التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ
١٧
وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ
١٨
وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً
١٩
وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً
٢٠
-الفجر

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { كَلاَّ }: ردعٌ للإنسان عن تلك المقالة.
قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - المعنى: لم أبتله بالغنى، لكرامته عليّ، ولم أبتله بالفقرِ، لهوانه عليّ، بل ذلك لمحضِ القضاء والقدر، والمشيئة والحكم المنزه عن التعليل، وهذا مذهب أهل السنة، وأما على مذهب المعتزلة: فلمصالح خفيَّة، لا يطلع عليها إلا هو - سبحانه - فقد يوسع على الكافر لا لكرامته، ويقتر على المؤمن لا لهوانه.
قال الفراء في هذا الموضع: يعني: لم يكن للعبد أن يكون هكذا، ولكن يحمد الله - تعالى - على الغنى والفقر.
قوله: { بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ }. قرأ أبو عمرو: "يكرمون"، وما بعده بياء الغيبة، حملاً على معنى الإنسان المتقدم، إذا المراد به الجنس، والجنس في معنى: الجمع.
والباقون: بالتاء في الجميع، خطاباً للإنسان المراد به الجنس، على طريقة الالتفات.
فصل فيمن نزلت فيه الآية
لما حكى قولهم، فكأنه قال: لهم فعل أشر من هذا القول، وهو أن الله - تعالى - يكرمهم بكثرة المال، فلا يؤدون ما يلزمهم من إكرام اليتيم، فقرعهم بذلك، ووبخهم. وترك إكرام اليتيم بدفعه عن حقه، وأكل ماله.
وقال مقاتلٌ: نزلت في قدامة بن مظعونٍ، وكان يتيماً في حجر أمية بن خلف، وكان يدفعه عن حقه.
قوله: { وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ }.
قرأ الكوفيون: "ولا تحاضون"، والأصل: تتحاضون، فحذف إحدى التاءين، أي: لا يحض بعضكم بعضاً.
وروي عن الكسائي: "تُحاضُّون" بضم التاء، وهي قراءة زيد بن علي وعلقمة، أي: تحاضون أنفسكم.
والباقون: "تَحُضُّون" من حضَّه على كذا، أي: أغراه به، ومفعوله محذوف، أي: لا تحضون أنفسكم ولا غيرها، ويجوز ألاَّ يقدر، أي: لا يوقعون الحضّ.
قوله: "عَلى طعامِ": متعلق بـ "تحضون"، و "طَعَام": يجوز أن يكون على أصله من كونه اسماً للمطعوم، ويكون على حذف مضاف، أي: على بذل، أو إعطاء طعام، وأن يكون اسم مصدر بمعنى: الإطعام كالعطاء بمعنى الإعطاء، فلا حذف حينئذ.
فصل في ترك إكرام اليتيم
اعلم أن ترك إكرام اليتيم على وجوه:
أحدها: ترك بره وإليه الإشارة بقوله تعالى: { وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ }.
والثاني: دفعه عن حقه، وأكل ماله، وإليه الإشارة بقوله تعالى: { وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً }.
قوله: { وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً } التاء في "التُّراثَ": بدل من الواو؛ لأنه من الوراثة ومثله: تولج، وتوراة، وتخمة وقد تقدم كما قالوا: تجاه، وتخمة، وتكأة، وتؤدة، ونحو ذلك.
والتراث: ميراث اليتامى، وقوله تعالى: { أَكْلاً لَّمّاً }، اللَّمم: الجمع الشديد، يقال: لممت الشيء لماً، أي: جمعته جمعاً.
قال الحطيئة: [الطويل]

5205- إذَا كَانَ لمَّــا يُتْبعُ الــذَّمُّ ربَّــهُ فَلا قدَّسَ الرَّحمنُ تِلْكَ الطَّواحِنَا

ولمَمْتُ شعثه من ذلك؛ قال النابغة: [الطويل]

5206- ولسْتُ بِمُسْتبْقٍ أخاً لا تَلمُّــهُ عَلى شَعثٍ أيُّ الرِّجالِ المُهذب؟

والجَمُّ: الكثير، ومنه: جمَّة الماء.
قال زهير: [الطويل]

5207- فَلمَّا وَرَدْنَا الماءَ زُرْقاً جِمامُهُ....................................

ومنه: الجُمَّةُ، للشعر، وقولهم: جاءوا الجمَّاء الغفير من ذلك.
وكتيبة ملمومة وحجر ملموم، وقولهم: إن دارك لمومة، اي تلم الناس وتجمعهم، والآكل يلم الثريد، فيجمعه لقماً، ثم يأكله.
قال الحسنُ: يأكلون نصيبهم، ونصيب غيرهم، فيجمعون نصيب غيرهم إلى نصيبهم.
وقيل: إنَّ المال الذي يتركه الميت بعضه حلال، وبعضه شبهة، وبعضه حرام، فالوارث يلم الكل، أي: يجمع البعض إلى البعض، ويأخذ الكل ويأكله.
قال الزمخشريُّ: يجوز أن يكون الذم متوجهاً إلى الوارث الذي ظفر بالمال، سهلاً مهلاً من غير أن يعرق في جبينه، فيسرف في إنفاقه، ويأكله أكلاً لمًّا جامعاً بين ألوان المشتهيات [من الأطعمة والأشربة والفواكه].
[وقال ابن زيد: كان أهل الشرك لا يورثون النساء ولا الصبيان، بل يأكلون ميراثهم وتراثهم مع تراثهم].
قوله: { وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً } أي: كثيراً حلاله وحرامه.
والجَمُّ: الكثير، يقال: جمَّ الشيء يجم جُمُوماً، فهو جم وجام، ومنه: جمَّ الماء في الحوض، إذا اجتمع وكثر، والجمة: المكان الذي يجتمع فيه الماء، والجُمُوم - بالضم - المصدر يقال: جم الماء يجم جموماً: إذا كثر في البئر واجتمع، والمعنى: يحبون المال حباً شديداً.