التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ
٦
إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ
٧
ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ
٨
وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ
٩
وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ
١٠
ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ
١١
فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ
١٢
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ
١٣
إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ
١٤
-الفجر

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ }.
قرا العامة: "بعاد": مصروفاً، "إرم" بكسر الهمزة، وفتح الراء، والميم.
فـ "عاد" اسم لرجل في الأصل، ثم أطلق على القبيلة أو الحي، وقد تقدم في الكلام عليه، وأما: "إرَمَ" فقيل: اسم قبيلة. وقيل: اسم مدينة [اختلفوا في تعيينها، فقيل: "إسكندرية"، وقيل: "دمشق"، وهذان القولان ضعيفان؛ لأنها منازل كانت من "عمان" إلى "حضرموت"، وهي بلاد الرمال والأحقاف، وأما "الإسكندرية" و "دمشق"، فليستا من بلاد الرمال].
فإن كانت اسم قبيلة كانت بدلاً، أو عطف بيان، أو منصوبة بإضمار: "أعني"، وإن كانت اسم مدينة، فتعلق الإعراب من: "عاد" وتخريجه على حذف مضاف، كأنه قيل: بعاد أهل إرم. قاله الزمخشري.
وهو حسن، ويبعد أن يكون بدلاً من: "عاد"، بدل اشتمال، إذ لا ضمير، وتقديره قلق وقد يقال: إنه لما كان المراد بـ "عاد": مدينتهم؛ لأن "إرم" قائمة مقام ذلك، صح البدل.
وإرَمَ: اسم جد عاد، وهو عادُ بنُ عوصِ بنِ إرمَ بْنِ نوحٍ عليه الصلاة والسلام؛ قال زهيرٌ: [البسيط]

5193- وآخَـرينَ تَـرَى المَـاذيَّ عُدَّتهُـمْ مِـنْ نسْـجٍ دَاوُد أوْ مَـا أوْرثَـتْ إرَمْ

وقال ابن قيس الرقيات: [المنسرح]

5194- مَـجْـــداً تَــلِيـــداً بَـنــاهُ أوَّلــــهُ أدْركَ عــاداً وقَـبْلـهَــا إرَمَـــا

وقرأ الحسن: "عاد" غير مصروف.
قال أبُو حيَّان: مضافاً إلى "إرَمَ"، فجاز أن يكون "إرَمَ" أباً، أو جداً، أو مدينة.
قال شهاب الدين: يتعين أن يكون في قراءة الحسن، غير مضاف، بل يكون كما كان منوناً، ويكون "إرَمَ" بدلاً أو بياناً أو منصوباً بإضمارِ: أعني، ولو كان مضافاً لوجب صرفه وإنما منع "عاد" اعتباراً بمعنى: القبيلة، أو جاء على أحد الجائزين في: "هند" وبابه.
وقرأ الضحاكُ في رواية: "بِعادَ أرَمَ" ممنوع الصرف، وفتح الهمزة من: "أرم".
قال مجاهد: من قرأ بفتح الهمزة شبههم بالآرام التي هي الأعلام.
وعنه أيضاً: فتح الهمزة، وسكون الراء، وهو تخفيف "أرِم" بكسر الراء، وهي لغة في اسم المدينة، كما قرئ: { بِوَرِقْكُمْ } [الكهف: 19]، وهي قراءة ابن الزبير، وعنه في: "عاد" مع هذه القراءة: الصرف وتركه.
وعنه - أيضاً - وعن ابن عباسٍ: "أرَمَّ" بفتح الهمزة والراء والميم المشددة جعلاه فعلاً ماضياً، [يقال: أرم العظم أي بَلِيَ، وأرم وأرمه غيره، فأفعل يكون لازماً ومتعدياً في هذا].
و "ذات" على هذه القراءة مجرورة صفة لـ: "عاد" ويكون قد راعى لفظها تارة في قوله: "إرَمَ"، فلم تلحق علامة التأنيث، ويكون: "أرم" معترضاً بن الصفة والموصوف، أي: أرمت هي، بمعنى: رمَتْ وبَليتْ، وهو دعاء عليهم، ويجوز أن يكون فاعل: "أرم" ضمير الباري تعالى، والمفعول محذوف، أي: أرمها الله تعالى، والجملة الدعائية معترضة - أيضاً - وراعى معناها أخرى في: "ذات" فأنث.
وروي عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: "ذاتَ" بالنَّصْب، على أنها مفعول بـ "أرم" وفاعل "أرم" ضمير يعود على الله - تعالى -، أي: أرمها الله، ويكون: "أرم" بدلاً من: "فعَل ربُّك" وتبييناً له.
وقرأ ابنُ الزُّبيرِ: "بعادِ أرمَ" بإضافة: "عاد" إلى: "أرمِ" مفتوح الهمزة مكسور الراء، وقد تقدم أنه اسم مدينة.
وقرأ: "إرمَ ذَات"، بإضافة: "إرم" إلى: "ذات".
وروي عن مجاهدٍ: "أرَم" يعني: بفتحتين، مصدر "أرَمَ، يَأرم"، أي: هلك، فعلى هذا يكون منصوباً بـ: "فَعَلَ ربُّك" نصب المصدر التشبيهي، والتقدير: كيف أهلك ربك عاداً إهلاك ذات العماد؟ وهذا أغرب الأقوال.
و "ذَاتِ العمادِ": إن كان صفة لقبيلة، فمعناه: أنهم أصحاب خيام لها أعمدة يظعنون بها، أو هو كناية عن طول أبدانهم [كقولهم: رفيع العماد طويل النجاد قاله ابن عباس رضي الله عنهما]، وإن كان صفة للمدينة، فمعناه: أنها ذات عُمُد من الحجارة.
قوله: { ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ }: يجوز أن يكون: تابعاً، وأن يكون: مقطوعاً، رفعاً ونصباً.
والعامة على: "يُخْلَق" مبنياً للمفعول، "مِثْلُهَا" مرفوع على ما لم يسم فاعله.
وعن ابن الزُّبيرِ: "يَخْلقُ" مبنياً للفاعل، "مِثْلها" منصوب به، وعنه أيضاً: "نَخْلقُ" بنون العظمة.
فصل في الكلام على إرم وعاد
قال القرطبيُّ: من لم يضف جعل "إرم": اسم "عاد"، ولم يصرفه؛ لأنه جعل "عاداً" اسم أبيهم، و "إرم": اسم القبيلة، وجعله بدلاً منه، أو عطف بيان.
ومن قرأه بالإضافة ولم يصرفه جعله اسم أمهم، أو اسم بلدتهم، وتقديره: بعادٍ أهل إرمَ، كقوله:
{ { وَسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف: 82]، ولم تنصرف - قبيلة كانت، أو أرضاً - للتعريف والتأنيث.
والإرم: العلم، أي: بعاد أهل ذات العلم، والخطاب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمراد عام، وكان أمر عاد وثمود عندهم مشهوراً، إذا كانوا في بلاد العرب، وحجر ثمود موجود اليوم، وأمر فرعون يسمعونه من جيرانهم من أهل الكتاب، واستفاضت به الأخبار، وبلاد فرعون متصلة بأرض العرب.
قوله: "بعَادٍ"، أي: بقوم عاد.
قال أبو هريرة: كان الرجل من قوم عادٍ، يتخذ المصراع من حجارة، لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة، لم يستطيعوا أن يقلوه.
[وإرم قال ابن إسحاق: هو سام بن نوح عليه السلام.
وعن ابن عباس وابن إسحاق أيضاً قال: عاد بن إرم بن عاص بن سام بن نوح عليه السلام.
قال ابن إسحاق: كان سام بن نوح له أولاد منهم إرم بن سام، وأرفخشذ بن سام؛ فمن ولد إرم بن سام العمالقة والفراعنة والجبابرة والملوك والطغاة والعصاة].
وإرم: قال مجاهد: "إرم" هي أمة من الأمم، وعنه أيضاً: ان معنى "إرم": القديمة، وعنه أيضاً: القوية.
وقال قتادةُ: هي قبيلة من عاد.
وقيل: هما عادان، فالأولى: هي "إرم"، قال تعالى:
{ { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ } [النجم: 50]، فقيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح: عاد كما يقال لبني هاشم: هاشم، ثم يقال للأولين منهم: عاداً الأولى، وإرم: تسمية لهم باسم جدهم، ولمن بعدهم: عاد الأخيرة؛ قال ابن الرقيَّات: [المنسرح]

5195- مَـجْـــداً تَــلِيـــداً بَـنــاهُ أوَّلــــهُ أدْركَ عــاداً وقَـبْلـهَــا إرَمَـــا

وقال معمر: "إرم": إليه مجمع عاد وثمود، وكان يقال: عاد وإرم، وعاد وثمود، وكانت القبائل تنسب إلى إرم، "ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد".
قال ابنُ عبَّاسٍ في رواية عطاء: كان الرَّجل منهم، طوله خمسمائة ذراع، والقصير منهم، طوله ثلاثمائة ذراع بذراع نفسه.
وعن ابن عبَّاسٍ أيضاً: أن طول الرجل منهم، كان سبعين ذراعاً.
قال ابن العربي: وهو باطل؛ لأن في الصحيح:
"أنَّ اللهَ خَلقَ آدَمَ طُولهُ سِتُّونَ ذِراعاً في الهواءِ، فَلم يزل الخَلْقُ يَنْقصُ إلى الآنَ" .
وزعم قتادةُ: أن طول الرجل منهم اثنا عشر ذراعاً.
قال أبو عبيدة: "ذَاتِ العمادِ": أي: ذات الطول، يقال: رجل معمد إذا كان طويلاً ونحوه عن ابن عباس، ومجاهد.
وعن قتادة: كانوا عماداً لقومهم، يقال: فلان عميد القوم وعمودهم: أي: سيدهم، وعنه أيضاً: كانوا أهل خيام وأعمدة ينتجعون الغيوث، ويطلبون الكلأ، ثم يرجعون إلى منازلهم.
وقيل: المعنى: ذات الأبنية المرفوعة على العمد، وكانوا ينصبون الأعمدة، فيبنون عليها القصور.
وقال ابن زيد: ذَاتِ العِمادَ" يعني: إحكام البنيان بالعمد.
قال الجوهري: "والعماد: الأبنية الرفيعة، تذكر وتؤنث، والواحدة: عمادة".
وقال الضحاك: "ذات العماد" أي ذات الشدة والقوة مأخوذة من قوة الأعمدة بدليل قوله تعالى:
{ { وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } [فصلت: 15].
فصل في الضمير في "مثلها"
والضمير في: "مِثلُهَا" يرجع إلى القبيلة، أي: لم يخلق مثل القبيلة في البلاد قوة وشدة، وعظم أجساد.
وعن الحسن وغيره: وفي حرف عبد الله: "التي لم يخلق مثلهم في البلاد".
وقيل: يرجع إلى المدينة، والأول أظهر وعليه الأكثر.
فصل
قال القرطبيُّ: "رُويَ عن مالك رضي الله عنه أن كتاباً وجد بـ "الاسكندرية" فلم يدر ما فيه، فإذا فيه "أنَا شدَّادُ بنُ عادٍ، الذي رفَعَ العِمَادَ، بنيتها حين لا شَيْبَ ولا مَوْتَ" قال مالك: إن كان لتمرُّ بهم مائة سنة لا يرون فيها جنازة".
وروي: أنه كان لعاد ابنان: شدَّاد، وشديد، ثم مات شديد، وخلص الأمر لشداد، فملك الدنيا، ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة، فقال: أبني مثلها، فبنى إرم في بعض صحارى عدن، في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة، وهي مدينة عظيمة، قصورها من الذهب، والفضة، وأساطينها من الزَّبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار، ولما تمَّ بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة، بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا.
وعن عبد الله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل مما قدر عليه مما هنا، وبلغ خبره معاوية، فاستحضره، فقص عليه، فبعث إلى كعب فسأله، فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر، قصير، على حاجبه خال، وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت، فأبصر ابن قلابة، وقال: هذا والله ذلك الرجل.
فصل في إجمال القول في الكفار هاهنا
ذكر الله - تعالى - هاهنا - قصة ثلاث فرق من الكفار المتقدمين، وهم: عاد، وثمود، وقوم فرعون، على سبيل الإجمال حيث قالوا: "فَصَبَّ عَليْهَم ربُّكَ سوْطَ عذابٍ"، ولم يبين كيفية ذلك العذاب، وبين في سورة: "الحاقَّة"، ما أبهم في هذه السورة، فقال تعالى:
{ { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [الحاقة: 5، 6] إلى قوله: { { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ } [الحاقة: 9].
قوله: { وَثَمُودَ }.
قرأ العامة بمنع الصرف.
وابنُ وثابٍ: يصرفه، والذي يجوز فيه ما تقدم في: "التي لم يخلق".
و"جَابُوا" أي: قطعوا، ومنه: فلان يجوب البلاد، أي: يقطعها سيراً؛ قال: [البسيط]

5196- مَا إنْ رَأيْتُ قَلُـوصاً قَبْلَهَا حَملـتْ سِتِّيـنَ وسْقـاً ولا جَابـتْ بِـهِ بَلـدَا

وجَابَ الشيء يجوبه: أي: قطعه، ومنه سمي جيب القميص؛ لأنه جيب، أي: قطع.
وقوله: "بالوَادِ": متعلق إما بـ "جابوا" أي: فيه، وإما بمحذوف على أنه حال من "الصَّخْر"، أو من الفاعلين.
وأثبت في الحالين: ابنُ كثيرٍ وورشٌ بخلاف عن قنبل، فروي عنه إثباتها في الحالين، وروي عنه: إثباتها في الوصل خاصة، وحذفها الباقون في الحالين، موافقة لخط المصحف، ومراعاة للفواصل كما تقدم في "يسر".
فصل في تفسير الآية
قال ابنُ عبَّاسٍ: كانوا يجوبون البلادن ويجعلون من الجبال بيوتاً، لقوله - تعالى -:
{ { يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً } [الحجر: 82].
وقيل: أول من نحت من الجبال، والصخور والرخام: ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة، كلها من الحجارة.
وقوله تعالى: { بِٱلْوَادِ } أي: بوادي القرى. قاله محمد بن إسحاق.
[وروى أبو الأشهب عن أبي نضرة، قال:
"أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة تبوك على وادي ثمود، وهو على فرس أشقر، فقال: أسرعوا السير؛ فإنكم في واد ملعون" .
وقيل: الوادي بين جبال، وكل منفرج بين جبال أو تلال يكون مسلكاً للسيل، ومنفذاً، فهو واد].
قوله: { وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ }، أي: الجنود والعساكر والجموع. قاله ابن عباس.
وسمي "ذي الأوتاد" لكثرة مضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا.
وقيل: ذي الأتاد، أي: ذي الملك الثابت.
كقوله: [الرجز]

5197- فــي ظِــلِّ مَلــكٍ رَاســخِ الأوْتَــادِ

وقيل: كان يشدّ الناس بالأوتاد إلى أن يموتوا، تجبّراً منه وعتواً، كما فعل بامرأته آسية، وماشطتها.
قال عبدُ الرحمنِ بن زيدٍ: كانت له صخرة ترفع بالبكرات، ثم يؤخذ له الإنسان، فيوتد له أوتاد الحديد، ثم يرسل تلك الصخرة عليه.
وروى قتادةُ عن سعيدِ بنِ جبيرٍ عن ابنِ عباسٍ: أن تلك الأوتاد، كانت ملاعب يلعبون تحتها.
قوله: { ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ }: يجوز فيه ما جاز في: "الذين" قبله، من الإتباع والقطع على الذم.
قال ابن الخطيب: يحتمل أن يرجع الضَّمير إلى فرعون خاصة؛ لأنه يليه، ويحتمل أن يرجع إلى جميع من تقدم ذكرهم، وهو الأقرب. وأحسن الوجوه في إعرابه: أن يكون في محل نصب على الذم، ويجوز أن يكون مرفوعاً على: "هم الذين طغوا" مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون. يعني: عاداً، وفرعون، وثموداً طغوا، أي: تمردوا وعتوا، وتجاوزا القدر في الظلم والعدوان، ثم فسر تعالى طغيانهم بقوله: { فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ }.
قال الكلبيُّ: القتل، والمعصية لله تعالى.
قال القفال: والجملة أن الفساد ضد الصلاح، فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر، فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم، فمن عمل بغير أمر الله، وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد.
قوله: { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ }. أي: أفرغ عليهم، وألقى، يقال: صبَّ على فلان خلعة، أي: ألقاها عليه؛ قال النابغة: [الطويل]

5198- فَصـبَّ عَليْـهِ اللَّـهُ أحْسـنَ صُنْعهِ وكَـانَ لَـهُ بَيْـنَ البَريَّـةِ نَاصِـراً

وقوله تعالى: { سَوْطَ عَذَابٍ } أي: نصيب عذاب؛ وقيل: شدته؛ لأن السوط عندهم ما يعذب به.
قال الشاعر: [الطويل]

5199- ألَـمْ تَـرَ أنَّ اللَّـهَ أظهـرَ دينـهُ وصَـبَّ علـى الكُفَّـارِ سـوْطَ عـذابِ

والسوط: هو الآلة المعروفة.
قيل: سمي سوطاً؛ لأن يساط به اللحم عند الضرب أي: يختلط؛ قال كعب بن زهير: [البسيط]

5200- لَكنَّهَـا خُلَّـةٌ قَـدْ سِيـطَ مـنْ دَمِهَـا فَجْـعٌ ووَلْـعٌ وإخـلافٌ وتَبْديـلُ

وقال آخر: [الطويل]

5201- أحَـارِثُ إنَّـا لو تُسَـاطُ دِماؤُنَـا تَزايلــنَ حتَّـى لا يَمَـسُّ دَمٌ دَمَــــا

[وقيل: هو في الأصل مصدر: ساطه يسوطه سوطاً، ثم سميت به الآلة].
وقال أبو زيد: أموالهم بينهم سويطة، أي: مختلطة.
فالسَّوطُ: خلط الشيء بعضه ببعض، ومنه سمي: المسواط، وساطه: أي خلطه، فهو سائط، وأكثر من ذلك، يقال: سوط فلان أموره؛ قال: [الطويل]

5202- فَسُطْهَــا ذَمِيـمَ الـرَّأي غَيْـرَ مُوفَّـقٍ فَلسـت عَلى تَسْويطهَـا بمُعَـانِ

قال الفرَّاء: هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب، وأصل ذلك أن السَّوطَ: هو عذابهم الذي يعذبون به، فجرى لكل عذاب إذا كان فيه غاية العذاب.
وقال الزجاج: أي: جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب.
[ويقال: ساط دابته يسوطها أي: ضربها بسوطه.
وعن عمرو بن عبيد: كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال: إن الله تعالى عنده أسواط كثيرة فأخذهم بسوط منها].
قال قتادة: كل شيء عذب الله به، فهو سوط عذاب.
[واستعمال الصب في السوط استعارة بليغة شائعة في كلامهم.
قال القاضي: وشبه بصبّ السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه].
قوله: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ }، أي: يرصد عمل كل إنسان، حتى يجازيه به.
قال الحسن وعكرمة: والمِرْصادَ: كالمرصد، وهو: المكان الذي يترقب فيه الرَّصد، جمع راصد كحرس، فالمرصاد "مفعال" من: "رصده"، كميقات من وقته، قاله الزمخشري.
وجوَّز ابنُ عطيَّة في المرصاد: أن يكون اسم فاعل، قال: كأنه قيل: "لبالراصد"، فعبر ببناء المبالغة.
ورده أبو حيَّان: بأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه الباء، إذ ليس هوفي موضع دخولها، لا زائدة، ولا غير زائدة.
قال شهابُ الدِّين: قد وردت زيادتها في خبر: "إنَّ" كهذه الآية؛ وفي قول امرئ القيس: [الطويل]

5203-.................................. فإنَّـكَ ممَّـا أحْدثَـتْ بالمُجـرِّبِ

إلاَّ أنَّ هذه ضرورة، لا يقاس عليه الكلام، فضلاً عن أفصحه.
فصل
تقدم الكلام في: "المرصاد"، عند قوله:
{ { كَانَتْ مِرْصَاداً } [النبأ: 21]، وهذا مثلٌ لإرصاده العصاة بالعقاب بأنهم لا يفوتونه، كما قيل لبعض العرب: أين ربك؟ قال: بالمرصاد.
وقال الفراء: معناه: إليه المصير.
وقال الزجاج: يرصد من كفر به وعاند طاعته بالعذاب.
وقال الضحاك: يرصد أهل الظلم، والمعصية.