التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً
٢١
وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً
٢٢
وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ
٢٣
يَقُولُ يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي
٢٤
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ
٢٥
وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ
٢٦
-الفجر

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { كَلاَّ }: ردعٌ لهم عن ذلك، وإنكار لفعلهم، أي: ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر، فهو ردع لانكبابهم على الدنيا وجمعهم لها.
قوله: { إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً }. في "دكّاً" وجهان:
أحدهما: أنه مصدر مؤكد، و "دَكًّا" الثاني: تأكيد للأول، تأكيداً لفظياً. كذا قاله ابن عصفورٍ وليس المعنى على ذلك.
والثاني: أنه نُصِبَ على الحال، والمعنى: مكرراً عليها الدَّكُّ، كـ "علمته الحساب باباً باباً"، وهذا ظاهر قول الزمخشري.
وكذلك: "صفًّا صفًّا" حال أيضاً، أي: مصطفين، أو ذوي صفوف كثيرة.
قال الخليل: الدَّكُّ: كسر الحائط والجبل والدكداك: رمل متلبّد. ورجل مدك: أي شديد الوطء على الأرض. [فمعنى الدك على قول الخليل: كسر شيء على وجه الأرض من جبل أو حجر حين زلزلت فلم يبق على شيء].
وقال المبرد: الدَّكُّ: حطُّ المرتفع من الأرض بالبسط، واندك سنام البعير: إذا انفرش في ظهره، وناقة دكاء كذلك، ومنه الدكان لاستوائه في الانفراش، فمعنى الدك على قول الخليل: كسر الشيء على وجه الأرض من جبل أو حجر حين زلزلت، فلم يبق على ظهرها شيء، وعلى قول المبرد، معناه: أنها استوت في الانفراش، فذهب دورها، وقصورها، حتى صارت كالصخرة الملساء، وهذا معنى قول ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهم: تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم.
قال ابنُ الخطيبِ: وهذا التَّدكُّكُ لا بد وأن يكون متأخراً عن الزلزلة [فإذا زلزلت الأرض زلزلة] بعد زلزلة، فتكسر الجبال، وتنهدم، وتمتلئ الأغوار، وتصير ملساء، وذلك عند انقضاء الدنيا.
قوله: { وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً }. أي: جاء أمره وقضاؤه. قاله الحسن، وهو من باب حذف المضاف.
وقيل: جاءهم الربُّ بالآيات، كقوله تعالى:
{ { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ } [البقرة: 210] أي بظلل.
وقيل: جعل مجيء الآيات مجيئاً له، تفخيماً لشأن تلك الآيات، كقوله تعالى في الحديث:
"يَا ابْنَ آدم مَرضتُ فلمْ تعُدِنِي، واسْتسْقَيتُكَ فَلمْ تَسقِنِي واسْتطعَمْتُكَ فَلمْ تُطْعمْنِي" .
وقيل: زالت الشبه، وارتفعت الشكوك، وصارت المعارف ضرورية، كما تزول الشبه والشكوك عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه [وقيل وجاء قهر ربك، كما تقول جاءتنا بنو أمية، أي: قهرهم.
قال أهل الإشارة: ظهرت قدرته واستوت، والله - سبحانه وتعالى - لم يوصف بالتحول من مكان إلى مكان، وأنَّى له التحول والانتقال، ولا مكان ولا أوان، ولا يجري عليه وقت ولا زمان؛ لأن في جريان الوقت على الشيء فوات الأوقات، ومن فاته الشيء، فهو عاجز.
وأما قوله تعالى: { وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } أي: والملائكة صفاً بعد صفٍّ متحلِّقين بالجن والإنس].
قوله: { وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ }.
"يومئذ": منصوب بـ "جيء"، والقائم مقام الفاعل: "بجهنم" وحوز مكيٍّ: أن يكون "يومئذ": قائم مقام الفاعل.
وأمَّا "يومئذ" الثاني فقيل: بدل من "إذا دُكَّتِ"، والعامل فيها: "يتذكر"، قاله الزمخشري وهذا مذهب سيبويه.
وقيل: إن العامل في "إذا دكت": يقول، والعامل في "يومئذ": يتذكر، قاله أبو البقاء.
فصل
قال ابنُ مسعودٍ ومقاتلٌ:
"تقادُ جهنَّمُ بِسبْعِينَ ألف زمام، كُل زِمَامٍ بيدِ سبْعينَ ألْف ملكٍ يجرونها، لهَا تَغَيُّظٌ وزفيرٌ، حتَّى تنصبَّ عن يسارِ العرْشِ" .
رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً.
وقال أبُو سعيدٍ الخدريُّ:
"لما نزلت: { وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } تغير لون رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف في وجهه، حتى اشتد على أصحابه، ثم قال: أقْرأنِي جِبْريلُ: { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً }، - الآية - { وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ }، قال علي - رضي الله عنه -: قلت: يا رسول الله، كيف يجاءُ بها؟ قال: يُؤْتَى بِهَا تُقَادُ بِسبعِينَ ألْف زمامٍ، يَقُودُ بكُلِّ زمَامٍ سَبعُونَ ألْف ملكٍ، فتشْردُ شَرْدَةً لو تُرِكَتْ لأحْرقَتْ أهْلَ الجَمْعِ، ثُمَّ تعْرضُ لِي جهنَّمُ، فتقول: مَا لِي ولَكَ يا مُحَمَّدُ، إنَّ الله قَدْ حَرَّمَ لحْمَكَ عليَّ، فلا يَبْقَى أحَدٌ إلاَّ قال: نَفْسِي نَفْسِي، إلاَّ محمدٌ صلى الله عليه وسلم فإنَّه يقُولُ: ربِّ أمَّتِي، ربِّ أمَّتِي" .
قال ابن الخطيب: قال الأصوليون: معلوم أنَّ جهنَّم لا تنقل من مكانها، ومعنى مجيئها: برزت وظهرت حتى يراها الخلق، ويعلم الكافر أنَّ مصيره إليها.
قوله: { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ }. تقدم الكلام في إعراب: "يومئذ"، والمعنى: يتَّعظُ الكافرُ، ويتوب من همته بالدُّنيا وقيل: يتذكر أن ذلك كان ضلالاً.
{ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } أي: ومن أين له الاتِّعاظٌُ والتوبة، وقد فرط فيها الدنيا.
وقيل: ومن أين له منفعة الذِّكرى، فلا بُدُّ من تقدير حذفِ المضاف، وإلاَّ فبين "يومئذٍ يَتذكَّر" وبين: "وأنَّى لهُ الذِّكْرى" تناف. قاله الزمخشري.
قوله: "وأنَّى" خبر مقدم، و "الذكرى": مبتدأ مؤخر، و "له" متعلق بما تعلق به الظرف.
قوله: { يَقُولُ يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي }، أي: في حياتي، فاللام بمعنى "في".
وقيل: أي: قدمت عملاً صالحاً أي لحياة لا موت فيها.
وقيل: حياة أهل النار ليست هنيئة، فكأنهم لا حياة لهم، فالمعنى: يا ليتني قدمت من الخير لنجاتي من النار، فأكون ممن له حياة هنيئة.
فصل في شبهة للمعتزلة والرد عليها
استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الاختيار كان في أيديهم وقصدهم، وأنَّهم ما كانوا محجوزين عن الطَّاعات، مجبرين على المعاصي.
والجواب: أن فعلهم كان معلقاً بقصد الله - تعالى - فبطل قولهم.
قوله: { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ }.
قرأ الكسائي: "لا يعذَّب ولا يُوثَقُ" مبنيين للمفعول، ورواه أبو قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بفتح الثاء والذال، والباقون: قرأوهما مبنيين للفاعل.
فأمَّا قراءة الكسائي: فأسند الفعل فيها إلى: "أحد"، وحذف الفاعل للعلم به وهو الله تعالى، والزبانية المتولون العذاب بأمر الله تعالى، وأما عذابه ووثاقه، فيجوز أن يكون المصدران مضافين للفاعل، والضمير لله تعالى، أو مضافين للمفعول، والضمير للإنسان، ويكون "عذابَ" واقعاً موقع تعذيب، والمعنى: لا يُعذِّبُ أحدٌ مثل تعذيب الله - تعالى - هذا الكافر، ولا يوثق أحد توثيقاً مثل إيثاق الله إياه بالسلاسل والأغلال, ولا يعذب أحد مثل تعذيب الكافر, ولا يوثق مثل إيثاقه لكفره، وعناده.
والوثاق: بمعنى: الإيثاق، كالعطاء بمعنى الإعطاء، إلا أن في إعمال اسم المصدر عمل مسمَّاه خلافاً مضطرباً، فنقل عن البصريين المنع، وعن الكوفيين الجواز، ونقل العكس عن الفريقين؛ ومن الإعمال قوله: [الوافر]

5208- أكُفْـراً بعْـدَ ردِّ المَــوْتِ عنِّـي وبَعْـدَ عَطائِـكَ المِائـةَ الرِّتَاعَـا

ومن منع: نصب المائة بفعل مضمرٍ؛ وأصرح من هذا القول الشاعر: [الطويل]

5209-............................... تُكَلِّمُنِـي فِيهَـا شفـاءٌ لمَـا بِيَـا

وقيل: المعنى: ولا يحمل عذاب الإنسان أحد، كقوله تعالى: { { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [الأنعام: 164]. قاله الزمخشري.
وأما قراءة الباقين: فإنَّه أسند الفعل لفاعله، والضمير في: "عذابه"، و "وثاقه" يحتمل عوده على الباري - تعالى -، بمعنى: أنه لا يعذب في الدنيا، مثل عذاب الله تعالى يوم أحد، أي: أن عذاب من يعذب في الدنيا، ليس كعذاب الله - تعالى - يوم القيامة، كذا قاله أبو عبد الله.
وفيه نظر، من حيث إنه يلزم أن يكون: "يومئذ" معمولاً للمصدر التشبيهي، وهو ممتنع لتقدمه عليه، إلاَّ أن يقال: إنه توسع فيه.
وقيل: المعنى: لا يكل عذابه، ولا وثاقه لأحد؛ لأن الأمر لله - تعالى - وحده في ذلك.
وقيل: المعنى: أنه في الشدة، والفظاعة، في حين لم يعذب أحد في الدنيا مثله.
ورد هذا، بأن "لا"، إذا دخلت على المضارع صيرته مستقبلاً، وإذا كان مستقبلاً لم يطابق هذا المعنى، ولا يطلق على الماضي إلاَّ بمجازٍ بعيد، وبأن يومئذ المراد به يوم القيامة، لا دار الدُّنيا.
وقيل: المعنى: أنه لا يعذب أحد في الدنيا، مثل عذاب الله الكافر فيها، إلا أن هذا مردود بما ورد قبله.
ويحتمل عوده على الإنسان، بمعنى: لا يعذب أحد من زبانية العذاب، مثل ما يعذبون هذا الكافر، ويكون المعنى: لا يحمل أحد عذاب الإنسان، لقوله تعالى:
{ { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [الأنعام: 164]، وهذه الأوجه صعبة المرام على طالبها من غير هذا الكتاب.
وقرأ نافع في رواية، وأبو جعفر وشيبة، بخلاف عنهما: "وثاقه" بكسر الواو.
والمراد بهذا الكافر المعذب، قيل: إبليس - لعنه الله -؛ لأنه أشد الناس عذاباً.
وقال الفراء: هو أمية بن خلف.