التفاسير

< >
عرض

يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ
٢٧
ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً
٢٨
فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي
٢٩
وَٱدْخُلِي جَنَّتِي
٣٠
-الفجر

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ }.
قرأ العامة: "يا أيَّتُها النَّفسُ" بتاء التأنيث.
وقرأ زيد بن علي: "يا أيُّهَا"، كنداء المذكر، ولم يجوز ذلك أحد، إلا صاحب البديع، وهذه شاهدة له، وله وجه: وهو أنها كما لم تطابق صفتها تثنية وجمعاً، جاز ألاَّ يطابقها تأنيثاً، تقول: يا أيها الرجلان، يا أيها الرجل.
فصل في الكلام على الآية
لما وصف حال من اطمأن إلى الدُّنيا، وصف حال من اطمأنَّ إلى معرفته وعبوديته، وسلم أمره إلى الله - تعالى -.
وقيل: هذا كلام الباري تعالى، إكراماً له كما كلَّم موسى عليه السلام.
وقيل: هو من قول الملائكة لأولياء الله تعالى.
قال مجاهد وغيره: "المُطْمئنَّة": الساكنة الموقنة، أيقنت أن الله تعالى ربها، فأجيبت لذلك.
وقال ابنُ عبَّاسٍ: المطمئنة بثواب الله، وعن الحسن - رضي الله عنه -: المؤمنة الموقنة.
وعن مجاهدٍ أيضاً: الراضية بقضاءِ الله.
وقال مقاتلٌ: الآمنة من عذاب الله تعالى.
وفي حرف أبي كعب: "يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة".
وقيل: التي عملت على يقين بما وعد الله تعالى، في كتابه.
وقال ابن كيسان: المطمئنة - هنا -: المخلصة وقيل: المطمئنة بذكر الله تعالى؛ لقوله تعالى:
{ { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ } [الرعد: 28] وقيل: المطمئنة بالإيمان، المصدقة بالبعث والثواب.
وقال ابن زيدٍ: المطمئنة، التي بشرت بالجنة، عند الموت، أو عند البعث، ويوم الجمع.
قوله: { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً }، أي: ارجعي إلى صاحبك، وجسدك.
قاله ابنُ عبَّاسٍ وعكرمةُ وعطاءٌ، واختاره الكلبيُّ، يدل عليه قراءة ابن عباس: "فادخُلِي في عَبْدِي"، على التوحيد.
وقال الحسنُ: ارجعي إلى ثواب ربك.
وقال أبو صالح: ارجعي إلى الله، وهذا عند الموت.
وقوله تعالى: { رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } حالان، أي: جامعة بين الوصفين؛ لأنه لا يلزم من أحدهما الآخر، والمعنى: راضية بالثواب، مرضية عنك في الأعمال، التي عملتها في الدنيا.
فصل في مجيء الأمر بمعنى الخبر
قال القفَّال: هذا وإن كان أمراً في الظَّاهر، فهو خبر في المعنى، والتقدير: أن النفس إن كانت مطمئنة رجعت إلى الله تعالى، وقال الله تعالى لها: { فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي وَٱدْخُلِي جَنَّتِي }، قال: ويجيء الأمر بمعنى الخبر كثيراً في كلامهم، كقوله: "إذا لَمْ تَسْتَحِ فَافْعَل مَا شِئْت".
فصل في فضل هذه الآية
قال سعيد بن زيد:
"قرأ رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيَّتُها النَّفسُ، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: مَا أحْسنَ هَذَا يَا رسُولَ اللهِ، فقَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلَّم: إنَّ المَلكَ سيقُولُهَا لَكَ يَا أبَا بَكرٍ" .
وقال سعيد بن جبير: مات ابن عباس بـ "الطائف"، فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط، فدخل نعشه، ثم لم ير خارجاً منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر، لا ندري من تلاها: { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [روى الضحاك أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه حين وقف بئر رومة].
وقيل: نزلت في خُبيبِ بن عديٍّ، الذي صلبه أهل "مكة"، وجعلوا وجهه إلى "المدينة"، فحوّل الله وجهه للقبلة.
قوله: { فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي }، يجوز أن يكون في جسدِ عبادي، ويجوز أن يكون المعنى في زُمرةِ عبادي. وقرأ ابنُ عبًّاسٍ وعكرمةُ وجماعةٌ: "في عَبْدِي"، والمراد: الجِنْس، وتعدَّى الفعل الأول بـ "في"؛ لأنَّ الظرف ليس بحقيقي, نحو: دخلت في غمارِ الناس’ وتعدَّى الثاني بنفسه؛ لأن الظرفية متحققة، كذا قيل، وهذا إنما يتأتّى على أحد الوجهين، وهو أن المراد بالنَّفس: بعض المؤمنين، وأنه أمر بالدخول في زُمْرَة عباده، وأما إذا كان المراد بالنفس: الرُّوح، وأنها مأمورة بدخولها في الأجساد، فالظرفية متحققة فيه أيضاً.
فصل في المراد بالجنة هاهنا
قال ابنُ عبَّاسٍ: هذا يوم القيامة، وهو قول الضحاك.
والجمهور على أنَّ المراد بالجنة: دار الخلود، التي هي سكنُ الأبرار، ودار الصالحين والأخيار.
ومعنى "فِي عبَادِي" أي: في الصالحين، كقوله تعالى:
{ { لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي ٱلصَّالِحِينَ } [العنكبوت: 9].
قال ابن الخطيب: ولمَّا كانت الجنَّة الروحانية غير متراخية عن الموت في حق السعداء، لا جرم قال تعالى: { فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي }، بفاء التعقيب، ولما كانت الجنة الجسمانية، لا يحصل الكون فيها إلا بعد قيام القيامة الكبرى، لا جرم قال تعالى: { وَٱدْخُلِي جَنَّتِي } بالواو والله تعالى أعلم.
روى الثَّعلبيُّ عن أبيُّ - رضي الله عنه - قال: قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ قَرَأ سُورةَ { وَٱلْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ } غُفِرَ لهُ، ومَنْ قَرَأهَا فِي سَائِرِ الأيَّامِ كانَتْ لَهُ نُوراً يوم القيامة" .