا التراب الضريع قادر على أن ينبته في حريق النار، كما جعل - سبحانه وتعالى - في الدنيا من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون، فلا النار تحرق الشجر، ولا رطوبة الماء في الشجر تُطفئُ النار، قال تعالى:
{ { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ } [يس: 80]، وكما قيل: حين نزلت: { { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } [الإسراء: 97]، قالوا: "يا رسُولَ اللهِ، كيف يمْشُونَ على وُجوهِهمْ؟ فقال - عليه الصلاة والسلام -: الَّذي أمشَاهُمْ عَلَى أرْجُلهِمْ قادرٌ على أنْ يُمشِيهمْ على وُجوهِهِمْ" ، فلا يتحيَّر في مثل هذا إلا ضعيف العقل، أو ليس قد أخبرنا أنه: { { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } [النساء: 56]، وقال تعالى: { { سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ } [إبراهيم: 50].
وعن الحسن: لا أدري ما الضريع، ولم أسمع فيه من الصحابة شيئاً.
قال ابنُ كيسان: وهو طعام يضرعونه عنده، ويذلون، ويتضرعونه منه إلى الله تعالى، طلباً للخلاص منه، فسمي بذلك؛ لأن آكله يتضرع في أن يعفى منه, للكراهة وخشونته.
قال أبو جعفر النحاس: قد يكون مشتقاً من الضارع، وهو الذليل، أي: ذو ضراعة، أي: من شربه ذليل تلحقه ضراعة.
فإن قيل: قد قال تعالى في موضع آخر:
{ { فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } [الحاقة: 35، 36]. وقال تعالى - هاهنا -: { إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } وهو غير الغسلين، فما وجه الجمع؟.
والجواب: أن النار دركات، فمنهم من طعامه الزقوم ومنهم من طعامه الغسلين، ومنهم من طعامه الضريع، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصديد.
قال الكلبيُّ: الضريع في درجة ليس فيها غيره، والزقوم في درجة أخرى.
قوله: { لاَّ يُسْمِنُ }.
قال الزمخشريُّ: مرفوع المحل، أو مجرور على وصف طعام، أو ضريع".
قال أبو حيان: "أما وصفه بـ "ضريع" فيصح؛ لأنه نبت نفي عنه السمن، والإغناء من الجوع, وأمَّا رفعه على وصفه الطعام، فلا يصح؛ لأن الطعام منفي، والسمن منفي، فلا يصح تركيبه؛ لأنه يصير التقدير: ليس لهم طعام لا يسمن، ولا يغني من جوع إلا من ضريع، فيصير المعنى: أن لهم طعاماً يسمن ويغني من جوع من غير الضريع، كما تقول: ليس لزيد مال لا ينتفع به إلا من مال عمرو، فمعناه: أن له مالاً لا ينتفع به من غير مال عمرو".
قال شهاب الدين: وهذا لا يرد؛ لأنه على تقدير تسليم القول بالمفهوم، وقد منع منه مانع، كالسياق في الآية الكريمة.
ثم قال أبو حيَّان: ولو قيل: الجملة في موضع رفع صفة للمحذوف المقدر في: "إلاَّ من ضريع"، كان صحيحاً؛ لأنه في موضع رفع، على أنه بدل من اسم ليس، أي: ليس لهم طعام إلاَّ كائن من ضريع؛ إذ لا طعام من ضريع غير مسمنٍ، ولا مغنٍ من جوع، وهذا تركيب صحيح، ومعنى واضح.
وقال الزمخشريُّ أيضاً: "أو أريد لا طعام لهم أصلاً؛ لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنس؛ لأن الطعام ما أشبع، أو أسمن، وهو عنهما بمعزل، كما تقول: ليس لفلان إلا ظلّ إلا الشمس، تريد نفي الظل على التوكيد".
قال أبو حيَّان: فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً؛ لأنه لم يندرج الكائن من الضريع تحت لفظ طعام، إذ ليس بطعام، والظاهر: الاتصال فيه، وفي قوله تعالى:
{ { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } [الحاقة: 36].
قال شهابُ الدين: وعلى قول الزمخشري المتقدم لا يلزم أن يكون منقطعاً، إذ المراد نفي الشيء بدليله أي: إن كان لهم طعام، فليس إلا هذا الذي لا يعده أحد طعاماً، ومثله: ليس له ظل إلا الشمس وقد مضى تحقيق هذا عند قوله تعالى:
{ { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ } [الدخان: 56] وقوله: [الطويل]

5184- ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ.....................................

ومثله كثير.
فصل في المراد بالآية
المعنى: أن طعامهم ليس من جنس طعام الإنس؛ لأنه نوع من أنواع الشوك، والشوك مما ترعاه الإبلُ، وهذا النوع مما تنفر عنه الإبل، فإذن منفعة الغذاء منتفية عنه، وهما: إماطة الجوع، وإفادة القوة والسمن في البدن أو يكون المعنى: ليس لهم طعام أصلاً؛ لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنسان، لأن الطعام ما أشبع أو أسمن.
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية، قال المشركون: إن إبلنا لتسمن بالضريع، فنزلت: { لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ } وكذا فإن الإبل ترعاه رطباً، فإذا يبس لم تأكله.
وقيل: اشتبه عليهم أمره، فظنوه كغيره من النَّبتِ النافع؛ لأن المضارعة المشابهة، فوجدوه لا يسمن ولا يغني من جوع، فيكون المعنى: أن طعامهم من ضريعٍ لا يسمن من جنس ضريعكم، إنما هو من ضريع غير مسمن، ولا مغن من جوع.