التفاسير

< >
عرض

وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا
١
وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا
٢
وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا
٣
وَٱللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا
٤
وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا
٥
وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا
٦
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا
٧
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا
٨
قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا
٩
وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا
١٠
-الشمس

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا }، وقد تقدَّم أنَّ جماعة من أهل الأصول؛ قالوا: التقدير: ورب الشمس، ورب سائر ما ذكر إلى تمام القسم.
واحتج قوم على بطلان هذا القول، بأن في جملة هذا القسم: { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا }، وذلك هو الله تعالى، لا يجوز أن يكون المراد منه تعالى أن يقدم قسمه بغيره على قسمه بنفسه، فإذن لا بد من تأويل، وهو أن "ما" مع ما بعده في حكم المصدر، فيكون التقدير: والسَّماءِ وبنائها.
واعترض الزمخشريُّ عليه، فقال: لو كان الأمر على هذا الوجه، لزم من عطف قوله: "فألهمها" عليه فساد النظم.
قوله: { وَضُحَاهَا }.
قال المبرِّدُ: إن الضُّحى، والضَّحوة، مشتقان من الضحّ، وهو النور فأبدلت الألف، والواو من الحاء، تقول: ضَحْوة، وضَحَوات، وضُحى فالواو من "ضَحْوة" مقلوبة عن الحاء الثانية، والألف في "ضُحَى" مقلوبة عن الواو.
وقال أبو الهيثم: الضحُّ نقيض الظل، وهو نور الشمس على ظهر وجه الأرض وأصله: الضحى، فاستثقلوا الياء مع سكون الواو فقلبوها ألفاً.
والضُّحَى: مؤنثة، يقال: ارتفعت الضُّحى فوق الصخور، وقد تذكر، فمن أنَّث ذهب إلى أنها جمع ضحوة، ومن ذكَّر ذهب إلى أنَّه اسم على "فُعَل" نحو "صُرَد، ونُغَر" وهو ظرف غير متمكن مثل: سحر، تقول: لقيته ضحًى، وضُحَى, إذا أردت به ضحى يومك لم تنونه.
وقال الفراء: الضُّحَى، هو النهار، كقول قتادة، والمعروف عند العرب أنَّ الضحى إذا طلعت الشمس، وبُعَيْدَ ذلك قليلاً، فإذا زاد فهو الضّحاء بالمد.
ومن قال: الضحى، النهار كله، فذلك لدوام نور الشمس، ومن قال: إنه نور الشَّمس أو حرها، فنور الشمس لا يكون إلاَّ مع حرِّ الشمس، وقد استدل من قال: إن الضحى حر الشمس بقوله تعالى:
{ { وَلاَ تَضْحَىٰ } [طه: 119] أي: لا يؤذيك الحر.
فصل في تفسير الآية
قال مجاهد: "وضُحَاهَا" أي: ضوؤها وإشراقها، وأضاف الضحى إلى الشمس؛ لأنه إنما يكون بارتفاع الشمس.
وقال قتادةُ: بهاؤها.
وقال السدي: حرها.
وقال اليزيدي: انبساطها.
وقيل: ما ظهر بها من كل مخلوق، فيكون القسم بها، وبمخلوقات الأرض كلها. حكاه الماوردي.
قال ابن الخطيب: إنَّما أقسم بالشمس، وضحاها، لكثرة ما يتعلق به من المصالح، فإنَّ أهل العالم كانوا كالأموات في الليل، فلما ظهر الصبحُ في المشرق، صار ذلك الضوء، كالروح الذي تنفخ فيه الحياة، فصارت الأموات أحياء، ولا تزال تلك الحياة في القوة، والزيادة إلى غاية كمالها وقت الضحى، وذلك شبيه استقرار أهل الجنة.
قوله: { وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا }، أي: تبعها، وذلك إذا سقطت رؤيا الهلال.
[قال الليث: تلوت فلاناً إذا تبعته.
وقال ابن زيد: إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر، تلاها القمر بالطلوع، وفي آخر الشهر، يتلوها بالغروب].
قال الفراء: "تَلاَهَا": أخذ منها، يذهب إلى أن القمر يأخذ من ضوء الشمس.
وقال الزجاجُ: "إذا تَلاهَا" أي: حين استوى، واستدار، فكان مثلها في الضياء والنور.
وقال قتادةُ والكلبيُّ: معناه: أن الشمس، إذا قربت، فالقمر يتبعها ليلة الهلال في الغروب.
وقيل: يتلوها في كبر الجرم، بحسب الحسّ في ارتباط مصالح هذا العالم بحركته.
قوله: { وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا }، الفاعل: ضمير النهار.
وقيل: عائد على الله تعالى، والضمير المنصوب، إمَّا للشمس، وإما للظُّلمة، وإما للأرض.
ومعنى "جلاها" أي: كشفها، فمن قال: هي "الشمس"، فالمعنى: أنه يبين بضوئه جرمها، ومن قال: هي "الظلمة"، فهي ون لم يجر لها ذكر، كقولك: أضحتْ باردةً، تريد: أضحت غداتنا باردة، وهو قول الفراء والكلبي وغيرهما.
ومن قال: هي الدنيا والأرض، وإن لم يجر لهما ذكر، كقوله:
{ { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ص: 32].
قوله: "إذَا تَلاهَا"، وما بعده فيه إشكال؛ لأنه إن جعل شرطاً اقتضى جواباً، ولا جواب لفظاً، وتقديره غير صالح، وإن جُعِلَ محضاً استدعى عاملاً وليس هنا عامل إلا فعل القسم حال؛ لأنه إنشاء، و "إذا" ظرف مستقبل، والحال لا يعمل في المستقبل.
ويخص "إذا" وما بعدها إشكال آخر ذكره الزمخشري، قال: فإن قلت: الأمر في نصب "إذَا" معضل، لأنك لا تخلو إمَّا أن تجعل الواو عاطفة، فتنصب بها وتجر، فتقع في العطف على عاملين في نحو قولك: "مررت أمس بزيد واليوم عمرو"، وإمَّا أن تجعلهن للقسم، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه.
قلت: الجواب فيه: أن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل إطراحاً كلياً، فكان لها شأن خلاف شأن الباء، حيث أبرز معها الفعل وأضمر، فكانت الواو قائمة مقام الفعل، والباء سادة مسدهما معاً، والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو، فحقهن أن يكنّ عوامل على الفعل، والجار جميعاً، كما تقول: "ضَرب زيد بكراً وعمرو خالداً"، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام "ضرب" الذي هو عاملهما انتهى.
وقال أبُو حيَّان: أما قوله في واوات العطف: "فتنصب وتجر"، فليس هذا بالمختار على أن يكون حرف العطف عاملاً لقيامه مقام العامل، بل المختار أن العمل إنما هو للعامل في المعطوف عليه، ثم إن الإنشاء حجة في ذلك.
وقوله: "فتقع في العطف على عاملين"، ليس ما في الآية من العطف عاملين، وإنما هو من باب عطف اسمين مجرور ومنصوب، على اسمين مجرور ومنصوب، فصرف العطف لم ينب مناب عاملين، وذلك نحو قولك: مررت بزيد قائماً وعمرو جالساً؛ وأنشد سيبويه في كتابه: [الطويل]

5219- فَلَيْـسَ بِمعـروفٍ لَنـا أنْ نَـرُدَّهَـا صِحَاحـاً ولا مُسْتنكَـرٌ أن تُعَقَّـــرَا

فهذا من عطف مجرور ومرفوع؛ والعطف على عاملين فيه أربعة مذاهب، ونسب الجواز إلى سيبويه.
وقوله في نحو قولك: "مررت أمس بزيد واليوم عمرو"، هذا المثال مخالف لما في الآية، بل وزان ما في الآية: "مررت بزيد أمس وعمرو اليوم" ونحن نجيز هذا.
وأمَّا قوله: "على استكراه"، فليس كما ذكر، بل كلام الخليل على المنع.
قال الخليل في قوله تعالى:
{ { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [الليل: 1-3]: "الواوان الأخريان ليستا بمنزلة الأولى، ولكنهما الواوان اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك: مررت بزيد وعمرو، والأولى بمنزلة الباء والتاء".
وأما قوله: "إن واو القسم ليس يطرح معها إبراز الفعل إطراحاً كلياً" فليس هذا الحكم مجمعاً عليه، بل أجاز ابن كيسان التصريح بفعل القسم مع الواو، فتقول: "أقسم، أو أحلف والله لزيد قائم".
وأما قوله: "والواوات العواطف نوائب عن هذا" إلى آخره، فمبني على أن حرف العطف عامل لنيابته مناب العامل، وليس هذا بالمختار.
قال: والذي يقول: إن المُعضلَ هو تقدير العامل في "إذا" بعد الإقسام، كقوله تعالى:
{ { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } [النجم: 1]، { { وَٱللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَٱلصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ } [المدثر: 33، 34]، { وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَٱللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } [الشمس: 2-4]، وما أشبهها فـ "إذا" ظرف مستقبل، لا جائز أن يكون العامل فيه فعل القسم المحذوف؛ لأنه فعل إنشائي، فهو في الحال ينافي أن يعمل في المستقبل لإطلاق زمان العامل زمان المعمول، ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف أقيم المقسم به مقامه أي وطلوع النجم، ومجيء الليل، لأنه معمول لذلك الفعل [فالطلوع حال، ولا يعمل فيه المستقبل ضرورة أن زمان المعمول زمان العامل ولا جائز أن يعمل فيه نفس المقسم به لأنه ليس من قبيل ما يعمل، سيما إن كان جزماً]، ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه، ويكون ذلك العامل في موضع الحال، وتقديره: والنجم كائناً إذا هوى والليل كائناً إذا يغشى، لأنه لا يلزم كائناً منصوباً بالعامل، ولا يصح أن يكون معمولاً لشيء مما فرضناه أن يكون عاملاً، وأيضاً، فقد يكون المقسم به جثة، وظروف الزمان لا تكون أحوالاً عن الجثث كما لا تكون أخباراً. انتهى ما رد به أبو حيان وما استشكله من أمر العامل في "إذا".
قال شهاب الدين: المختار أن حرف العطف لا يعمل لقيامه مقام العامل، فلا يلزم أبا القاسم لأنه يختار القول الآخر، وقوله "ليس ما في الآية من العطف على عاملين" ممنوع بل فيه العطف على عاملين ولكنه في غموض، وبيان أنه من العطف على عاملين، أن قوله: { وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا } - ها هنا -, معمولان، أحدهما مجرور وهو "النهار", والآخر منصوب, وهو الظرف عطفاً على معمول عاملين, والعاملان هنا في فعل المقسم به، الناصب لـ "إذا" الأولى، وواو القسم الجارة، فقد تحقق معك عاملان، لهما معمولان، فإذا عطفت مجروراً على مجرور، وظرفاً على ظرف، معمولين لعاملين، لزم ما قاله أبو القاسم، وكيف يجهل هذا مع التأمل والتحقيق؟!.
وأما قوله: "وأنشد سيبويه" إلى آخره، فهو اعتراف منه بأنه من العطف على عاملين، غاية ما في الباب أنه استند إلى حكمه لسيبويه، وأما قوله: أجاز ابن كيسان، فلا يلزم مذهبه، وأما قوله: فالمثال ليس كالآية بل وزانها، إلى آخره، فصحيح لما فيه من تقديم الظرف الثاني على المجرور والمعطوف والآية والظرف فيها متأخر، وإنما مراد الزمخشري وجود معمول عاملين، وهو موجود في المثال المذكور إلا أن في الآية إشكالاً آخر، وهو كالتكرير للمسألة، وأما قوله: بل كلام الخليل يدل على المنع، إلى آخره، فليس فيه ردٌّ عليه بالنسبة إلى قصده بل فيه تقوية لما قال، غاية ما في الباب أنه عبر بالاستكراه عن المنع، ولم يفهم المنع، وقوله: ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف، إلى آخره، فأقول: بل يجوز تقديره، وهو العامل، ولا يلزم ما قاله من اختلاف الزمانين، لأنه يجوز أن يقسم [الآن بطلوع النجم في المستقبل، فالقسم في الحال والطلوع في المستقبل، ويجوز أن يقسم] بالشيء الذي سيوجد وقوله "ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه" إلى آخره، ليس بممنوع بل يجوز ذلك ويكون حالاً مقدرة، وقوله "ويلزم ألاَّ يكون له عامل" ليس كذلك بل له عامل وهو فعل القسم، ولا يضر كونه إنشائياً، لأن الحال مقدرة كما تقدم، وقوله "وقد يكون المقسم به جثة" جوايه: يقدر حينئذ حدث، يكون الظرف الزماني حالاً عنه وسئل ابن الحاجب عن هذه المسألة، فأجاب بنحو ما ذكرناه والله اعلم، ولا يخلو الكلام فيها من بحث.
قوله: { وَٱللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا }. المفعول "الشمس": أي: يغشى الشمس فيذهب بضوئها عند سقوطها، قاله مجاهد.
وقيل: للأرض أي: يغشى الدنيا بالظلمة، فتظلم الآفاق فالكناية ترجع إلى غير مذكور. وجيء بـ "يَغْشَاهَا" مضارعاً دون ما قبله وما بعده مراعاة للفواصل؛ إذ لو أتى به ماضياً لكان التركيب "إذ غشيها" فتفوت المناسبة اللفظية بين الفواصل والمقاطع.
قوله: { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا }. في "ما" هذه وجهان:
أحدهما: أن "ما" موصولة بمعنى "الذي" وبه استشهد من يجوز وقوعها على العقلاء، ولأن المراد به الباري تعالى، وإليه ذهب الحسن ومجاهد وأبو عبيدة، واختاره ابن جرير.
والثاني: مصدر، أي وبنائها، وإليه ذهب الزجاج والمبرد، وهذا منهما بناء على أنها مختصة بغير العقلاء.
واعترض على هذا القول بأنه يلزم أن يكون القسم بنفس المصادر: بناء السماء وطحو الأرض، وتسوية النفس، وليس المقصود إلاَّ القسم بفاعل هذه الأشياء، وهو الرب تعالى، وأجيب عنه بوجهين:
أحدهما: أن يكون على حذف مضاف، أي: ورب بناء السماء ونحوه.
والثاني: أنه لا غرو لا يجوز في الإقسام بهذه الأشياء، كما أقسم سبحانه وتعالى بالصبح ونحوه.
وقال الزمخشري: "جعلت "ما" مصدرية في قوله "وما بناها"، "وما طحاها"، "وما سواها"، وليس بالوجه، لقوله "فألهمها"، وما يؤدي إليه من فساد النظم، والوجه أن تكون موصولة، وإنما أوثرت على "من" لإرادة معنى الوصفية، كأنه قيل: والسماء والقادر العظيم الذي بناها، ونفسٍ والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها، وفي كلامهم: سبحان من سخركن لنا" انتهى.
[يعني أن الفاعل في "فألهمها" عائد على الله تعالى، فليكن في بنائها كذلك].
وحينئذ يلزم عوده على شيء، وليس هنا ما يمكن عوده عليه غير "ما" فتعين أن تكون موصولة.
قال أبو حيان: "أما قوله "وليس بالوجه"، لقوله تعالى: { فَأَلْهَمَهَا } يعني من عود الضمير في { فَأَلْهَمَهَا } على الله تعالى، فيكون قد عاد على مذكور، وهو "ما" المراد به "الذي"، قال: ولا يلزم ذلك، لأنا إذا جعلناها مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من سياق الكلام، في "بَنَاهَا" ضمير عائد على الله تعالى، أي: وبناها هو، أي: الله تعالى، كما إذا رأيت زيداً قد ضرب عمراً، فتقول: عجبت مما ضرب عمرو، تقديره: من ضرب عمرو هو، كان حسناً فصيحاً جائزاً، وعود الضمير على ما يفهمُ من سياق الكلام كثير.
وقوله "وما يؤدي إليه من فساد النظم" ليس كذلك، ولا يؤدي جعلها مصدرية إلى ما ذكر.
وقوله "وإنما أوثرت" إلى آخره، لا يراد بـ "ما" ولا "من" الموصولتين، معنى الوصلية، لأنهما لا يوصف بهما "ما" دون "من".
وقوله "في كلامهم" إلى آخره، تأوله أصحابنا على أن "سبحان" علم، و "ما" مصدرية ظرفية".
قال شهاب الدين: أما ما رد به عليه من كونه يعود على ما يفهم من السياق، فليس يصلح رداً؛ لأنه إذا دار الأمر بين عوده على ملفوظ وبين غير ملفوظ به، فعوده على الملفوظ به أولى؛ لأنه الأصل وأما قوله: فلا ينفرد به "ما" دون "من"، فليس مراد الزمخشري أنها توصف بها وصفاً صريحاً، بل مراده أنها تقع على نوع من يعقل وعلى صفته، ولذلك مثل النحويون بقوله تعالى:
{ { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ } [النساء: 3].
وقالوا: تقديره: فانكِحُوا الطَّيِّب من النِّساءِ، ولا شك أن هذا الحكم تنفرد به "ما" دون "من".
قوله: { وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا }. أي: وطحوها، وقيل: من طحاها: أي بسطها، قال عامة المفسرين: أي دحاها.
قال الحسن ومجاهد وغيرهما: طحاها ودحاها: واحد، أي: بسطها من كل جانب.
والطَّحْوُ: البسطُ، طحا، يطحو، طحواً، وطحى يطحى طحياً، وطحيت: اضطجعت، عن أبي عمرو، وعن ابن عباس: طحاها: أي قسمها، وقيل: خلقها؛ قال الشاعر: [الوافر]

5220- ومَـا تَـدْرِي جَذيمـةُ مَـنْ طَحـاهَـا ولا مَـنْ سَاكِـنُ العَرْشِ الرَّفيعِ

قال الماوردي: ويحتمل أنه ما خرج منها من نبات وعيون وكنوز؛ لأنه حياة لما خلق عليها.
ويقال في بعض أيمان العرب: لا، والقمر الطاحي، أي: المشرق المرتفع.
قال أبو عمرو: طحا الرجل إذا ذهب في الأرض، يقال: ما أدري أين طحا؟.
ويقال: طحا به قلبه، إذا ذهب به كلِّ شيء؛ قال علقمة: [الطويل]

5221- طَحَا بِكَ قَلبٌ في الحِسانِ طَرُوب …................................

قال ابن الخطيب: وإنما أخر هذا عن قوله تعالى: { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } لقوله: { { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [النازعات: 30].
قوله: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا }. قيل: المعنى، وتسويتها، فـ "ما" مصدرية.
وقيل: المعنى، ومن سواها، وهو الله تعالى، قيل: المراد بالنفس: آدم عليه الصلاة والسلام.
وقيل: كلُّ نفس منفوسةٍ، فما التنكير إلا لتعظيمها، أي نفس عظيمة، آدم عليه الصلاة والسلام وإما للتكثير، كقوله تعالى:
{ { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [التكوير: 14]، و "سوَّى" بمعنى هيأ.
وقال مجاهد: سوَّى خلقها وعدَّل، وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم، أي أقسم الله تعالى بخلقه لما فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه - سبحانه وتعالى -.
قوله: { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا } أي: عرَّفها طريقَ الفجور والتقوى، قاله ابن عباس ومجاهد.
وعن مجاهد أيضاً: عرفها الطاعة والمعصية.
[وعن محمد بن كعب - رضي الله عنه - إذا أراد الله تعالى لعبده خيراً ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به الشر ألهمه الشرّ فعمل به.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ألهم المؤمن التقي تقواه وألهم الكافر فجوره، وعن قتادة: بين لها فجورها وتقواها، والفجور والتقوى مصدران في موضع المفعول].
قال الواحدي: الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئاً، وإذا أوقع في قلبه فقد ألزمه إياه، من قولهم: لهم الشيء وألهمه: إذا بلغه، وألهمته ذلك الشيء، أي أبلغته، هذا هو الأصل ثم استعمل ذلك فيما يقذفه الله تعالى في قلب العبد لأنه كالإبلاغ.
قوله: { قَدْ أَفْلَحَ }. فيه وجهان:
أحدهما: أنه جواب القسم، والأصل: لقد وإنما حذفت لطول الكلام، والثاني: أنه ليس بجواب، وإنما جيء به تابعاً لقوله تعالى: { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء، فالجواب محذوف، تقديره [ليدمرن] الله عليهم، أي: على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحاً - عليه الصلاة والسلام - قال معناه الزمخشري. وقدر غيره: لتبعثن.
وقيل: هو على التقديم والتأخير بغير حذف، والمعنى: قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، والشمس وضحاها.
وفاعل "زكّاها" و "دسّاها"، الظاهر أنه ضمير "مَنْ".
وقيل: ضمير الباري تعالى، أي: أفلح وفاز من زكاها بالطاعة، وقد خاب من دساها أي: خسرت نفسٌ دسها الله تعالى بالمعصية، وأنحى الزمخشري على صاحب هذا القول لمنافرته مذهبه.
قال شهاب الدين: والحق أنه خلاف الظاهر، لا لما قال الزمخشري، بل لمنافرة نظمه للاحتياج إلى عود الضمير على النفس مقيدة بإضافتها إلى ضمير "من".
وقال ابن عباس: خابت نفس أضلها الله وأغواها.
وقيل: أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، "وخاب" خسر من دس نفسه في المعاصي. قاله قتادة.
وأصل الزكاة: النمو والزيادة، ومنه تزكى الزَّرع إذا كثر معه، ومنه تزكية القاضي الشاهد، لأنه يرفعه بالتعديل.
وقيل: دساها: أغواها، قال: [الطويل]

5222- وأَنْتَ الَّـذِي دسَّيْـتَ عَمْــراً فأصْبَحــتَ حَلائِلهُ مِنْهُ أرَامِلَ ضُيَّعَا

قال أهل اللغة: والأصل، دسها، من التدسيس فكثرت الأمثال فأبدل من ثالثها حرف علة كما قالوا: قصيت أظفاري، وأصله قصصت، وتقضي البازي، والتدسية: الإخفاء يعني أخفاه بالفجور، وقد نطق بالأصل الشاعر المتقدم. وقال آخر: [الكامل]

5223- ودَسَسْتَ عَمْراً في التُّرَابِ فأصْبَحَتْ ….....................................

[وهو إخفاء الشيء في الشيء، فأبدلت سينه ياءً. وقال ابن الأعرابي: "وقَدْ خَابَ من دسَّاهَا" أي: دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم].
قال الواحدي: فكأنه - تعالى - أقسم على فلاح من طهره وخسارة من خذله لئلا يظن أن المراد بتولي ذلك من غير قضاء سابق، فقوله: "قَدْ أفلَحَ": هو جواب القسم.