التفاسير

< >
عرض

وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ٱسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَاعِدِينَ
٨٦
رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ
٨٧
لَـٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٨٨
أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
٨٩
وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٩٠
-التوبة

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } الآية.
"إذَا" لا تقتضي تكراراً بوضعها، وإن كان بعضُ النَّاسِ فهم ذلك منها هنا، وقد تقدَّم ذلك أوَّل البقرة؛ وأنشد عليه: [البسيط]

2824- إذَا وَجَدْتُ أوَارَ الحُبِّ فِي كَبِدِي ...........................

وأنَّ هذا إنَّما يُفهَمُ من القرائنِ، لا منْ وضع "إذَا".
قوله: "أَنْ آمِنُواْ" فيه وجهان:
أحدهما: أنَّها تفسيريةٌ؛ لأنَّه فيه تقدَّمها ما هو بمعنى القول لا حروفه.
والثاني: أنَّها مصدريةٌ، على حذف حر الجرّ، أي: بأنْ آمنُوا.
وفي قوله: "ٱسْتَأْذَنَكَ" التفاتٌ من غيْبَةٍ إلى خطاب، وذلك أنَّهُ قد تقدَّم لفظُ "رسُوله"، فلو جاء على الأصل لقيل: اسْتَأْذَنَهُ".
فصل
اعلم أنَّهُ تعالى بيَّن في الآيات المتقدمة احتيال المنافقين في التَّخلف عن رسُول الله - عليه الصَّلاة والسَّلام -، والقعود عن الغَزْوِ، وزاد ههنا، أنَّهُ متى نزلت آية فيها الأمر بالغزو مع الرسولِ، استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلُّف عن الغزو، وقالوا للرَّسُول عليه الصلاة والسلام: ذَرْنَا نكُن مع القاعدين، أي: مع الضُّعفاء من النَّاس والسَّاكنين في البلد.
و "السُّورة" يجوزُ أن يراد تمامها وأن يراد بعضها، كما يقع القرآن والكتاب على كلِّه وبعضه وقيل: المرادُ بـ "السُّورة" براءة؛ لأنَّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد.
قوله { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ }.
الخَوالِفُ: جمع خالفٍ من صفة النِّساءِ، وهذه صفةُ ذمّ؛ كقول زهير: [الوافر]

2825- ومَا أدْرِي وسَوْفَ إخَالُ أدْرِي أَقوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نِسَاءُ؟
فإنْ تَكُنِ النِّساءُ مُخَبَّآتٍ فحُقَّ لِكُلِّ مُحْصَنَةٍ هِدَاءُ

وقال آخر: [الخفيف]

2826- كُتِبَ القَتْلُ والقِتَالُ عَلَيْنَا وعَلَى الغَانياتِ جَرُّ الذُّيُولِ

وقال النَّحَّاسُ "يجوزُ أن تكون الخوالف من صفة الرِّجالِ، بمعنى أنَّها جمعُ "خالفة" يقال: رجل خالفة، أي: لا خير فيه". فعلى هذا يكونُ جمعاً للذكور، باعتبار لفظه. وقال بعضهم: إنَّه جمع "خالف"، يقال: رجل خالفٌ، أي: لا خير فيه. وهذا مردودٌ، فإنَّ "فواعِل" لا يكونُ جمعاً لـ "فَاعلِ"، وصفاً لعاقل، إلاَّ ما شذَّ، من نحو: فَوَارِس، ونَواكِس وهَوالك.
ثم قال تعالى: { وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } [التوبة:87] وقد تقدَّم الكلامُ في الطَّبْعِ والختم، أوَّل البقرة.
قوله تعالى: { لَـٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } الآية.
ومعنى هذا الاستدراك: أنَّه إن تخلَّف هؤلاء المنافقون عن الغزو؛ فقد توجه إليه من هو خير منهم ونظيره:
{ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـٰؤُلاۤءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } [الأنعام:89] وقوله: { { فَإِنِ ٱسْتَكْبَرُواْ فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } [فصلت:38]، ولمَّا وصفهم بالمُسارعةِ إلى الجهادِ، ذكر ما حصل لهم من الفوائدِ، وهي أنواع، أوَّلها: قوله { وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلْخَيْرَاتُ } والخيراتُ: جمع خَيْرة، على "فَعْلة" بكسون العين، وهو المُسْتَحْسَنُ من كُلِّ شيءٍ، وغلبَ استعماله في النِّساء، ومنه قوله تعالى: { { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [الرحمن:70]؛ وقول الشَّاعر: [الكامل]

2827- ولقَدْ طَعَنْتُ مَجامِعَ الرَّبَلاتِ ربلاتِ هِنْدٍ خَيْرَةِ الملكاتِ

قال المُفسِّرونَ: هي الجواري الحسان والجنَّة. وقال ابنُ عبَّاس: "الخيْرَاتُ" لا يعلم معناهُ إلاَّ الله، كما قال جلَّ ذكرهُ { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة:17]ٍ. وقيل: المرادُ: بـ "الخَيْرَات" الثَّواب.
وثانيها: قوله: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }، والمرادُ منه: التخلص من العقاب.
وثالثها: قوله: { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } يحتملُ أن تكون هذه الجنات كالتَّفسير للخيراتِ والفلاحِ، ويحتملُ أن تحمل الجنات على ثواب الآخرة، والفلاح على منافع الدُّنيا، كالغزو، والثروة، والقدرةِ، والغلبةِ، و "الفَوزُ العظيمُ" عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعه، ودرجة عالية.
قوله تعالى: { وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ } الآية.
لمَّا شرح أحوال المنافقين الذين كانُوا في المدينة، شرح في هذه الآية أحوال المنافقين من الأعراب.
قرأ الجمهور "المُعذِّرُونَ" بفتح العين وتشديد الذَّال، وهي تحتمل وجهين:
أن يكون وزنه "فعَّل" مضعّفاً، ومعنى التَّضعيف فيه التكليف، والمعنى: أنه توهَّم أنَّ لهُ عُذراً، ولا عذر لهُ.
والثاني: أن يكون وزنه "افْتَعَل"، والأصلُ: "اعتذرَ"، فأدغمت التاءُ في الذال بأن قلبت تاءُ الافتعال ذالاً، ونُقِلت حركتها إلى السَّاكن قبلها، وهو العين، ويدلُّ على هذا قراءةُ سعيد بن جُبير "المُعْتَذِرُونَ" على الأصل، وإليه ذهب الأخفشُ، والفرَّاءُ وأبو عبيد، وأبو حاتم، والزَّجَّاجُ، وابن الأنباري، والاعتذار قد يكُون بالكذبِ، كما في قوله
{ { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } [التوبة:94]، وكان ذلك الاعتذار فاسداً، لقوله: "لا تَعْتذرُوا"، وقد يكون بالصِّدقِ، كقول لبيد: [الطويل]

2828-........................ ومَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقدِ اعتذرْ

يريد: فقد جاء بعُذْرٍ.
وقرأ زيد بن عليّ، والضحاكُ، والأعرجُ، وأبو صالح، وعيسى بن هلال، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد أيضاً، ويعقوب، والكسائي "المُعْذرُونَ" بسكون العين وكسر الذَّال مخففة من أعْذَر، يُعْذِر كـ "أكْرَم، يُكْرِم"، وهم المبالغون في العُذْرِ.
وقرأ مسلمةُ "المُعَّذِّرُون" بتشديد العين والذال، من "تعذَّرَ" بمعنى اعْتذرَ.
قال أبُو حاتمٍ: أراد "المتعذِّرون" والتاء لا تدغم في العين، لبُعد المخارجِ وهي غلطٌ منه، أو عليه.
قوله: "ليُؤذنَ" متعلقٌ بـ "جَاءَ" وحذفَ الفاعلُ، وأقيمَ الجارُّ مقامه، للعلم به، أي: ليأذن لهم الرسول.
فصل
أمَّا قراءةُ التخفيف فهم الكاذبون في العذر، وأمَّا قراءة التشديد، فمحتملة لأن يكونُوا صادقين، وأن يكُونُوا كاذبينَ. قال ابنُ عبَّاسٍ "هم الَّذِين تخلَّفُوا بعذرٍ بإذن رسُول الله صلى الله عليه وسلم" وهو قول بعض المفسرين أيضاً، قال: المعذرون، كانوا صادقين؛ لأنَّه تعالى لمَّا ذكرهم قال بعدهم { وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }، فلمَّا ميَّزهم عن الكاذبين دلَّ على أنَّهم لَيْسُوا كاذبينَ. وقال الضَّحَّاكُ: هُم رهطُ عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعاً عن أنفسهم، فقالُوا: يا نبيَّ الله: إنْ نحنُ غزونَا معك أغارت أعرابُ طيىءٍ على حلائلنا، وأولادنا، ومواشينا، فقال لهم رسُول الله صلى الله عليه وسلم قد نَبَّأني الله من أخباركم، وسيغنيني الله عنكم.
وروى الواحديُّ عن أبي عمرو: أنَّهُ لمَّا قيل له هذا الكلام قال: إنَّ أقواماً تكلَّفُوا عُذْراً بباطل فهمُ الذين عناهم بقوله: "وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ"، وتخلَّف آخرون لا بعُذر ولا بشبهةِ عذرٍ جراءة على الله تعالى؛ فهم المرادون بقوله { وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }، فأوعدهُم بقوله: { سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ } في الدُّنيا بالقتلِ، وفي الآخرة بالنَّارِ.
وإنَّما قال "مِنْهُم"؛ لأنَّه تعالى كان عالماً بأنَّ بعضهم سيؤمن، فذكر بلفظة "مِنْ" الدَّالة على التَّبعيض.
وقرأ الجمهور "كَذبُوا" بالتَّخفيف، أي: كذبُوا في أيمانهم. وقرأ الحسنُ في المشهور عنه وأبيٌّ، وإسماعيل "كذَّبُوا" بالتَّشديد، أي: لَمْ يُصدِّقُوا ما جاء به الرَّسولُ عن ربِّه ولا امتثلوا أمره.