التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ
٢٥
ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ
٢٦
ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٧
-التوبة

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } الآية.
لمَّا ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء، والإخوان، والعشيرة، وعن الأموال، والتجارات، والمساكن، رعاية لمصالح الدِّين، وعلم أنَّ ذلك يشقّ على النفوس، ذكر ما يدلُّ على أنَّ من ترك الدُّنيا لأجل الدِّين، فإنَّهُ تعالى يوصله مطلوبه.
وضرب لهذا مثلاً، وذلك أنَّ عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقعة حنين، كانوا في غاية الكثرةِ والقوَّةِ، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم، صارُوا منهزمين، فلمَّا تَضَرَّعُوا في حال الانهزام إلى اللهِ تعالى قوَّاهم حتَّى هزموا عسكر الكُفَّارِ، وذلك يدلُّ على أنَّ الإنسان متى اعتمد على الدُّنيا، فاته الدِّين والدنيا، ومتى أطاع الله، ورجَّحَ الدِّين على الدُّنيا، آتاه اللهُ الدِّين والدُّنيا على أحسن الوُجوه فكان هذا تسلية لأولئك المأمورين بمقاطعة الآباءِ والأبناءِ، لأجل مصلحة الدِّين، وعداً لهم بأنهم إن فعلُوا ذلك أوصلهم اللهُ تعالى إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه.
قال الواحديُّ: "النّصر: المعونةُ على العدوِّ خاصة" , "المواطن": جمع "مَوْطِن" بكسر العين، وكذا اسم مصدره، وزمانه، لاعتلال فائه كـ "المَوْعد"، قال: [الطويل]

2773- وكَمْ مَوْطنٍ لوْلايَ طِحْتَ كَما هَوَى بأجْرَامِهِ مِنْ قُنَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي

و "حُنَيْن": اسمُ وادٍ بين مكة والطائف، فلذلك صرفه، وبعضهم جعله اسماً للبقعة، فمنعه في قوله: [الكامل]

2774- نَصَرُوا نَبيَّهُمُ وشَدُّوا أزْرَهُ بِحُنينَ يَوْمَ تواكُلِ الأبْطالِ

وهذا كما قال الآخرُ في "حراء": اسم الجبل المعروف، اعتباراً بتأنيث البقعة في قوله: [الوافر]

2775- ألَسْنَا أكْثَرَ الثَّقليْنِ رَجْلاً وأعْظَمَهُمْ بِبطْنِ حِرَاءَ نَارَا

فصل
المرادُ بالمواطن الكثيرة: غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال: إنها ثمانون موطناً، فأعلمهم أنه تعالى هو الذي تولَّى نصر المؤمنين، ومن نصره الله فلا غالب له، ثم قال "وَيَوْمَ حُنَيْنٍ" أي: واذكر يوم حُنَيْن من جملة تلك المواطن حال ما أعجبتكم كثرتكم، و "حنين" واد بين مكة والطائف.
وقيل: إلى جنب ذي المجاز. قال الرواةُ: لمَّا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة، وقد بقيت أيامٌ من شهر رمضان، خرج متوجهاً إلى حنين، لقتال هوازن وثقيف، في اثني عشر ألفاً، عشرة آلاف من المهاجرين، وألفان من الطلقاءِ.
وقال عطاءٌ: عن ابن عباس "كانوا ستة عشر ألفاً".
وقال الكلبيُّ "كانوا عشرة آلاف". وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف، وعلى هوازن: مالكُ بن عوف النضري، وعلى ثقيف: كنانة بن عبد ياليل الثقفي، فلما التقى الجمعان، قال رجلٌ من الأنصار يقال له: سلمة بنُ سلامة بن وقش: لن نغلب اليوم عن قلَّةٍ، وهو المراد من قوله: { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ }، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل، وفي رواية: لم يرض الله قوله، ووكلُوا إلى أنفسهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً؛ فانهزم المشركون وتخلّوا عن الذراري، ثم نادوا يا حماة السواد اذكروا الفضائح، فتراجعوا، وانكشف المسلمون.
قال قتادةُ: وذكر لنا أنَّ الطُّلقاء انجفلوا يومئذ بالنَّاسِ.
قوله: "وَيَوْمَ حُنَيْنٍ" فيه أوجه:
أحدهما: أنَّهُ عطفٌ على محلِّ قوله: "فِي مَوَاطِنَ" عطف ظرف الزمان من غير واسطة "في" على ظرف المكان المجرور بها، ولا غرو في نسق ظرف زمان على مكان، أو العكس، تقول: سرت أمامك ويوم الجمعة، إلاَّ أنَّ الأحسن أن يُتركَ العاطفُ في مثله.
الثاني: زعم ابنُ عطية: أنَّه يجوز أن يُعطف على لفظ "مَواطِنَ" بتقدير: "وفِي يَوْمِ"، فحذف حرف الخفض، وهذا لا حاجة إليه.
الثالث: قال الزمخشريُّ: "فإن قلت: كيف عطف الزمان على المكان، وهو "يَوْمَ حُنينٍ" على "مَواطِنَ"؟.
قلت: معناه: وموطن يوم حنين، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين".
الرابع: أن يُراد بـ "المواطِن": الأوقاتُ، فحينئذٍ إنَّما عطف زمانٌ على زمان.
قال الزمخشريُّ - بعدما تقدَّم عنه -: "ويجوزُ أن يُراد بـ "المواطن": الوقت، كـ: مقتل الحسين، على أنَّ الواجب أن يكون: "يَوْمَ حُنينٍ" منصوباً بفعل مضمر، لا بهذا الظَّاهر، ومُوجِبُ ذلك أنَّ قوله: "إِذْ أَعجَبَتْكُمْ" بدلٌ من "يَوْمَ حُنَينٍ"، فلو جعلتَ ناصبَه هذا الظاهر، لم يصحَّ؛ لأنَّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيرين في جميعها، فبقي أن يكون ناصبُه فعلاً خاصاً به".
قال شهابُ الدِّين: "لا أدري ما حمله على تقدير أحد المضافين، وعلى تأويل "المواطن" بالوقت، ليصحَّ عطفُ زمانٍ على زمان، أو مكان على مكان، إذ يصحُّ عطفُ أحدُ الظرفين على الآخر؟ وأمَّا قوله: "على أنَّ الواجب أن يكون" إلى آخره؛ كلامٌ حسنٌ، وتقريره أنَّ الفعل مُقيدٌ بظرف المكان، فإذا جعلنا "إذْ" بدلاً من "يَوْم" كان معمولاً له؛ لأنَّ البدل يَحُلُّ محلَّ المُبْدل منه؛ فيلزم منه أنه نصرهم إذ أعجبتهم كثرتُهم في مواطن كثيرة، والفرض أنَّهم في بعض هذه المواطن لم يكونوا بهذه الصفة، إلاَّ أنَّه قد ينقدح، فإنَّه - تعالى - لم يقل في جميع الموطن، حتَّى يلزم ما قاله".
ويمكن أن يكون أراد بالكثرةِ: الجميع، كما يُراد بالقلة العدمُ.
قوله: "بِمَا رَحُبَتْ"ما" مصدريةٌ، أي: رَحْبُها وسعتها. وقرأ زيد بن علي في الموضعين "رَحْبَت" بسكون العين، وهي لغة تميم، يسكنون عين "فَعُل" فيقولون: في "شَرُف"شَرْف". و "الرُّحْب" بالضمِّ: السَّعَة، وبالفتح: الشيء الواسع، يقال: رَحُب المكان يَرْحُب رُحْباً ورَحَابَةً، وهو قاصر. فأمَّا تعدِّيه في قولهم: رَحُبَتكم الدار" فعلى التضمين، لأنه بمعنى "وسعتكم".
فصل
قوله: { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } الإغناء: إعطاء ما يدفع الحاجة، أي: فلم يُعطِكم شيئاً يدفع حاجتكم. والمعنى: أنه تعالى أعلمهم أنَّهُم لا يغلبون بكثرتهم، وإنما يغلبون بنصر الله، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم، صاروا منهزمين، ثم قال: { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } أي: مع رحبها، و "ما" ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر، والمعنى: إنكم لشدَّةِ ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرضُ، فلم تجدُوا فيها موضعاً يصلح لفراركم من عدوكم.
قال البراء بن عازب: كانت "هوازن" رماة، فلما حملنا انكشفوا وأكببنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، وانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق معه إلا العباس وأبو سفيان بن الحارث. قال [البراء]: والذي لا إله إلاَّ هو ما ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم قط، قال: رأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب، والعباس آخذ بلجام دابته البيضاء وهو يقول:
"أنَا النبيُّ لا كذِبْ، أنَا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِبوطفق يركضُ بغلته نحو الكفار، ثم قال للعبَّاس: نادِ المهاجرين والأنصار - وكان العباس رجلاً صَيِّتاً - فجعل يُنَادِي: يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرةِ، فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقاً واحداً، وأخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده كفاً من الحَصَى، فرماهم بها، وقال: شَاهتِ الوُجوهُ فما زال أمرهم مدبراً، وحدهم كليلاً حتى هزمهم اللهُ، ولم يبق منهم أحد يومئذ إلاَّ وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب، فذلك قوله: { ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ }."
والمراد بالسّكينة: ما يسكن إليه القلبُ، ويوجب الأمنة، ووجه الاستعارة فيه: أنَّ الإنسان إذا خاف فرَّ وفُؤاده متحرك، وإذا أمن؛ سكن وثبت؛ فلمَّا كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السَّكينة كناية عن الأمن. ثم قال تعالى: { وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } والمراد: أَنْزَلَ الملائِكة، وليس في هذه الآية ما يدلُّ على عدّة الملائكة، كما هو في قصة بدر، فقال سعيد بن جبير: "أيَّد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة" ولعله إنَّما قاسه على يوم بدر.
وقال سعيدُ بن المسيبِ: حدَّثني رجلٌ كان في المشركين يوم حنين قال: لمَّا كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم، فلمَّا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، تلقانا رجال بيض الوجوه، فقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا، واختلفوا في أنَّ الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم؟ فالذي روي عن سعيد بن المسيب يدلُّ على أنهم قاتلوا، وقال آخرون: إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر، وفائدة نزولهم في هذا اليوم: هو إبقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين.
ثم قال تعالى: { وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } والمرادُ من هذا التَّعذيب: قتلهم وأسرهم، وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ فعل العبد خلق لله تعالى؛ لأنَّ المراد من هذا التَّعذيب ليس إلا الأخذ والأسر، وقد نسب تلك الأشياء إلى نفسه.
قوله: { وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } تَمسَّك الحنفيَّةُ في مسألة الجلد مع التعزير بقوله
{ { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ } [النور:2] قالوا: الفاءُ تدلُّ على كون الجلد جزاء، والجزاء اسم للكافي، وكون الجلد كافياً يمنع كون غيره مشروعاً معه، وأجيبوا بأن الجزاء ليس اسماً للكافي؛ لأنه تعالى سمَّى هذا التعذيب جزاء مع أنَّ المسلمين أجمعوا على أنَّ العقوبة الدائمة في القيامة مُدَّخرة لهم، فدلت هذه الآية على أنَّ الجزاء ليس اسماً لما يقع به الكفاية.
قوله { ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } أي: أنَّ الله تعالى مع كل ما جرى عليهم من الخذلان يتوب عليهم، بأن يزيل عن قلبهم الكفر، ويخلق فيه الإسلام، وقال القاضي: معناهُ: أنَّهُ بعد ما جرى عليهم ما جرى، إذا أسلمُوا وتابُوا فإنَّ الله يقبل توبتهم" وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قوله: "ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ" ظاهره يَدُلُّ على أنَّ تلك التوبة إنَّما تحصل لهم من قبله تعالى، وتقدَّم الكلامُ على المعنى في البقرة عند قوله
{ { فَتَابَ عَلَيْهِ } [البقرة:37] ثم قال: { وَٱللَّهُ غَفُورٌ } أي: لمن تاب { رَّحِيمٌ } لِمَنْ آمن وعمل صالحاً.