التفاسير

< >
عرض

إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ
١٢
وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَٱلأُولَىٰ
١٣
فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ
١٤
لاَ يَصْلَٰهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى
١٥
ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
١٦
وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى
١٧
ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ
١٨
وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ
١٩
إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ
٢٠
وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ
٢١
-الليل

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ }، أن نبين طريق الهدى، من طريق الضلال، فالهدى بمعنى بيان الأحكام قاله الزجاجُ: أي: على الله بيان حلاله، وحرامه، وطاعته ومعصيته، وهو قول قتادة.
وقال الفراءُ: من سلك الهدى، فعلى الله سبيله، كقوله تعالى:
{ { وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } [النحل: 9]، وقيل: معناه إنَّ علينا للهدى والإضلال، فترك الإضلال كقوله تعالى: { { بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ } [آل عمران: 26]، وقوله تعالى: { { تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [النحل: 81] وهي تقي الحرَّ وهي تقي البرد، قاله الفراء أيضاً. وهو يروي عن ابن عباس رضي الله عنه.
فصل
لما عرفهم سبحانه أن سعيهم شتى، وبين ما للمحسنين من اليسرى، وللمسيئين من العسرى أخبرهم أنه قد مضى ما عليه من البيان، والدلالة، والترغيب، والترهيب، أي: أن الذي يجب علينا في الحكمة إذا خلقنا الخلق للعبادة أن نبين لهم وجوه التعبد، ونبين المتعبد به.
قالت المعتزلة: إباحة الأعذار تقتضي أنه تعالى كلفهم بما في وسعهم وطاقتهم.
وأيضاً فكلمة "على" للوجوب، وأيضاً: فلو لم يستقل العبد بالإيجاد، لم يكن في نصب الأدلة فائدة، وجوابهم قد تقدم.
وزاد الواحديُّ: أن الفراء، قال: إن معنى: إن علينا للهدى والإضلال، فحذف المعطوف كقوله تعالى:
{ { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [النحل: 81]، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما، يريد: أرشد أوليائي للعمل بطاعتي، وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي، وهو معنى الإضلال، ورد المعتزلة هذا التأويل بقوله تعالى: { { وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ } [النحل: 9]، وتقدم جوابهم.
قوله تعالى: { وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَٱلأُولَىٰ }، أي: لنا كل ما في الدنيا، والآخرة، فلا يضرنا ترككم الاهتداء بهدانا، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤكم بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم، ولو شئنا لمنعناكم عن المعاصي لكن ذلك يخل بالتكليف، بل نمنعكم بالبيان والتعريف، والوعد والوعيد، ونكون نحن نملك الدارين، فليطلب منا سعادة الدارين؛ فالأول أوفق لقول المعتزلة، والثاني أوفق لقولنا.
وروى أبو صالح عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ثواب الدنيا والآخرة، وهو كقوله تعالى:
{ { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } [النساء: 134] فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق.
قوله: { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ }. قد تقدم في "البقرة": أن البزي يشدد مثل هذه التاء، والتشديد فيها عسر لالتقاء الساكنين فيهما على غير حدهما، وهو نظير قوله تعالى:
{ { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } [النور: 15] وقد تقدم.
وقال أبو البقاء: يقرأ بكسر التنوين، وتشديد التاء، وقد ذكر وجهه في قوله تعالى:
{ { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ } [البقرة: 267] انتهى. وهذه قراءة غريبة، ولكنها موافقة للقياس من حيث إنه لم يلتق فيها ساكنان وقد ذكر وجهه، أي الذي قاله في "البقرة"، ولا يفيد هنا شيئاً ألبتة فإنه قال هناك: "ويقرأ بتشديد التاء، وقبله ألف، وهو جمع بين ساكنين، وإنام سوغ ذلك المد الذي في الألف.
وقال ابنُ الزبير، وسفيان، وزيد بن علي، وطلحة، "تَتَلظَّى" بتاءين وهو الأصل.
قال القرطبي: "وهي قراءة عبد الله بن عمير ويحيى بن يعمر".
فصل في معنى الآية
المعنى: خوفتكم، وحذرتكم ناراً تلظى، أي: تلهّب، وتوقّد، وتوهّج، يقال: تلظت النار تلظياً، ومنه سميت جهنم: لظى.
قوله تعالى: { لاَ يَصْلاَهَآ }، أي: لا يجد صلاها، وهو حرها { إِلاَّ ٱلأَشْقَى }، أي: الشقي.
قيل: الأشقى، والأتقى، بمعنى الشقي والتقي، ولا تفضيل فيهما، لأن النار مختصة بالأكثر شقاء، وتجنبها ليس مختصاً بالأكثر تقوى.
وقيل: بل هما على بابهما، وإليه ذهب الزمخشريُّ، فإنه قال: فإن قلت: كيف قال: { لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى } { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى }، وقد علم أن كلَّ شقي يصلاها، وكل تقي يجنبها، لا يختص بالصليّ أشقى الأشقياء، ولا بالنجاة أتقى الأتقياء، وإن زعمت أنه نكَّر النار، فأراد ناراً بعينها مخصوصة بالأشقى، فما تصنع بقوله { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى } فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة، لا الأتقى منهم خاصة.
قلت: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين، وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين؛ فقيل: الأشقى، وجعل: مختصاً بالصلي كأن النار لم تخلق إلا له. وقيل: الأتقى، وجعل مختصاً بالنجاة، كأن الجنة لم تخلق إلا له، وقيل: هما أبو جهل وأمية وأبو بكر - رضي الله عنه.
قال: جوابه المراد بهما شخصان معينان. انتهى.
فصل
قال المفسرون: المراد بالأشقى، والشقي: الذي "كذَّب" نبي الله صلى الله عليه وسلم "وتولَّى" أعرض عن الإيمان.
وقال الفرَّاء: معناه إلاَّ مَنْ كان شقياً في علمِ الله تعالى.
قال بعضهم: "الأشقَى" بمعنى الشقي؛ كقوله: [الطويل]

5229- ……...............................لَسْـتُ فِيهَــا بأوْحَــدِ

"بأوحد"، أي: بواحد، ووحيد، ويوضع "أفعل" موضع "فعيل" نحو قولهم: "اللهُ أكْبَرُ" بمعنى كبير وهو أهون عليه بمعنى هين، قالت المرجئة: الآية تدل على أن الوعيد مختص بالكافر.
والجواب: المعارضة بآيات الوعيد.
وأيضاً: فهذا إغراء بالمعاصي، وأيضاً، فقوله تعالى بعده: { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى } يدل على ترك هذه الظاهرة؛ لأن الفاسق ليس "بأتقى" فالمراد بقوله تعالى: { نَاراً تَلَظَّىٰ } أنها مخصوصة من بين النيران؛ لأن النار دركات، ولا يلزم من هذا أنَّ الفاسق لا يدخل النَّار أصلاً، والمراد لا يصلاها بعد الاستحقاق.
وأجاب الواحديُّ: بأن معنى "لا يَصْلاَهَا": لا يلزمها، وهذه الملازمة لا تثبت إلا للكافر.
قوله: { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى }، أي: يبعد عنها الأتقى، أي: التقي الخائف.
قال ابن عباس: وهو أبو بكر - رضي الله عنه -، ثم وصف الأتقى، فقال سبحانه: { ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ } أي: يطلب أن يكون عند الله زاكياً، ولا يطلب بذلك رياء، ولا سمعةً بل يتصدق به مبتغياً به وجه الله.
قوله: "يَتَوكَّى". قرأ العامة: "يتزكّى" مضارع "تَزَكَّى".
والحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -: "يزكَّى" بإدغام الياء في الزاي، وفي هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها في موضع الحال من فاعل "يُؤتِي"، أي: يؤتيه متزكياً به.
والثاني: أنها لا موضع لها من الإعراب على أنها بدل من صلة "الَّذي"، ذكرهما الزمخشري.
قوله تعالى: { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ }، أي: ليس يتصدق ليجازى على نعمة بل يبتغي وجه ربه الأعلى، أي: المتعالي، و "تجزى" صفة لـ "نِعْمَة"، أي: يجزى الإنسان، وإنَّما جيء به مضارعاً مبنياً للمفعول، لأجل الفواصل؛ إذ الأصل: يجزيها إياه أو يجزيه إياها.
قوله: { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ }. في نصب "إلاَّ ابتِغَاءَ" وجهان:
أحدهما: أنه مفعول له قال الزمخشري: "ويجوز أن يكون مفعولاً له على المعنى؛ لأن المعنى: لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه، لا لمكافأة نعمة". وهذا أخذه من قول الفراء، فإنه قال: ونصب على تأويل: ما أعطيتك ابتغاء جزائك، بل ابتغاء وجه الله تعالى.
والثاني: أنه منصوب على الاستثناء المنقطع، إذ لم يندرج تحت جنس "مِنْ نِعْمَةٍ" وهذه قراءة العامة، أعني: النصب، والمد.
وقرأ يحيى: برفعه ممدوداً على البدل من محل "نِعْمَةٍ"؛ لأن محلها الرفع، إما على الفاعلية، وإما على الابتداء، و "من" مزيدة في الوجهين، والبدل لغة تميم؛ لأنهم يجرون المنقطع في غير الإيجاب مجرى المتصل، وأنشد الزمخشري بالوجهين: النصب؛ والبدل قول بشر بن أبي خازم: [البسيط]

5230- أضْحَتْ خَلاَءً قِفَاراً لا أنِيَ بِهَا إلاَّ الجَآذِرَ والظُّلْمَانَ تَخَتَلِفُ

وقول القائل في الرفع: [الرجز]

5231- وبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أنيسُ إلاَّ اليَعافِيرُ وإلاَّ العيسُ

وفي التنزيل: { { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [النساء: 66].
وقال مكي: "وأجاز الفَرَّاءُ الرفع في "ابتغاء" على البدل في موضع "نعمة"، وهو بعيد".
قال شهاب الدين: "كأنه لم يطلع عليها قراءة، واستبعاده هو البعيد، فإنها لغة فاشية".
وقرأ ابن أبي عبلة: "ابتغا" بالقصر.
فصل في سبب نزول الآية
روى عطاء، والضحاك عن ابن عباس، قال:
"عذَّب المشركون بلالاً، وبلال يقول: أحدٌ أحدٌ فمرَّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحَدٌ، يعني اللهُ يُنْجِيْكَ بِهَا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ - رضي الله عنه -: يا أبا بكرٍ إنَّ بلالاً يُعذَّبُ في اللهِ، فعرفَ أبو بكرٍ الذي يُرِيدُهُ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فانصرفَ إلى مَنْزلهِ، فأخذَ رَطْلاً مِنْ ذهبٍ ومضى به إلى أمية بن خلفٍ، فقال له: أتبيعني بلالاً؟ قال: نعم، فاشتراه، فأعتقه أبو بكر - رضي الله عنه - لا ليدٍ كانت له عنده" ، فنزلت { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ }، أي: عند أبي بكر "مِنْ نَعْمَةٍ" أي: مزية ومنّةٍ "تُجْزَى" بل ابتغى بما فعل وجه ربِّه الأعلى.
قال بعضهم: المراد ابتغاء ثوابه وكرامته لأن ابتغاء ذاته محال، وقال بعضهم: لا حاجة إلى هذا الإضمار، بل حقيقة هذه المسألة ترجع إلى أن العبد هل يمكن أن يحب ذات الله، والمراد من هذه المحبة ذاته، وكرامته. ذكره ابن الخطيب.
والأعلى من نعت الربِّ الذي استحق صفات العلو، ويجوز أن يكون ابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة].
قوله: { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ }. هذا جواب قسم مضمر، والعامة: على "يَرضَى" مبنياً للفاعل وقرئ: ببنائه للمفعول، من أرضاه الله تعالى.
[وهو قريب من قوله تعالى في آخر سورة طه
{ { لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ } [طه: 130].
ومعنى الآية: سوف يعطيه الله تعالى في الجنَّة ما يرضى، بأن يعطيه أضعاف ما أنفق.
قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجه آخر، وهو أن المراد أنه إنما طلب رضوان الله تعالى، وليس يرضى الله عنه، قال: وهذا أعظم من الأول؛ لأن رضا الله أكمل للعبد من رضاه عن ربِّه، والله أعلم.
روى الثعلبيُّ عن أبي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ قَرَأَ سُورَةَ { وَٱلْلَّيْلِ } أعْطَاهُ اللهُ حتَّى يَرْضَى، وعافاهُ اللهُ تعالى من العُسْرِ، ويسَّر لهُ اليُسْرَ" .
قال الثعلبي: وإذا ثبت نزولها بـ "مكة" ضعف تأويلها بقصة أبي الدحداح، وقوي تأويلها بنزولها في حق أبي بكر - رضي الله عنه - لأنه كان بـ "مكة"، وإنفاقه بـ "مكة" وقصة أبي الدحداح كانت بالمدينة.
وروي عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"رحم اللهُ أبا بَكْرٍ، زوَّجنِي ابنَتُه، وحَملنِي إلى دَارِ الهِجْرَةِ، وأعْتَقَ بلالاً مِنْ مَالهِ" . والله أعلم.