التفاسير

< >
عرض

مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٢٠
وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٢١
وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ
١٢٢
-التوبة

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ } الآية.
لمَّا أوجب عليهم موافقة الرسول في جميع الغزوات والمشاهد؛ أكد ذلك بالنَّهي في هذه الآية عن التخلف عنه. قال المفسرون: ظاهره خبر ومعناه نهي، كقوله تعالى
{ { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ } [الأحزاب:53]، { وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ } سكان البوادي: مزينة وجُهينة، وأشجع وأسلم، وغفار، قاله ابنُ عباسٍ. وقيل: يتناولُ جميع الأعراب الذين كانوا حول المدينة، فإنَّ اللفظ عامٌّ، والتخصيص تحكم، وعلى القولين فليس لهم أن يتخلَّفُوا عن رسُولِ الله إذا غزا، { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } أي: لا يطلبوا لأنفسهم الحفظ والدَّعة حال ما يكونُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الحرِّ والمشقَّةِ، والمعنى: ليس لهم أن يكرهُوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول - عليه الصلاة والسلام - لنفسه. يقال: رَغِبْتُ بنفسي عن هذا الأمر، أي: توقفتُ عنه وتركته، وأرغب بفلان عن هذا الأمر، أي: أبخل به عليه ولا أتركه.
وظاهر الآية وجوب الجهادِ على الكل، إلاَّ ما خصَّه الدَّليل من المرضى، والضعفاء، والعاجزين. ولمَّا منعهم من التخلف، بيَّن أنهم لا يصيبهم في ذلك السفر نوع من المشقة إلاَّ وهو يوجب الثَّواب العظيم عند الله تعالى.
وذكر أموراً منها بقوله: "ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ" مبتدأ وخبر، والإشارة به إلى ما تضمَّنهُ انتفاء التخلف عن وجوب الخروج معه. "لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ" وهو العطشُ، يقال: ظَمِىءَ يَظْمَأُ ظَمَأ، فهو ظمآنُ وهي ظَمْأى، وفيه لغتان: القصر والمد، وبالمد قرأ عمرو بنُ عبيدٍ، نحو: سَفِه سَفَاهاً، والظَّمءُ: ما بين الشَّربتيْنِ.
ومنها: قوله: "ولاَ نَصَبٌ" أي: إعياء وتعب. { وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي: مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن، يقال: فلان خميص البطنِ، ومنها قوله: { وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ }. "مَوْطِئاً" مفعل، مِن: وَطِىءَ، ويحتملُ أن يكون مصدراً بمعنى: الوطْء وأن يكون مكاناً، والأوَّلُ أظهر؛ لأنَّ فاعل "يَغِيظُ" يعودُ عليه من غير تأويل، بخلاف كونه مكاناً، فإنَّهُ يعُودُ على المصدر، وهو الوطْءُ، الدالُّ عليه مكان المُوطِىءُ. والمعنى: لا يضعُ الإنسان قدمه، ولا يضع فرسه حافره، ولا يضع بعيره خفه، بحيث يصير ذلك سبباً لغيظ الكفار. قوله: "يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ" قال ابنُ الأعرابي: يقال: غَاظَه، وغيَّظَه، وأغَاظَه بمعنًى واحدٍ، أي: أغضبه. وقرأ زيدُ بنُ عليّ "يُغِيظُ" بضمِّ الياءِ.
وقوله: { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً } النَّيْلُ: مصدرٌ؛ فيحتمل أن يكون على بابه، وأن يكون واقعاً موقع المفعول به، وليس ياؤه مبدلةً من "واو" كما زعم بعضهم، بل نالهُ يَنولُه مادةٌ أخرى، وبمعنى آخر، وهو "المناولة"، يقال: نِلْتُه أنوله، أي: تناولتُه، ونِلْتُه أنَالُهُ، أي: أدركتُه. والمعنى: ولا ينالهم من العدو أسراً، أو قتلاً، أو هزيمةً قليلاً كان أو كثيراً { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } أي كان ذلك قربة عند الله لهم.
قال قتادة: "هذا الحكم من خواص رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلَّف عنه إلاَّ بعذر" وقال ابنُ زيدٍ: هذا حين كان المسلمون قلّة فلمَّا كثروا نسخها الله بقوله: { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً }. وقال عطيَّة: ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله إذا دعاهم، وهذا هو الصحيحُ؛ لأنَّ إجابة الرَّسُولِ واجبة، وكذلك غيره من الأئمة.
قال الوليدُ بنُ مسلم: سمعتُ الأوزاعيَّ، وابن المباركِ، وابن جابرٍ، وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: إنَّها لأوّلِ هذه الأمَّةِ وآخرها، وذلك لأنا لو سوَّغْنَا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعضٌ دون بعض فيؤدي ذلك إلى تعطيل الجهادِ.
قوله: { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } أي: تمرة فما فوقها، وعلاقة سوط فما فوقها { وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً } قال الزمخشريُّ: "الوَادِي": كل منفرجٍ بين جبال وآكام يكونُ منفذاً للسبيل، وهو في الأصل فاعل من: ودَى، إذا سَالَ، ومنه "الوَدِيّ". وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض. وجمع على "أوْدِيَة"، وليس بقياس، وكان قياسُه "الأوادي"، كـ "أواصل" جمع: "واصل"، والأصلُ: ووَاصل، قلبت "الواو" الأولى همزة. وهم قد يستثقلون واحده، حتى قالوا: "أقَيْتُ" في "وَقيْتُ". وحكى الخليل، وسيبويه، في تصغير واصل اسم رجل "أوَيْصِل"، ولا يقولون غيره قال النَّحَّاسُ "ولا أعرفُ فاعلاً وأفعلة سواهُ" وقد استدركَ هذا عليه؛ فزادُوا: نَادٍ وأندية؛ وأنشدوا: [الطويل]

2859- وفِيهمْ مقامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ وأنديَةٌ ينْتَابُهَا القوْلُ والفِعْلُ

والنَّادي المجلسُ.
وقال الفرَّاءُ: إنَّه يجمع على "أوْدَاء" كـ "صاحب وأصحاب"؛ وأنشد لجرير: [الوافر]

2860- عَرَفتْ بِبُرقَةِ الأوْدَاءِ رَسْماً مُحِيلاً طَالَ عَهْدُكَ مِنْ رُسُومِ

وزاد الرَّاغبُ في "فاعل وأفْعِلَة": "نَاجٍ وأنْجِيَة" فقد كمُلَتْ ثلاثةُ ألفاظٍ، في "فاعل وأفْعِلَة". ويقالُ: أوداه: أي: أهلكه؛ كأنهم تصَوَّرُوا منه إسالة الدَّم. وسمي الدِّية ديةً؛ لأنَّها في مقابلة إسالة الدَّم. ومنه "الوَدْيُ" وهو ماءُ الفَحْل عند المداعبة، وما يخرجُ عند البول، و "الوَدِيُّ" بكسر الدال وتشديد الياء: صغار النَّحل.
قوله: "إلاَّ كُتِبَ" هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من "ظَمَأ" وما عطف عليه أي: لا يصيبهم ظمأٌ إلا مكتوباً. وأفرد الضَّمير في "به"، وإن تقدَّمته أشياء، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة، أي: كُتبَ لهم بذلك عملٌ صالحٌ.
قال ابنُ عبَّاسٍ: بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعين ألف حسنةٍ.
وقوله: "إِلاَّ كُتِبَ" كنظيره. والمضمرُ: يُحتمل أن يعُود على العمل الصالح المتقدم، وأن يعود على أحد المصدرين المفهومين من "يُنفقُونَ" و "يقْطَعُونَ"، أي: إلاَّ كتب لهم الإنفاق أو القطع. وقوله: "ليَجْزيهُم" متعلق بـ "كُتِبَ" وقوله: { أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فيه وجهان:
الأول: أنَّ الأحسن من صفة فعلهم وفيها الواجب والمندوب والمباح، واللهُ تعالى يجزيهم على الأحسنِ، وهو الواجبُ والمندوب دون المباح.
والثاني: أن الأحسن صفةٌ للجزاء، أي: يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأفضل، وهو الثواب. روى خريم بن فاتك قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
"من أنفقَ نفقةً في سبيلِ اللهِ كتب اللهُ لهُ سبعمائة ضعفٍ" .
قوله تعالى: { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } الآية.
يمكن أن يقال هذه الآية من بقيَّةِ أحكام الجهادِ، ويمكن أن يقال إنَّهُ كلام مبتدأ لا تعلق لها بالجهادِ.
أمَّا الأول فنقل عن ابن عبَّاسٍ أنَّه عليه الصلاة والسلام كان إذا خرج إلى الجهاد لم يتخلَّف عنه إلاَّ منافق أو صاحب علة. فلمَّا بالغ الله تعالى في عيوب المنافقين في غزوة تبوك قال المؤمنون: والله لا نتخلَّف عن شيء من الغزوات مع الرسولِ، ولا عن سرية. فلمَّا قدم الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - المدينة، وأرسل السَّرايَا إلى الكُفَّار، نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو وتركوه وحدهُ بالمدينة؛ فنزلت هذه الآية. والمعنى: لا يجُوز للمؤمنين أن ينفروا كلهم إلى الجهاد، بل يجبُ أن يصيروا طائفتين، طائفةٌ تبقى في خدمة الرسول، وطائفة أخرى تنفرُ للجهاد، وذلك لأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجاً إلى الجهاد، وأيضاً كانت التَّكاليف والشَّرائع تنزلُ، وكان بالمسلمين حاجة إلى من يكون مقيماً بحضرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - يتعلَّم تلك الشرائع والتكاليف، ويبلغها للغائبين، وبهذا الطريق يتمُّ أمرُ الدِّين، وعلى هذا القول ففيه احتمالان:
أحدهما: أن تكون الطَّائفة المقيمة هم الذين يتفقَّهُونَ في الدِّين لملازمتهم الرسول - عليه الصلاة والسلام -، ومشاهدتهم التنزيل؛ فكُلما نزل تكليفٌ وشرع؛ عرفوه وحفظوه، فإذا رجعت الطائفةُ النَّافرة من الغزو؛ أنذرتهم المقيمة ما تعلموه من التَّكاليف والشرائع، وعلى هذا فلا بد من إضمار، والتقدير: فلولا نفر من كلِّ فرقة منهم طائفة وأقامت طائفة لتفقه المسلمين في الدين، ولينذروا قومهم، يعني النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي الله تعالى.
والاحتمال الثاني: أنَّ التفقهة صفة للطائفة النافرة قاله الحسنُ. والمعنى: فلولا نفر من كُلِّ فرقة منهم طائفة حتى تصير هذه الطائفة النافرة فقهاء في الدين، أي: أنهم إذا شاهدوا ظهور المسلمين على المشركين، وأنَّ العدد القليل منهم يغلبون العالم من المشركين؛ فيتبصروا ويعلموا أن ذلك بسبب أنَّ الله تعالى خصهم بالنُّصرة، والتأييد وأنَّ الله تعالي يريد إعلاء دين محمدٍ، وتقوية شريعته؛ فإذا رجعوا إلى قومهم من الكُفَّار أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر، والفتح، والظفر، لعلهم يحذرون؛ فيتركوا الكفر والنفاق.
وأما الثاني: وهو أن هذا حكم مبتدأ؛ فتقريره أنَّ الله تعالى، لمَّا بيَّن في هذه السورة أمر الهجرة، ثم أمر الجهاد، وهما عبادتان بالسَّفر، بيَّن أيضاً عبادة التفقه من جهة الرَّسُول وله تعلق بالسفر، فقال: { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } إلى حضرة الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ليتفقهوا في الدِّين، بل ذلك غيرُ واجب، وليس حاله كحال الجهادِ مع الرسول الذي يجبُ أن يخرج فيه كل من لا عُذْرَ لهُ.
ثم قال: { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ } يعني من الفرق الساكنين في البلاد، طائفة إلى حضرة الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ليتفقهوا في الدِّين، وليعرفوا الحلال والحرام ويعودوا إلى قومهم؛ فينذروا ويحذروا قومهم، لكي يرجعوا عن كفرهم، وعلى هذا فالمرادُ وجوب الخروج إلى حضرة الرَّسُول للفقه والتعلُّم.
فإن قيل: أفتدلُّ الآيةُ على وجوب الخروجِ للتفقه في كُلِّ زمان؟
فالجواب: متى عجز عن التفقه إلاَّ بالسَّفر؛ وجب عليه السَّفر، وفي زمان الرسول - عليه الصلاة السلام - كان الأمر كذلك؛ لأنَّ الشريعة ما كانت مستقرة، بل كان يحدث كل يوم تكليف جديد، وشرع حادث. وأمَّا الآن فقد صارت الشريعة مستقرة؛ فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يجب السَّفرُ.
قوله: { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ } "لولا" تحضيضية، والمرادُ به الأمر؛ لأنَّ "لوْلاَ" إذا دخل على الفعل كان بمعنى التحضيض مثل "هَلاَّ"؛ لأنَّ "هَلاَّ" كلمتان "هل" وهو استفهام وعرض؛ لأنك إذا قلت للرَّجُلِ: هل تأكلُ؟ فكأنَّك عرضت ذلك عليه، و "لا" وهو جحد، فـ "هلاَّ" مركب من أمرين: العرض، والجحد. فإذا قلت: هلا فعلت كذا؟ فكأنك قلت: هل فعلت. ثم قلت معه "لا" أي: ما فعلت، ففيه تنبيه على وجوب الفعل وتنبيه على أنه حصل الإخلال بهذا الواجب، وهكذا الكلام في "لوْلا" لأنك إذا قلت: لوْلاَ دخلتَ عليَّ، ولوْلا أكلتَ عِنْدِي، فمعناه أيضاً عرض وإخبار عن سرورك به، لو فعل، وهكذا الكلام في "لوما" ومنه قوله:
{ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِٱلْمَلائِكَةِ } [الحجر:7] فـ "لَوْلاَ"، و "هَلاَّ" و "لوْمَا" ألفاظ متقاربة، والمراد بها: الترغيب والتحضيض. و "مِنْهُم" يجوزُ أن يكون صفةً لـ "فِرْقَةٍ"، وأن يكون حالاً من "طَائِفَةٌ"؛ لأنَّها في الأصل صفة لها. وعلى كلا التَّقديرين فيتعلقُ بمحذوف. والذي ينبغي أن يقال: إنَّ "مِن كُلِّ فرقةٍ" حال من "طَائفَةٌ" و "مِنْهُم" صفة لـ "فِرْقَةٍ". ويجوزُ أن يكون "مِن كُلِّ" متعلقاً بـ "نفر". وفي الضمير من قوله "ليتفَقَّهُوا" قولان:
أحدهما: أنَّهُ للطَّائفة النَّافرة.
والثاني: للطائفة القاعدة، والضَّمير في "رَجَعُوا" عائدٌ على النَّافرة. قال ابنُ العربي، والقاضي أبو بكرٍ، والشيخُ أبو الحسن: "إنَّ الطَّائفة ههنا واحد، ويقضون على وجوب العملِ بخبر الواحد، وهو صحيح، لا من جهة أن الطائفة تطلق على الواحد ولكن من جهة أنَّ خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد، وأنَّ مقابله وهو التَّواتر لا ينحصر".
قال القرطبي: "أنص ما يستدل به على أنَّ الواحد يقال له: طائفة قوله تعالى:
{ { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } [الحجرات:9] أي: نفسين، بدليل قوله: { { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [الحجرات:10] فجاء بلفظ التثنية، وأما الضمير في: "اقْتَتلُوا" وإن كان ضمير جماعة فأقل الجماعة اثنان في أحد القولين".
فصل
دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ خبر الواحد حجة، وأنَّ كلَّ ثلاثة فرقة، وقد أوجب الله تعالى أن يخرج من كلِّ فرقة طائفة، والخارج من الثلاثة يكون اثنين، أو واحداً؛ فوجب أن تكون الطائفة إمَّا اثنين أو واحداً، ثم إنه تعالى أوجب العمل بأخبارهم، لقوله "وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ" وهو عبارة عن أخبارهم. وقوله "لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" إيجاب على قومهم أن يعملوا بأخبارهم، وذلك يقتضي أن يكون خبر الواحد أو الاثنين حجة في الشرع.
قال القاضي: "لا تدل الآية على وجوب العمل بخبر الواحد؛ لأنَّ الطائفة قد تكونُ جماعة يقع بخبرها الحجة؛ ولأنَّ قوله: "وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ" يصحُّ وإن لم يجب القبول، كما أنَّ الشَّاهدَ الواحد يلزمه الشهادة، وإن لم يلزم القبول؛ ولأن الإنذار يتضمَّنُ التخويف، وهذا العذرُ لا يقتضي وجوب العمل به".
والجوابُ: أنَّا بينَّا أنَّ كل ثلاثة فرقة، وقد أوجب الله أن يخرج من كل فرقة طائفة؛ فلزم كون الطائفة إما اثنين أو واحداً؛ فبطل كون الطائفة جماعة يحصلُ العلم بخبرهم، فإن قيل: إنَّه تعالى أوجب العمل بقول أولئك الطوائف، فلعلهم بلغُوا في الكثرة إلى حيث يحصلُ العلم بخبرهم.
فالجوابُ: أنه تعالى أوجب على كُلِّ طائفة أن يرجعوا إلى قومهم، فاقتضى رجوع كل طائفة إلى قوم خاص، ثم إنَّه تعالى أوجب العمل بقول تلك الطائفة، وهو المطلوب.
وأمَّا قوله: "وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ" يصحُّ وإن لم يجب القبولُ؛ فالجوابُ: أنَّا لا نتمسَّكُ في وجوب العمل بخبر الواحد بقوله: "وليُنذِرُوا" بل بقوله: "لعَلَّهُم يَحْذرُون" فإنَّه ترغيبٌ منه تعالى في الحذرِ، بناءً على أن ذلك الإنذار يقتضي إيجاب العمل على وفق ذلك الإنذار.
فصل
الفقه معرفة أحكام الدِّين، وهو ينقسمُ إلى فرض عين، وفرض كفاية، ففرض العين مثل: علم الطهارة والصلاة والصوم، فعلى كل مكلف معرفته، قال عليه الصلاة والسلام
"طلبُ العِلْمِ فريضَةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ" وكذلك كل عبادة أوجبها الشَّرع على كل واحد يجب عليه معرفة علمها مثل: علم الزكاة إن كان له مال، وعلم الحج إن وجب عليه.
وأما فرض الكفاية، فهو أن يتعلم حتى يبلغ رتبة الاجتهاد؛ فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعاً، وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط الفرض عن الآخرين، وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث، قال عليه الصلاة والسلام:
"فَضْلُ العَالم على العَابدِ كفَضْلِي على أدْنَاكُم" ، وقال عليه الصلاة والسلام "فقيهٌ واحدٌ أشَدُّ على الشَّيطانِ من ألْفِ عابدٍ" وتقدم الكلام على حد الفقه في اللغةِ في سورة النساء عند قوله { لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } [النساء:78].